صفحة جزء
[ ص: 28 ] الثالثة : في القرآن المجاز ، خلافا لقوم . لنا : الوقوع نحو جناح الذل ، و نارا للحرب ، و يريد أن ينقض ، وهو كثير ، قالوا : يلزم أن يكون الله متجوزا . وأجيب : بالتزامه ، وبالفرق بأن مثله توقيفي .


المسألة " الثالثة " من المسائل المتعلقة بكتاب الله سبحانه وتعالى ، وهو أن " في القرآن المجاز " ، أي : هو يشتمل على الحقيقة والمجاز ، " خلافا لقوم " ، وهم الظاهرية والرافضة ; فإنهم منعوا جواز وقوعه في القرآن . " لنا : الوقوع " ، إلى آخره ، أي : لنا أنه قد وقع المجاز في القرآن ، والوقوع يستلزم الجواز ; فمن نازع في الجواز ; فالوقوع يدل عليه بالالتزام ، ومن نازع في الوقوع ; فهو يدل بنفسه .

وبيان وقوعه قوله تعالى : واخفض لهما جناح الذل [ الإسراء : 24 ] ، والجناح حقيقة للطائر من الأجسام ، والمعاني والجمادات لا توصف به . وقوله سبحانه وتعالى : كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله [ المائدة : 64 ] ، وإنما هو كناية عن إثارة أسباب الحرب ، أو عن نفس الحرب ، تشبيها لها بالنار ، بجامع الكرب فيهما ، وشدة وقعهما على النفوس ، كقول الشاعر :

[ ص: 29 ]

ليس الشجاع الذي يحمي كتيبته يوم النزال ونار الحرب تشتعل

وقوله تعالى : فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض [ الكهف : 77 ] ، والجدار لا إرادة له ; إذ الإرادة حقيقة من خصائص الحيوان أو الإنسان ، وإنما هو كناية عن مقاربته الانقضاض ; لأن من أراد شيئا قاربه ; فكانت المقاربة من لوازم الإرادة ; فتجوز بها عنها . " وهو كثير " يعني : الكلام المجازي كثير في القرآن ، نحو : واسأل القرية [ يوسف : 82 ] ، وجزاء سيئة سيئة مثلها [ الشورى : 40 ] ، حتى يثخن في الأرض [ الأنفال : 67 ] ، ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين [ الأعراف : 130 ] ، وحقيقة الإثخان في المائعات ، والأخذ في التناول باليد ، ونحو ذلك كثير يعسر استقصاؤه .

قوله : " قالوا : يلزم أن يكون الله تعالى متجوزا " مستعيرا ; لأن مستعمل المجاز يسمى في اللغة متجوزا ، والتجوز : استعارة اللفظ لغير موضوعه ; فيلزم أن يسمى الله تعالى كذلك ، لكنه لا يسمى ; فلا يكون المجاز واقعا في القرآن .

قوله : " وأجيب بالتزامه وبالفرق " ، أي : أجاب بعض الأصوليين عن هذا الإلزام بجوابين :

أحدهما : التزامه : وهو صحة تسميته سبحانه وتعالى متجوزا ، بمعنى أنه مستعمل للمجاز ، وليس فيه نقص ولا محذور ، كما يسمى متكلما باستعماله للكلام .

الجواب الثاني : منع الملازمة ، وهو : أنا لا نسلم أنه لو تكلم بالمجاز ، لزم أن يسمى متجوزا ، والفرق بين الله سبحانه وتعالى وغيره ، أن تسمية الله سبحانه [ ص: 30 ] وتعالى بالأسماء ، ووصفه بالصفات توقيفية ، أي : إنما تتلقى من جهة التوقيف ، لا من جهة التصرف . الاشتقاقي والقياسي ، بخلاف غيره في ذلك ، وهذا معنى قولنا : " وبالفرق بأن مثله " ، أي : بأن مثل هذا - وهو تسمية البارئ جل جلاله - " توقيفي " .

قلت : اختلفوا في أنه : هل يجوز أن يشتق لله تعالى من أفعاله وصفاته أسماء بدون التوقيف ، مثل قولنا : فارش ، من قوله تعالى : والأرض فرشناها [ الذاريات : 48 ] ، ومنبت ، من قوله تعالى : فأنبتنا فيها حبا [ عبس : 27 ] ، ونحو ذلك على قولين ، اختار الغزالي في كتابه " المقصد الأسنى " الجواز ، والأكثرون على المنع ، والله تعالى أعلم .

ومن أدلة النافين أن المجاز لا ينبئ بنفسه عن معناه ; فوقوعه في القرآن ملبس ، ومقصود القرآن البيان . وجوابه : أن البيان يحصل بالقرينة ; فلا إلباس .

ومنها أن العدول إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة ، أو يدل عليه ، والعجز على الله تعالى محال .

وجوابه بمنع ذلك ، بل المجاز له فوائد سبق ذكر بعضها .

ومنها أن كلام الله تعالى حق ، بمعنى أنه صدق ، ليس بكذب ولا باطل ، لا بمعنى أن جميع ألفاظه مستعملة في موضوعها الأصلي ، وكونه له حقيقة معناه أنه [ ص: 31 ] موجود له في نفسه بناء وتأويل ، وأنه ليس بخيال لا وجود له في الخارج ، كالمنام ، والله تعالى أعلم .

وأيضا : فإنه كلام عربي ; فهو مشتمل على المجاز ، وقابل لوقوع المجاز ; فالقرآن كذلك ، وإلا لم يكن عربيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية