صفحة جزء
[ ص: 571 ]

ورد بأن السابق إلى فهمنا وفهم الصحابة رضي الله عنهم من المفارقة التسريح ، لا ترك النكاح ، وبأنه فوض إليه ذلك مستقلا به ، وابتداء النكاح لا يستقل به ، بل لا بد من رضى المرأة ، وبأن ابتداء النكاح لا يختص بهن ، فكان ينبغي أن يقول : انكح أربعا ممن شئت ، فهذه قرائن تدفع تأويلهم .


قوله : " ورد " ، أي : تأويل الحنفية المذكور بوجوه دل عليها الحديث :

أحدها : أن السابق إلى فهمنا وفهم الصحابة رضي الله عنهم من الإمساك الاستدامة ، لا ابتداء النكاح ، ومن المفارقة التسريح ، لا ترك النكاح ، فيكون هذا مدلول اللفظ ومقتضاه ، والدليل على أن [ هذا ] السابق إلى فهمنا من الحديث ، ذلك الوجدان منا ، والتأويل من الحنفية ، إذ لو لم يكن ظاهرا فيما قلناه ، لما احتاجوا إلى تأويله ، وإذا ثبت أن السابق إلى فهمنا من الحديث ذلك الوجدان ، ثبت أنه السابق إلى فهم الصحابة ، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان ، وعدم التغيير في الألفاظ والموضوعات .

الوجه الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم فوض ذلك - يعني الإمساك والفراق - إلى غيلان مستقلا به ، حيث قال : أمسك وفارق ، ولو كان المراد به ابتداء لنكاح ، لما استقل به بالاتفاق ، إذ لا بد من رضى الزوجة ، ومن الولي عندنا ، فكان يجب أن يقول : أمسك أربعا منهن إن رضين ، ويبين له شرائط النكاح ، لأن ذلك بيان في وقت الحاجة إليه ، فلا يجوز تأخيره ، كما قرر في موضعه ، خصوصا لمن هو حديث عهد [ ص: 572 ] بجاهلية ، دخل في الإسلام ، فهو أحوج إلى البيان .

الوجه الثالث : أن تقدير الكلام على قولهم : انكح أربعا منهن ، واترك نكاح سائرهن ، أي : ولا تنكح سائرهن ، والأمر دائر بين الوجوب والندب ، والنهي دائر بين الكراهة والحظر ، وابتداء النكاح لا يختص بالنسوة اللاتي أسلم عليهن وجوبا ولا ندبا ، بل هن كغيرهن فيه ، فكان ينبغي أن يقول : انكح أربعا ممن شئت ، لئلا يتوهم أنه مأمور بالنكاح منهن وجوبا أو ندبا ، وليس الحكم في نفس الأمر كذلك ، فكان يكون إبهاما في الدين ، وتلبيسا على المسلمين ، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث للإيضاح والتبيين ، وكذلك البواقي بعد نكاح الأربع ، لا اختصاص لهن بالنهي عن نكاحهن ، وهو موهم ذله ، خصوصا عند من يرى مفهوم اللقب ، فيكون اختصاصهن بالنهي عن نكاحهن مخالفا للإجماع ، لانعقاده على تحريم من سوى الأربع اللاتي أمسكن بالنكاح .

فهذه قرائن احتفت بالحديث تدفع تأويل الحنفية المذكور ، وتبين أن المراد من الحديث ما فهمه الجمهور من أن الإمساك : الاستدامة ، والمفارقة : التسريح .

وما يقولونه : من أنه ليس بعض النسوة أولى بالإمساك من بعض مردود ، بأن الأولى به منهن من اختاره الزوج ، واختياره هو المرجح ، وما فصلوه من أنه إن كان عقد عليهن معا بطل نكاحهن ، وإن كان عقد متعاقبا ، أمسك الأولى فالأولى منهن ، [ ص: 573 ] مردود بقوله عليه السلام لفيروز الديلمي وقد أسلم على أختين : أمسك أيتهما شئت وفارق الأخرى ، وقد بينا أن الإمساك ظاهر في الاستدامة ، مع المعية في العقد ، وإن كان عقد عليهما متعاقبتان ، فقد خيره في إمساك أيتهما شاء ، ولم يعين له الأولى . فالنصوص مخالفة لقولهم بكل حال .

واعلم أن مثار النزاع في المسألة هو أن الإمساك هو الحفظ للشيء ، لكونه لا بد له من آلة يحصل بها الإمساك ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره بالإمساك وأمسك عن آلته التي يحصل بها ، إذ الإمساك - الذي هو هاهنا حفظ نكاح الأربع - يصح حصوله بالاستدامة ، والاستبقاء ، والاستصحاب كما قلناه ، ويصح حصوله بابتداء النكاح كما قالوه ، لكن ما ذكرناه أولى ، لما سبق ، ولأنه لا يحتاج إلى تقدير بطلان النكاح ، ثم تصحيحه بابتداء عقده عليهن ، وعلى ما قالوه يحتاج إلى ذلك ، وهو من ضرورته ، فكان ما قلناه كاللفظ المستقل بنفسه ، بدون إضمار ، وما ذكروه كاللفظ الذي لا يتم إلا بإضمار ، ولا نزاع في أن الأول أولى ، فكان ما أشبهه في مسألتنا أولى ، وهو تأويلنا .

قال الغزالي : والإنصاف أن ذلك ، يعني تأويل الظواهر ، يختلف باختلاف أحوال المجتهدين ، وإلا فلسنا نقطع ببطلان تأويل أبي حنيفة رحمه الله مع هذه القرائن ، وإنما المقصود تذليل الطريق للمجتهدين ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية