صفحة جزء
[ ص: 5 ] الأصول الأصول : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، واستصحاب النفي الأصلي . ومصدرها الله عز وجل ، إذ الكتاب قوله ، والسنة بيانه ، والإجماع دال على النص . ومدركها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لا سماع لنا من الله تعالى ، ولا جبريل . واختلف في أصول يأتي ذكرها .

وكتاب الله عز وجل كلامه المنزل للإعجاز بسورة منه ، وهو القرآن ، وتعريفه بما نقل بين دفتي المصحف نقلا متواترا ، دوري .

وقال قوم : الكتاب غير القرآن . ورد : بحكاية قول الجن : إنا سمعنا قرآنا ، إنا سمعنا كتابا والمسموع واحد ، وبالإجماع على اتحاد مسمى اللفظين .

والكلام عند الأشعرية مشترك بين الحروف المسموعة والمعنى النفسي ، وهو نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم ، وعندنا لا اشتراك ، والكلام الأول وهو قديم ، والبحث فيه كلامي .


قوله " الأصول " : قد كنا ذكرنا في صدر " المختصر " أنا نتكلم على أصول الفقه أصلا أصلا ، بعد ذكر مقدمة تشتمل على فصول ، وقد انتهى الكلام على المقدمة بفصولها الأربعة ; فوجب الكلام على الأصول كما وعدنا .

قوله " الكتاب " : أي الأصول هي : الكتاب " والسنة والإجماع واستصحاب النفي الأصلي " . وتحقيق مفهومات هذه الألفاظ يأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى .

واللام في الأصول للعهد ; لأنه قد سبق ذكرها منكرة في قولنا في أول " المختصر " : فلنتكلم عليها أصلا أصلا . أو يكون التقدير : الأصول التي وعدنا بالكلام عليها هي هذه . وقد سبق أن الأصول هي الأدلة ، وأصول الفقه أدلته [ ص: 6 ] الشرعية ، والدليل الشرعي : هو الذي طريق معرفته الشرع .

وذكر الآمدي له تقسيما أنا أذكر معناه : وهو أن الدليل الشرعي ; إما أن يرد من جهة الرسول ، أو لا من جهته ، فإن ورد من جهة الرسول ; فهو إما من قبيل ما يتلى : وهو الكتاب ، أو لا : وهو السنة ، وإن ورد لا من جهة الرسول ; فإما أن نشترط فيه عصمة من صدر عنه أو لا ، والأول : الإجماع ، والثاني : إن كان حمل معلوم على معلوم بجامع مشترك ; فهو القياس ، وإلا فهو الاستدلال .

فالثلاثة الأول - وهي الكتاب ، والسنة ، والإجماع - نقلية ، والآخران معنويان ، والنقلي أصل للمعنوي ، والكتاب أصل للكل .

فالأدلة إذا خمسة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، والاستدلال ، وعرفه الآمدي بأنه دليل ليس بنص ولا إجماع ولا قياس .

قلت : وقد ذكرت ضعف هذه الطريقة في التعريف عند تعريف خطاب الوضع بمثلها ، وذكرت أن الاستدلال منها على أنواع :

منها : وجد السبب ; فيثبت الحكم .

ومنها : وجد المانع ; فينتفي الحكم .

ومنها : انتفى الشرط فينتفي الحكم .

ومنها : القياس المنطقي ، وهو قول مؤلف من مقدمات ، يلزم من تسليمها لذاتها قول آخر ، وهو إما اقتراني أو استثنائي ، والاستثنائي متصل أو منفصل ، [ ص: 7 ] وموضع استقصائه كتب المنطق .

ومنها : استصحاب الحال .

قلت : والأنواع الثلاثة الأول داخلة في الاقتراني ، الذي هو أحد قسمي القياس المنطقي ، إذ قولنا : وجد السبب أو المانع ، أو انتفى الشرط ، كله في تقدير تركيب اقتراني ، نحو وجد السبب ، وكلما وجد السبب ، وجد الحكم ، فيلزم عنه : إذا وجد السبب ، وجد الحكم ، وكذلك وجد المانع ، وكلما وجد المانع ، انتفى الحكم .

وإنما ذكرت تقسيم الدليل هاهنا ، لمناسبة شروعنا في الكلام على أدلة الفقه ، وأيضا كنت قد وعدت عند تعريف الفقه ، وتعرضي هناك بلفظ الاستدلال ، أني أذكر فيه ما ذكرته هنا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

قوله : " ومصدرها الله تعالى " أي : ومصدر هذه الأصول كلها هو الله سبحانه وتعالى ، أي : هو الذي صدرت عنه " إذ الكتاب " أي : لأن الكتاب ، " قوله ، والسنة بيانه " ، أي : بيان الكتاب لقوله سبحانه وتعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] ، وربما سبق إلى الفهم أن الضمير في بيانه راجع إلى الله سبحانه وتعالى ، وليس كذلك ، وهكذا اتفق . وقد يتجه ذلك أيضا بناء على قوله عز وجل : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ النجم : 3 - 4 ] لكنه ضعيف ، و المراد الأول " والإجماع دال على النص " لما ذكرنا في باب الإجماع من أنه لا يكون إلا عن مستند ; إما نص أو قياس نص .

قوله : " ومدركها الرسول " أي : مدرك هذه الأصول ، أي : الطريق إلى إدراكها .

[ ص: 8 ] ومدرك بفتح الميم ; لأنه اسم مكان الإدراك ; لأنه لا سماع لنا من الله تعالى ، ولا من جبريل لقوله سبحانه وتعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء [ الشورى : 51 ] ، فلم يبق لنا مدرك لهذه الأصول إلا الرسول عليه السلام . فالكتاب نسمع منه تبليغا ، والسنة تصدر عنه تبيينا والإجماع والقياس مستندان في إثباتهما إلى الكتاب والسنة ، كما سيأتي في بابهما إن شاء الله تعالى .

والاستدلال المذكور آنفا داخل في حد الدليل ، وقد انعقد الإجماع على مشروعية استعماله في استخراج الأحكام ، وقد بينا آنفا أن مرجع هذه الأصول كلها إلى الكتاب ; لأنها توابع له ، أو متفرعة عنه .

قوله : " واختلف في أصول يأتي ذكرها " إن شاء الله تعالى ، يعني أن الأصول ضربان : متفق عليه بين الجمهور ، وهي الخمسة المذكورة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، و الاستدلال . ومختلف فيه ، وهو أربعة : شرع من قبلنا ، وقول الصحابي الذي لا مخالف له ، والاستحسان ، والاستصلاح ، وهي على هذا الترتيب في " المختصر " ، وبعدها القياس ، وقد كان ينبغي أن يقدم عليها ، ليكون كل واحد من الأصول المتفق عليها والمختلف فيها متواليا ، لا يتخلله غيره ، لكن قد أبنت عذري في ذلك أول الشرح ، وهو أني اختصرت ولم أستقص أحوال الترتيب .

قوله : " وكتاب الله كلامه المنزل للإعجاز بسورة منه " . لما بين كمية الأصول ، أخذ في الكلام عليها أول أول ، وأولها الكتاب ; فبدأ بذكر حده الكاشف عن حقيقته .

[ ص: 9 ] فقوله : " كلامه " : هو جنس يتناول كل كلام تكلم الله به سبحانه وتعالى عربيا كالقرآن ، أو أعجميا كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من صحف الأنبياء ، وما نزل للإعجاب أو لغيره ; كما دل عليه قوله عليه السلام : أوتيت القرآن ومثله معه ، وإن جبريل يأتيني بالسنة كما يأتيني بالقرآن .

وقوله : " المنزل " : يحترز به ممن يثبت كلام النفس ; لأنه لا يصح فيه التنزيل عنده ، ونحن لا نثبت ذلك ; كما ستراه إن شاء الله تعالى .

وقوله : " للإعجاز " : احتراز مما نزل لغير الإعجاز ، كما ذكر قبل من الكتب القديمة وغيرها ; فإنها لم تنزل للأعجاز ، بل لبيان الأحكام ، وإنما كانت معجزات أولئك الأنبياء عليهم السلام فعلا لا صفات .

وقوله : " بسورة منه " : ليدخل في حد الكتاب كل سورة من سوره .

وقوله : " وهو القرآن " : أي : كتاب الله : هو القرآن ، وقد ذكر الخلاف فيه بعد .

[ ص: 10 ] قوله : " وتعريفه " أي : تعريف الكتاب والقرآن " بما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلا متواترا ، دوري " أي : هذا التعريف يلزم منه الدور .

