صفحة جزء
[ ص: 538 ]

الرابع الصوت : عرض مسموع . واللفظ : صوت معتمد على مخرج من مخارج الحروف . والكلمة : لفظ وضع لمعنى مفرد ، والأجود لفظ استعمل . وجمعها كلم مفيدا أو غير مفيد . وهي جنس أنواعه : اسم وفعل وحرف ، ولقسمتها طرق كثيرة .


قوله : " الرابع " ، أي : البحث الرابع من أبحاث اللغة .

الصوت واللفظ والكلمة

قوله : " الصوت عرض مسموع " ، هذا ذكر لجملة من أحكام اللغة وأجزائها من أول مبادئها ، وهكذا رسم الصوت بأنه عرض مسموع ، يحصل عن اصطكاك الأجرام ، وسببه انضغاط الهواء بين الجرمين ، فيتموج تموجا شديدا ، فيخرج فيقرع صماخ الأذن ، فتدركه قوة السمع ، ولهذا تختلف الأصوات في الظهور والخفاء ، لاختلاف الأجسام المتصاككة في الصلابة والرخاوة ، فالصوت الحاصل عن وقوع البرد على الحجر أقوى وأظهر من الحاصل من وقوع المطر على الأرض اللينة أو التراب الثائر ، والصوت الحاصل عن وقوع المطرقة على السندان أظهر من الحاصل عن وقوع جزة صوف منقوش على مثلها .

فأما صوت المتكلم ، فهو أيضا عرض حاصل عن اصطكاك أجرام الفم - وهي مخارج الحروف - ودفع النفس الهواء حتى يصل إلى أذن السامع ، متكيفا بصورة كلام المتكلم .

وقولنا : الصوت عرض ، هو جنس له ، يتناول جميع الأعراض الحيوانية وغيرها ، [ ص: 539 ] كالحركات والألوان والطعوم .

وقولنا : مسموع ، خرجت جميعها ، إلا العرض الذي يدرك بالسمع - وهو الصوت - وإنما بدأنا بالصوت لأنه الجنس الأعلى للكلام الذي نحن بصدد الكلام فيه في البحث .

قوله : " واللفظ معتمد على مخرج من مخارج الحروف " .

اعلم أن اللفظ في أصل الوضع مصدر لفظت الشيء ألفظه لفظا : إذا ألقيته نابذا له ، ثم سمي به الصوت المعتمد على مخارج الحروف ، لأن الصوت لخروجه من الفم صار كالجوهر الملفوظ الملقى ، فهو ملفوظ حقيقة أو مجازا ، فإطلاق اللفظ عليه تسمية للمفعول باسم المصدر ، كتسمية الثوب المنسوج نسجا ، والدرهم المضروب ضربا في قولهم : هذا الثوب نسج اليمن ، وهذا الدرهم ضرب الأمير .

إذا عرفت هذا ، فاللفظ الاصطلاحي نوع للصوت ، لأنه صوت مخصوص ، ولهذا أخذ الصوت في حد اللفظ ، وإنما يؤخذ في الشيء جنس ذلك الشيء .

ومخارج الحروف ستة عشر مذكورة في كتب العربية وغيرها . ومعنى اعتماد الصوت على المخرج هو أن الصوت هواء يصحب النفس من الجوف ، ولهذا إذا أمسك حلق الإنسان ، انقطع صوته ، لانقطاع مادة الهواء الصاعد من الجوف [ ص: 540 ] إلى الفم ، فإذا وصل ذلك الهواء إلى الأماكن المخصوصة من الفم والحلق ، المسماة بمخارج الحروف ، يقطع عندها تقطيعا مخصوصا ، لأنها تمنعه عن خروجه على استقامته ، فتظهر الحروف عند ذلك التقطيع ، ولذلك قالوا : الألف حرف هوائي لا مخرج له ، لأن النفس يخرج بها مستقيما لا عائق له ، بخلاف الحاء والهاء والهمزة ونحوها من حروف الحلق ، فإن العائق يعرض للنفس في الحلق ، فتظهر هذه الحروف ، والباء والواو والميم والفاء يعرض العائق للنفس فيها في الشفتين فتظهر ، فلذلك سميت هذه الحروف : الشفوية ، والأولى : الحروف الحلقية .

وقولنا : " اللفظ صوت معتمد على مخرج من مخارج الحروف " ، ظاهره يقتضي أن كل صوت اعتمد على مخرج واحد من المخارج يكون لفظا ، وهو إنما يتناول حروف الهجاء المفردة ، نحو : ب ت ث ، ونحوه ، ويخرج منه ما تركب منها من اسم أو فعل أو حرف ، نحو : زيد قام في الدار ، لأن الاعتماد فيها على أكثر من مخرج واحد ، وإنما المراد بالمخرج القدر المشترك بين المخرج الواحد وجميع المخارج ، وهو بعض المخارج ، فإن صرح به هكذا : اللفظ صوت معتمد على بعض مخارج الحروف ، فهو أجود وأبين .

قوله : " والكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد " .

هذا حد الكلمة الذي ذكره ابن الحاجب ، وخطر لي أن قوله : لفظ وضع لمعنى ، يقتضي بظاهره اختصاصه بالكلمات التي هي حقائق وضعية ، كالأسد في السبع ، لأنه وضع له دون الكلم المجازية ، كالأسد للشجاع ، لأنه لم يوضع له ، فمقتضى قوله : أن لا يكون كلمة ، وهو كلمة بلا خلاف ، فلذلك قلت : " والأجود [ ص: 541 ] لفظ استعمل " أي : الأجود أن يقال : الكلمة لفظ استعمل في معنى مفرد ، ليتناول ما وضع لمعنى بطريق الحقيقة ، وما نقل إلى غير موضوعه بطريق المجاز ، لأن الاستعمال أعم من الوضع ، فإن كان ابن الحاجب أراد بقوله : وضع ، الوضع الأول الحقيقي ، ورد عليه كل لفظ مجازي ، وإن كان أراد به الاستعمال كما ذكرنا ، فالتصريح به كما قلنا أولى ، لما عرف من وجوب صيانة الحدود عن الأجمال والإبهام . غير أن ما ذكرناه يرد عليه الألفاظ فيما بين وضعها واستعمالها ، وأنها لا تكون حينئذ كلمات ، لكن الخطب فيها يسير ، ويمكننا التزام ذلك ، وأن الاستعمال شرط في كونها كلمة ، كما كان شرطا في كونها حقيقة أو مجازا .

إذا عرفت هذا ، فالكلمة نوع للفظ ، لأنه مأخوذ في حدها ، كما أخذ الصوت في حد اللفظ .

واختلف في قوله : مفرد ، هل هو مجرور على النعت لمعنى ، أو مرفوع على النعت للفظ . وتقديره : الكلمة لفظ وضع لمعنى . وفي هذا كلام طويل ، لا يتعلق به الغرض هاهنا .

قوله : " وجمعها " ، أي : جمع الكلمة ، " كلم " ، ونظيره : لبنة ولبن ، ونبقة ونبق ، وثفنة وثفن بالثاء المثلثة والفاء ، وهي ما يقع على الأرض من أعضاء البعير إذا برك ، وتجمع أيضا هي ونظائرها بالألف والتاء ، نحو : كلمات ، ولبنات ، ونبقات ، وهذا جمع تصحيح ، والأول أولى .

قوله : " مفيدا " كان " أو غير مفيد " ، أي : الكلم الذي هو جمع الكلمة : يطلق على المفيد ، نحو : زيد قائم في الدار ، وعلى غير المفيد ، نحو : " زيد " " هل " " قد " [ ص: 542 ] " من " " إلى " " قام " " قعد " .

قوله : " وهي " يعني الكلمة " جنس أنواعه : اسم وفعل وحرف . ولقسمتها " ، أي لهذه الأقسام الثلاثة " طرق كثيرة " ، أما كون الكلمة جنسا للاسم والفعل والحرف ، فلأنها توجد في حد كل واحد من الثلاثة ، فيقال :

الاسم : كلمة دلت على معنى في نفسها غير مقترنة بزمان ذلك المعنى .

والفعل : كلمة دلت على معنى في نفسها وعلى زمان ذلك المعنى ، نحو : قام يقوم .

والحرف : كلمة لا تدل على معنى إلا في غيرها .

وكل ما أخذ في حد شيء ، فهو جنس له كما سبق ، ولأن القاعدة أن الجنس أعم من نوعه ، والنوع أخص من جنسه ، ولا شك أن الكلمة أعم من كل واحد من الاسم والفعل والحرف ، وكل واحد منها أخص من الكلمة ، إذ كل اسم أو فعل أو حرف ، فهو كلمة ، وليس كل اسما ، لجواز أن تكون فعلا أو حرفا ، ولا فعلا ، لجواز أن تكون اسما أو حرفا ، ولا حرفا ، لجواز أن تكون اسما أو فعلا . وهذا يدل على أن الكلمة جنس للأقسام الثلاثة ، وأيضا فإن كل جنس قسم إلى أنواعه ، أو نوع قسم إلى أشخاصه ، فاسم المقسوم صادق على المقسوم إليه ، كالحيوان المقسم إلى ناطق وغيره ، وكلاهما حيوان ، والإنسان المقسوم إلى زيد وعمرو [ ص: 543 ] وبكر وغيرهم من الأشخاص ، وكلهم إنسان ، والكلمة صادقة على كل واحد من الاسم والفعل والحرف ، فهي جنس لها ولكل واحد منها . وهذا استدلال باللازم المساوي ، لأن الجنس يستلزم صحة انقسامه إلى الأنواع ، والانقسام إلى الأنواع يستلزم صدق إطلاق اسم المقسوم إلى المقسوم إليه .

وأما أن لقسمة الكلمة إلى الاسم والفعل والحرف طرقا كثيرة ، فلأن من تلك الطرق :

الطريقة الأولى ، المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، الذي أنشأ العربية ، وهي أن اللفظ والكلمة ، إما أن يدل على ذات ، أو على حركة ذات ، أو على رابطة بينهما .

فالأول : الاسم ، كزيد وعمرو .

والثاني : الفعل ، كقام وقعد ، لأن الأفعال الحقيقة كالقيام والقعود حركات الأجسام ، والأفعال المجازية ، نحو : رخص السعر ، وسهل الأمر ، ونحو ذلك ملحق .

والثالث : الحرف ، نحو " من " و " إلى " و " قد " و " هل " لأنه إنما أتي به ليربط بين الأسماء والأفعال ، ونحو ذلك من المعاني . [ ص: 544 ]

ومنها : طريقة ابن الحاجب ، وهي أن الكلمة إما أن تدل على معنى في نفسها أو لا ، فإن دلت ، فإما أن لا تدل على زمن ذلك المعنى أو تدل ، فالأول : الاسم ، والثاني : الفعل ، والثالث : الحرف ، وهذا على مراعاة مراتب الأقسام الثلاثة .

أما مع مراعاة ذلك فيقال : الكلمة إما أن لا تدل على معنى في نفسها وهو الحرف ، أو تدل ، فإما مع الدلالة على زمان المعنى ، وهو الفعل ، أو عدم الدلالة عليه ، وهو الاسم .

ومنها : طريقة الآمدي : وهي أن اللفظ إما أن يصح تركب القضية الخبرية من جنسه أو لا ، فإن صح ، فهو الاسم ، كقولنا : زيد قائم . قد تركبت القضية من اسمين ، وجنسهما واحد ، وإن لم يصح تركب القضية من جنسه ، فإما أن يصح أن يكون ركنا فيها أو لا ، فإن صح ، فهو الفعل ، لأنه لا يصح تركب الجملة المفيدة منه ، كقولنا : قام قام ، أو قام قعد ، ويصح أن يكون ركنا فيها ، نحو : قام زيد ، وقعد عمرو ، إذ الفعل أحد ركني الجملة الفعلية ، وإن لم يصح أن يكون ركنا فيها ، فهو الحرف .

ومنها : طريقة ابن الأنباري وغيره في الدلالة على انحصار أنواع الكلمة ، بل أجزاء الكلام في الأقسام الثلاثة ، وهو أنه لو لم تكن منحصرة في الأقسام الثلاثة ، لاختل مقصود التفاهم بالزيادة أو النقص ، لكن مقصود التفاهم لم يختل بشيء من ذلك ، فدل على انحصار أجزاء الكلام في الكلم الثلاث . وذلك أن مقصود التفاهم حصول ألفاظ مطابقة لما في النفوس ، يعبر بها عنه ، فلو لم تنحصر أجزاء [ ص: 545 ] الكلام في الأقسام الثلاثة ، لكانت إما أربعة فصاعدا ، فيبقى في اللغة جزء لا حاجة إليه ، فتكون زيادته عبثا ، لأنه خارج عن محل الضرورة ، وما خرج عن محل الضرورة يكون عبثا . وإما اثنين فأقل ، فيبقى بعض أغراض النفوس لا يعبر عنه ، فيكون تقصيرا عن الوفاء بالضرورة ، وهو خلل في الحكمة ، فلما رأينا هذه الأقسام وافية بالتعبير عما في النفوس ، من غير إفراط بزيادة ، ولا تفريط بنقص ، دل على انحصارها فيها .

ومنها : طريقة ذكرها الشيخ عبد الواحد الكوفي في كلامه على الجمل ، واستضعفها . ووجه استضعافها أنها غير حاصرة ، لأن القسمة العقلية تقتضي قسما رابعا ، وهو المخبر عنه لا به .

قلت : هو كذلك ، لكن هذا إنما ترك لعدم تصوره ، لا لكونه أهمل ذكره مع إمكانه . ووجه عدم تصوره أن كل مخبر عنه يصح أن يخبر به ولا عكس ، فالمخبر عنه أخص من المخبر به ، فلو وجد المخبر عنه بدون المخبر به ، لوجد الأخص بدون الأعم ، وهو محال ، ويتضح هذا بأن يجعل مكان الإخبار الإسناد ، فنقول : اللفظ إما أن يصح أن يكون مسندا ، ومسندا إليه ، وهو الاسم ، أو لا مسندا ولا مسندا إليه ، وهو الحرف ، أو مسندا إليه ، وهو الفعل ، أو مسندا إليه لا مسندا ، وهو محال ، لأن كل مسند إليه يصح أن يكون مسندا إلى مثله ، أو أقوى منه ، وليس كل مسند يصح [ ص: 546 ] أن يكون مسندا إليه ، لجواز أن يحتاج لضعفه إلى أن يسند ، ويضعف لذلك عن أن يسند إليه . واعتبر ذلك بالمحسوسات ، فالمسند إليه أخص من المسند ، فلو وجد المسند إليه بدون صحة كونه مسندا ، لزم وجود الأخص بدون الأعم ، وهو محال .

التالي السابق


الخدمات العلمية