صفحة جزء
[ ص: 71 ]

حمد من آمن بك وأسلم ، وفوض إليك أمره وسلم ، وانقاد لأوامرك واستسلم ، وخضع لعزك القاهر ودان .


قوله : " حمد من آمن بك وأسلم ، وفوض إليك أمره وسلم ، وانقاد لأوامرك واستسلم ، وخضع لعزك القاهر ودان " .

قوله : " أحمدك " : أي : أحمدك حمدا مثل حمد من آمن بك ، فحذف المصدر وصفته وأقام ما أضيف إليه مقامه اختصارا ، لأن العقل يدل على ذلك ، إذ ليس حمدي لله مثلا هو نفس حمد من آمن غيري ، بل هو مثله ، ومثل ذلك قولهم : أعطى عطاء الأجواد ، وبخل بخل الأوغاد ، أي : مثله ، وقال امرؤ القيس :


إذا قامتا تضوع المسك منهما نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل

أي تضوع تضوعا مثل تضوع نسيم الصبا ، وهو أكثر حذفا مما قلناه .

وقوله : " من آمن بك وأسلم " إشارة إلى الفرق بين الإيمان والإسلام . وقد نص الكتاب والسنة على الفرق بينهما ، أما الكتاب ، فقوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا [ الحجرات : 14 ] ، نفى الإيمان وأثبت الإسلام ، والمنفي غير المثبت ، فالإيمان غير الإسلام ، والمتغايران مفترقان ، وذلك يوجب [ ص: 72 ] الفرق بين الإيمان والإسلام .

وأما السنة : فحديث جبريل الصحيح حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما الإيمان ؟ فقال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر - أي تصدق بذلك - قال : فما الإسلام ؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان رواه مسلم ، وصححه الترمذي .

ودلالته على الفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : أن جبريل سأل عن كل واحد منهما بصيغة مفردة سؤالا مستقلا وذلك قاطع في الفرق ، كما إذا قيل : ما الإنسان وما الأسد ؟ فإنه يفيد الفرق بينهما قطعا .

الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم أقره على الفرق في السؤال عنهما ، وأجابه عنهما بحقيقتين مختلفتين ، ففسر الإيمان بالتصديق القلبي ، والإسلام بالعمل البدني ، وهذا قاطع في أن اختلافهما اختلاف كلي ، وليس بينهما عموم وخصوص ، وأن الإسلام أثر الإيمان ومكمله وصفة له لا ركن فيه وجزء له .

وأما الاحتجاج على اتحاد الإيمان والإسلام بقوله تعالى : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين ، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ الذاريات : 35 - 36 ] ، والمراد بهما واحد ، وهو آل لوط ، فضعيف ، وجوابه : أنه وصفهم بالأمرين تخصيصا لهم ، ومدحا وتعظيما ، أو أنه غاير بين الفاصلتين في الآيتين دفعا للتكرار ، كما بيناه في " بغية الواصل " . [ ص: 73 ]

قوله : " وفوض إليك أمره وسلم " ، التفويض : رد الأمر إلى الغير لينظر فيه ، وقوة اللفظ تعطي التوسيع ، كأن من فوض أمره إلى غيره قد جعله في سعة من الاعتراض عليه ، ويقال : أموالهم بينهم فوضى وفيضوضى : إذا كانوا شركاء فيها ، وأمره : أي شأنه وكل ما يعنيه من استجلاب خير ، أو استدفاع شر ، فهو مفوض فيه إليك لعلمه أنه لا يصدر شيء إلا عنك نعمة وبلاء ، ومنعا وعطاء ، وأنك المستبد في الخلق حكما وقضاء . والتسليم في معنى التفويض ، قال الله تعالى : ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] .

وقوله : " وانقاد لأوامرك واستسلم " الانقياد : هو المتابعة مع المطاوعة ، كالبعير وغيره من الدواب إذا قيد بزمامه ، تابع مطاوعا . والاستسلام : تسليم النفس خوفا من العقاب ، وليس هذا فيما بين الله سبحانه وتعالى نفاقا ، لأن الخوف من الله واجب ، بخلاف ذلك فيما بين المخلوقين ، فإنه قد يكون نفاقا كالحربي والمرتد إذا أسلم خوفا من القتل ، لأن خوف المخلوقين غير واجب ، كما قال سبحانه وتعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] فهذا استسلام للكفر تقية ، وليس المراد هاهنا الانقياد للأوامر ، أي نعتقد وجوب امتثال أوامرك ونواهيك فعلا وكفا وهذا شأن جميع المؤمنين ، والمعنى نحمدك حمد المؤمنين .

وقوله : " وخضع لعزك القاهر ودان " الخضوع : التطامن والتواضع ، ومنه خضع النجم : إذا مال للمغيب ، وخضع الإنسان خضعا : أمال رأسه إلى الأرض ودنا منها ، والله أعلم .

ولا بد للمؤمن الكامل ما تضمنته هذه الجملة من الصفات ، وهي الإيمان [ ص: 74 ] القلبي حتى بالقدر ، والعمل البدني مع الانقياد والاستسلام والخضوع ، قال الله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون [ المؤمنون : 1 - 2 ] ، فذكر الإيمان ، وهو أكبر وظائف القلب ، والصلاة ، وهي أكبر وظائف البدن ، والخشوع وهو أكبر الوظائف المشتركة بينهما ، لأن الخشوع تواضع يكون في القلب ، ثم يظهر على الجوارح ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في رجل رآه يصلي وهو يعبث ، فقال . لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه

التالي السابق


الخدمات العلمية