قلت : هؤلاء القوم لم يسمهم الشيخ أبو محمد ، ولم أعلم من هم ، فإن كان هذا النقل صحيحا ; فهؤلاء القوم : إما مخطئون ، أو النزاع معهم لفظي .

أما وجه خطئهم : فهو أن يكونوا نظروا إلى تغاير لفظ القرآن والكتاب ; فحكموا بالتغاير ، ولم ينظروا في الدليل المذكور بعد ، وأما وجه كون نزاعهم لفظيا ; فهو أن يكونوا خصوا كلام الله تعالى بكلامه النفسي ، على ما هو رأي الجهمية والأشعرية ، وخصوا القرآن بهذه العبارات المتلوة الدالة على المعنى النفسي عندهم ، وحينئذ يرجع النزاع إلى إثبات الكلام النفسي ، وتخرج هذه المسألة عن التنازع فيها .

قوله " ورد " ، أي ورد قول هؤلاء : إن كتاب الله تعالى غير القرآن بوجهين : أحدهما :

حكاية قول الجن في سورة الجن : إنا سمعنا قرآنا عجبا [ الجن : 1 ] ، وحكاية قولهم في سورة الأحقاف حيث قالوا : إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى [ الأحقاف : 30 ] ، والذي سمعوه واحد ، وهو القرآن ، وقد سموه كتابا ; فدل على أن كتاب الله تعالى هو القرآن .

ويرد عليه احتمال أنهم سموه كتابا لغة ; لجمعه الأحكام وغيرها ، ولا يلزم من ذلك أن يكون القرآن كتاب الله سبحانه وتعالى ، إلا أن هذا بعيد جدا ، مخالف لمبادرة الأفهام الصحيحة عند سماعها الكلام أن مراده كتاب الله سبحانه وتعالى .

[ ص: 11 ] الوجه الثاني : إجماع الأمة على اتحاد مسمى اللفظين : الكتاب ، والقرآن ، أي : أن مسماهما واحد ; فالكتاب هو القرآن ، والقرآن هو الكتاب ، والكتاب هو كتاب الله تعالى .

قوله : " والكلام عند الأشعرية مشترك بين الحروف المسموعة والمعنى النفسي " أي : يطلق لفظ الكلام عليهما بالاشتراك ; فيقال للعبارات المسموعة : كلام ، وللمعنى النفسي : كلام ، وذلك لأنه قد استعمل لغة وعرفا فيهما ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ; فيكون مشتركا ، أما استعماله في العبارات فكثير ظاهر ، كقوله سبحانه وتعالى : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه [ البقرة : 75 ] ، فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه [ التوبة : 6 ] ويقال : سمعت كلام فلان وفصاحته ، يعني ألفاظه الفصيحة ، وأما استعماله في المعنى النفسي ، وهو مدلول العبارات ; فكقوله تعالى : ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول [ المجادلة : 8 ] ، وأسروا قولكم أو اجهروا به [ الملك : 13 ] ، وقول عمر رضي الله عنه في السقيفة : " زورت في نفسي كلاما " ، وقول الشاعر :


إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

[ ص: 12 ] ولذلك نظائر . وأما أن الأصل في الإطلاق الحقيقة ; فلما سبق .

قلت : ذكر الغزالي أن قوما جعلوا الكلام حقيقة في المعنى ، مجازا في العبارة ، وأن قوما عكسوا ذلك ; فصارت ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه حقيقة في اللفظ ، مجاز في المدلول .

والثاني : أنه حقيقة في المدلول ، مجاز في لفظه .

والثالث : أنه مشترك بينهما .

والأقوال الثلاثة منقولة عن الأشعري فيما حكاه ابن برهان عنه .

قوله : " وهو " - يعني الكلام النفسي عندهم - نسبة بين مفردين ، قائمة بذات المتكلم . ويعنون بالنسبة بين المفردين أي : بين المعنيين المفردين ، من تعلق أحدهما بالآخر ، وإضافته إليه على جهة الإسناد الإفادي ، أي : بحيث إذا عبر عن تلك النسبة بلفظ يطابقها ، ويؤدي معناها ، كان ذلك اللفظ إسناديا إفاديا ، كما تقدم في الكلام اللفظي أنه ما تضمن كلمتين بالإسناد .

