صفحة جزء
[ ص: 553 ]

والكلام : نص ، وظاهر ، ومجمل . فالنص لغة : الكشف والظهور ، ومنه نصت الظبية رأسها ، أي : رفعته وأظهرته ، ومنه منصة العروس . واصطلاحا : الصريح في معناه ، وقيل : ما أفاد بنفسه من غير احتمال .

وحكمه ، أن لا يترك إلا بنسخ ، وقد يطلق على ما تطرق إليه احتمال يعضده دليل ، وعلى الظاهر ، ولا مانع منه ، إذ الاشتقاق المذكور يجمعهما .


قوله : " والكلام نص وظاهر ومجمل " .

قلت : انتهى ما كان اتفق ذكره من كليات مباحث العربية ومقدماتها ، والكلام من الآن في مباحث أصولية ، أعني : شأنها في العادة أن تذكر في الأصول ، وإن كان موضوعها الألفاظ ، فهي كأنها ذات وجهين : من جهة العادة أصولية ، ومن جهة التحقيق لغوية .

ووجه انحصار الكلام في النص والظاهر والمجمل : هو أن اللفظ إما أن يحتمل معنى واحدا فقط ، أو يحتمل أكثر من معنى واحد ، والأول النص ، والثاني : إما أن يترجح في أحد معنييه أو معانيه ، وهو الظاهر ، أو لا يترجح ، وهو المجمل .

قوله : " فالنص لغة : الكشف والظهور " إلى آخره .

أي : النص في اللغة هو ما ذكر " ومنه : نصت الظبية رأسها ، أي : رفعته وأظهرته ، ومنه : منصة العروس " : وهو الكرسي الذي تجلس عليه لظهورها عليه .

قلت : النص في اللغة : هو الرفع إلى غاية ما ينبغي . قال الجوهري : قولهم نصصت ناقتي ، قال الأصمعي : النص : السير الشديد حتى يستخرج أقصى ما [ ص: 554 ] عندها ، قال : ولهذا قيل : نصصت الشيء : رفعته ، ومنه منصة العروس ، ونصصت الحديث إلى فلان ، أي : رفعته ، ومنه قول امرئ القيس :


وجيد كجيد الريم ليس بفاحش إذا هي نصته ولا بمعطل

قوله : " واصطلاحا " ، أي : والنص في اصطلاح الفقهاء والأصوليين هو الصريح في معناه . والصريح : الخالص من كل شيء ، ومعنى كون النص هو " الصريح في معناه " : كونه خالص الدلالة عليه ، لا يشوبه احتمال دلالة على غيره .

وقيل : هو " ما أفاد بنفسه من غير احتمال " ، فقوله : ما أفاد بنفسه : احتراز مما لا يفيد بنفسه ، بل بانضمام غيره إليه ، كالقرينة في المجاز والمشترك ، والبيان في المجمل .

وقوله : " من غير احتمال " : احتراز مما أفاد بنفسه مع احتمال غير ما أفاده ، كالظاهر على ما قد ذكر فيه ، وهذان التعريفان للنص معناهما واحد .

واعلم أن للعلماء في النص ثلاثة اصطلاحات :

أحدها : ما دل على معنى قطعا ، ولا يحتمل غيره قطعا ، كأسماء الأعداد نحو : أحد ، اثنين ، ثلاثة .

والثاني : ما دل على معنى قطعا ، وإن احتمل غيره ، كصيغ الجموع في العموم ، تدل على أقل الجمع قطعا ، مع احتمالها الاستغراق . [ ص: 555 ]

والثالث : ما دل على معنى كيف كان .

ومأخذ هذه الاصطلاحات : أن من لاحظ معنى النص لغة حمل عليه الاصطلاح الأول ، لأنه بلغ منتهى البيان وغايته ، ولهذا قال القاضي أبو يعلى في " العدة " : النص ، قيل : ما رفع في بيانه إلى أقصى غايته ، ومنه منصة العروس ، لأنها ترفع على سائر النساء .

ومن لاحظ أصل الظهور والارتفاع ، حمل عليه الاصطلاح الثالث .

ومن توسط بينهما ، حمل عليه الاصطلاح الثاني .

قلت : الأول أشبه باللغة ، وهو مراد أصحابنا بقولهم : نص عليه أحمد ، أو هو منصوص أحمد ، والثالث هو الغالب في استعمال الفقهاء في الاستدلال ، حيث يقولون : لنا النص والمعنى ، ودل النص على هذا الحكم .

قوله : " وحكمه " ، أي : وحكم النص ، أي : قضاء الشرع فيه " أن لا يترك إلا بنسخ " ، وذلك لأن النسخ رافع لحكم المنسوخ ، نصا كان أو غيره ، أما مع عدم النسخ ونصوصية اللفظ ، فتركه يكون عنادا ومراغمة للشرع ، فيدخل تاركه على هذا الوجه في قوله تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا [ طه : 134 ] ، إلى قوله تعالى : كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ طه : 136 ] ، وأشباهها من الآيات ، وإن لم يكونا سواء من كل وجه إلا أن بينهما قدرا مشتركا ، وهو الترك مراغمة واجتراء على الشرع .

قوله : " وقد يطلق " ، يعني النص ، " على ما تطرق إليه احتمال يعضده دليل " وذلك لأن الاحتمال المذكور مع الدليل العاضد له صار كالظاهر ، والظاهر يطلق عليه لفظ النص ، كما يأتي بعد إن شاء الله تعالى . [ ص: 556 ] ومثاله قوله سبحانه وتعالى : وامسحوا برءوسكم وأرجلكم [ المائدة : 6 ] ، بكسر اللام ، هو ظاهر في أن فرض الرجلين المسح مع احتماله الغسل ، فاحتماله الغسل مع الدليل الدال عليه يسمى نصا ، لأنه صار مساويا للظاهر في المسح ، وراجحا عليه ، كما تقرر في كتب الفقه ، حتى إنه يجوز لنا أن نقول : ثبت غسل الرجلين بالنص .

وقوله : " ما تطرق إليه احتمال يعضده دليل " : احتراز مما تطرق إليه احتمال مجرد ، لا دليل عليه ، فإن ذلك لا يطلق عليه نص ولا ظاهر ، وذلك كاحتمال أن المراد بمسح الرءوس غسلها ، في قوله سبحانه وتعالى : وامسحوا برءوسكم ، إذ لا دليل على هذا الاحتمال .

فأما اختلاف الفقهاء في أن غسل الرأس هل يجزئ عن مسحه أم لا ؟ فليس بناء على الاحتمال المذكور ، بل على أن الرأس اختص بالمسح تعبدا ، أو تخفيفا لمشقة غسله غالبا ، لملازمة الحال له عادة .

قوله : " وعلى الظاهر " ، أي : ويطلق النص على الظاهر أيضا ، " ولا مانع منه " ، أي : من إطلاق لفظ النص عليه ، " إذ الاشتقاق المذكور يجمعهما " ، يعني اشتقاق النص من معنى الارتفاع والظهور يجمع النص والظاهر ، أي : يلتقيان فيه على حد مشترك بينهما منه ، فالنص مرتفع ظاهر في الدلالة ، والظاهر كذلك ، غير أن النص [ ص: 557 ] أشد ظهورا وارتفاعا ، فباعتبار القدر المشترك بينهما من الارتفاع والظهور ، جاز إطلاق أحدهما على الآخر ، كما جاز إطلاق العلم على الظن ، لما اشتركا فيه من الرجحان كما سبق ، وهذا قد سبق نحوه عند ذكر الاصطلاحات في النص .

التالي السابق


الخدمات العلمية