ومعنى قيام هذه النسبة بالمتكلم على ما كشف عنه الإمام فخر الدين في كتاب " الأربعين " ، هو أن الشخص إذا قال لغيره : اسقني ماء ; فقبل أن يتلفظ بهذه الصيغة ، قام بنفسه تصور حقيقة السقي ، وحقيقة الماء ، والنسبة الطلبية بينهما ; فهذا هو الكلام النفسي ، والمعنى القائم بالنفس . وصيغة قوله : اسقني ماء . عبارة عنه ، ودليل عليه .

[ ص: 13 ] وشرح القرافي في كتاب " الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة " معنى الكلام النفسي ، فقال : إن كل عاقل يجد في نفسه الأمر والنهي ، والخبر عن كون الواحد نصف الاثنين ، وعن حدوث العالم ، ونحو ذلك ، وهو غير مختلف فيه ، ثم يعبر عنه بعبارات ولغات مختلفة ; فالمختلف : هو الكلام اللساني ، وغير المختلف : هو الكلام النفسي القائم بذات الله عز وجل ، ويسمى ذلك العلم الخاص سمعا ; لأن إدراك الحواس إنما هي علوم خاصة ، أخص من مطلق العلم ; فكل إحساس علم ، وليس كل علم إحساسا ، فإذا وجد هذا العلم الخاص في نفس موسى المتعلق بالكلام النفسي القائم بذات البارئ عز وجل ، سمي باسمه الموضوع له في اللغة ، وهو السماع . هذا معنى تقريره .

قلت : وبسط فيه أكثر من هذا .

وقال الغزالي في بعض عقائده : من أحال سماع موسى كلاما ليس بصوت ولا حرف ; فليحل يوم القيامة رؤية ذات ليست بجسم ولا عرض .

قلت : كل هذا تكلف وخروج عن الظاهر ، بل القاطع ، من غير ضرورة إلا خيالات لاغية ، وأوهام متلاشية ، وما ذكروه معارض بأن المعاني لا تقوم شاهدا إلا بالأجسام ، فإذا أجازوا معنى قام بالذات القديمة وليست جسما ; فليجيزوا خروج صوت من الذات القديمة وليست جسما ، إذ كلا الأمرين خلاف الشاهد ، ومن أحال كلاما لفظيا من غير جسم ; فليحل ذاتا مرئية غير جسم ، ولا فرق .

[ ص: 14 ] قوله : " وعندنا لا اشتراك ، والكلام الأول " ، أي : عندنا ليس الكلام مشتركا بين العبارة ومدلولها ، بل الكلام الأول ، أي : الحروف المسموعة ; فهو حقيقة فيها ، مجاز في مدلولها لوجهين :

أحدهما : أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق لفظ الكلام إنما هو العبارات ، والمبادرة دليل الحقيقة .

الثاني : أن الكلام مشتق من الكلم ، لتأثيره في نفس السامع كما سبق ، والمؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية بالفعل . نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة ، والعبارة مؤثرة بالفعل ; فكانت أولى بأن تكون حقيقة ، وما يؤثر بالقوة مجازا .

قولهم : استعمل لغة وعرفا فيهما . قلنا : نعم ، لكن بالاشتراك ، أو بالحقيقة فيما ذكرناه والمجاز فيما ذكرتموه ؟ والأول ممنوع .

قولهم : الأصل في الإطلاق الحقيقة .

قلنا : نعم ، والأصل عدم الاشتراك ، ثم قد تعارض المجاز والاشتراك المجرد ، والمجاز أولى . ثم إن لفظ الكلام أكثر ما استعمل في العبارات ، وكثرة موارد الاستعمال تدل على الحقيقة ; فأما قوله تعالى : ويقولون في أنفسهم [ المجادلة : 8 ] ; فهو مجاز ; لأنه إنما دل على المعنى النفسي بالقرينة ، ولو أطلق لما فهم منه إلا العبارة ، وكل ما جاء من هذا الباب إنما يفيد مع القرينة ، ومنه قول عمر : " زورت في [ ص: 15 ] نفسي كلاما " إنما أفاد ذلك بقرينة قوله : في نفسي ، وسياق القصة .

وأما قوله سبحانه وتعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به [ الملك : 13 ] ; فلا حجة فيها ; لأن الإسرار نقيض الجهر ، وكلاهما عبارة ; إحداهما أرفع صوتا من الأخرى .

وأما الشعر فهو للأخطل ، ويقال : إن المشهور فيه : "

إن البيان لفي الفؤاد

" ، وبتقدير أن يكون كما ذكرتم ; فهو مجاز عن مادة الكلام ، وهي التصورات المصححة ، إذ من لا يتصور معنى ما يقول ، لا يوجد منه كلام ، ثم هو مبالغة من هذا الشاعر في ترجيح الفؤاد على اللسان ، إشارة إلى نحو قول القائل :


لسان الفتى نصف ونصف فؤاده     فما المرء إلا صورة اللحم والدم

وإلى قوله عليه السلام : ألا وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب .

ثم العجب من هؤلاء القوم ; مع أنهم عقلاء فضلاء ، يجيزون أن الله سبحانه وتعالى يخلق لمن يشاء من عباده علما ضروريا وسمعا لكلامه النفسي ، من غير توسط صوت ولا حرف ، وإن ذلك من خاصية موسى عليه السلام ، مع أن ذلك قلب لحقيقة السمع في الشاهد ، إذ حقيقة السمع في الشاهد اتصال الأصوات [ ص: 16 ] بحاسته ، ثم ينكرون علينا القول بأن الله سبحانه وتعالى يتكلم بصوت وحرف من فوق السماوات ، لكون ذلك مخالفا للشاهد ، فإن جاز قلب حقيقة السمع شاهدا بالنسبة إلى كلامه ، فلم لا يجوز خلاف الشاهد بالنسبة إلى استوائه وكلامه على ما قلناه ؟ .

فإن قالوا : لأنه يستحيل وجود حرف وصوت لا من جسم ، ووجود في جهة ليس بجسم . قلنا : إن عنيتم استحالته مطلقا ; فلا نسلم ، إذ البارئ جل جلاله على خلاف الشاهد والمعقول في ذاته وصفاته . وقد وردت النصوص بما قلناه ; فوجب القول به .

قوله : " وهو قديم " ، يعني كلام الله سبحانه وتعالى على رأينا ، والدليل على قدمه من وجوه :

أحدها : أن الأشعرية وافقوا على صحة الاستدلال على أن صفات البارئ جل جلاله ; كالحياة ، والعلم ، والقدرة ، معان زائدة على مفهوم ذاته بالقياس على الشاهد ، وأن الحي من قامت به الحياة ، والعالم من قام به العلم ، وأن الله سبحانه وتعالى لو لم يكن حيا عالما ; لكان جمادا غير عالم ، إذ لا واسطة بينهما وذلك نقص ; فيجب أن ينفى عنه .

فنقول نحن في إثبات الكلام على رأينا : لو لم يكن متكلما لكان ساكتا لكن السكوت عليه محال ; لأنه نقص ; فيجب أن ينفى عنه ، إنما قلنا : إنه لو لم يكن متكلما لكان ساكتا ; لأنه لا واسطة بين السكوت والكلام المتنازع فيه وإنما قلنا :

[ ص: 17 ] إن السكوت نقص في حقه سبحانه وتعالى ; لأن السكوت في الشاهد ، لا يكون إلا عن عجز أو صمت ، والعجز عليه سبحانه وتعالى محال ، والصمت إنما يحسن عن الكلام القبيح ، والله سبحانه وتعالى لا يقبح منه قول ولا فعل ، بل نزل أحسن الحديث .

الوجه الثاني : إجماع السلف على أنه قديم ، وذلك يستدعي قيام قاطع من نص أو غيره ، يكون مستندا للإجماع ، أو نقول : إنه لم ينقل عن أحد من السلف القول بخلق القرآن . فإما أن يكون ذلك مع اعتقادهم وعلمهم أنه مخلوق أو قديم ، أو لترددهم في ذلك ، فإن كان لعلمهم أنه مخلوق ، لزم أن يكونوا قد أجمعوا على كتمان علم فيه تبرئة الله تعالى على زعمهم ، وذلك إجماع منهم على الباطل ، والأمة لا تجتمع في عصر من الأعصار على الباطل ، وإن كان ذلك مع ترددهم فيه ، بحيث لم يتجه لهم الجزم فيه بقول ; فمن المحال عادة أن يخفى ذلك عليهم ، مع كثرتهم وتوفر دواعيهم على معرفة أحكام الدين ، وينكشف لكم . وإن كان سكوتهم عن القول بخلقه لاعتقادهم قدمه ; فهو المطلوب ، وليس للخصم أن يعارض هذا الاستدلال بمثله ; لأن السلف مازالوا شديدين على من قال بخلق القرآن ، تكفيرا ، وتبديعا ، ولعنا ، وسبا ، حتى ظهرت البدعة بالقول بخلقه .

الوجه الثالث : ما اشتهر عن علي رضي الله عنه ، أنه لما أنكر عليه تحكيم الرجال في دين الله قال : " ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن " وما روى [ ص: 18 ] البخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين يقول : أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ويقول : هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهم السلام ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

والاحتجاج به من وجهين :

أحدهما : أنه وصف الكلمات بالتامة ; فيقتضي غاية التمام ، وليس ذلك إلا للقديم ، إذ المخلوق ناقص .

الثاني : أنه عوذ بهما المخلوق ، والمخلوق لا يعوذ بمخلوق ، وإلا لم يكن أحدهما أولى بالتعويذ من الآخر ، ومن المعلوم أنه إنما كان يعوذهما بالوحي المنزل ; فدل على أنه ليس بمخلوق ; فيكون قديما وهو المطلوب .

واعلم أن إضافة الصوت في الكلام إلى الله تعالى منقول عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف ، ولفظ الصوت ثابت في البخاري وغيره ، وقد خرج ابن شكر [ ص: 19 ] المصري - وهو من فضلاء أهل الحديث ونقادهم - فيه أربعة عشر حديثا ، ذكر أنها ثابتة عن المحدثين .

وأيضا : فإن القرآن مملوء منه . قال الله تعالى : حتى يسمع كلام الله [ التوبة : 6 ] ، وإذ نادى ربك موسى [ الشعراء : 10 ] ، وناديناه من جانب الطور [ مريم : 52 ] ، وهو كثير جدا . ومن المستبعد جدا أن يكون هذا الخطاب كله مجازا ، لا حقيقة فيه ، ولو موضع واحد ، وبموضع واحد منه يحصل المطلوب .

[ ص: 20 ] فإن قيل : هو حقيقة ، ولكن كما قررناه من الكلام النفسي بالاشتراك ، كما قلتم : إن الصفات الواردة في الشرع لله سبحانه وتعالى حقيقة ; لكن مخالفة للصفات المشاهدة ، وهي مقولة بالاشتراك .

قلنا : نحن اضطرنا إلى القول بالاشتراك في الصفات ورود نصوص الشرع الثابتة بها ; فأنتم ما الذي اضطركم إلى إثبات الكلام النفسي ؟

فإن قيل : دليل العقل الدال على أنه لا صوت إلا من جسم .

قلنا : فما أفادكم إثباته شيئا ; لأن الكلام النفسي الذي أثبتموه لا يخرج في الحقيقة عن أن يكون علما أو تصورا ، على ما سبق تقريره عن أئمتكم ، فإن كان علما ; فقد رجعتم معتزلة ، ونفيتم الكلام بالكلية ، وموهتم على الناس بتسميتكم العلم كلاما ، وإن كان تصورا ; فالتصور في الشاهد : حصول صورة الشيء في العقل ، وإنما يعقل في الأجسام ، وإن عنيتم تصورا مخالفا للتصور في الشاهد ، لائقا بجلال الله سبحانه وتعالى ; فأثبتوا كلاما ، هو عبارة على خلاف الشاهد ، لائقة بجلال الله سبحانه وتعالى .

قوله : " والبحث فيه كلامي " ، أي : البحث في قدم القرآن متعلق بعلم الكلام ; فهو موضع ذكره ، مع أنا قد ذكرنا منه بلغة وللمسألة مأخذان مختصران :

أحدهما : أن الكلام حقيقة في العبارة ، أو مشترك بينها وبين مدلولها كما سبق ، وقد بينا عدم الاشتراك .

الثاني : أن الكلام صفة ذات ، أو صفة فعل ، إذ صفات الذات قديمة ، وصفات الفعل محدثة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية