صفحة جزء
[ ص: 32 ] الرابعة : في القرآن المعرب ، وهو ما أصله أعجمي ، ثم عرب ، خلافا للقاضي والأكثرين . لنا : قول ابن عباس وعكرمة : ناشئة الليل حبشية ، ومشكاة هندية ، و إستبرق و سجيل فارسية .

قالوا : تحدي العرب بغير لسانهم ممتنع ، ثم ذلك ينفي كون القرآن عربيا محضا ، والنص أثبته ، وقوله عز وجل : أأعجمي وعربي ظاهر في إنكاره بتقديره ، ولا حجة في منع صرف إسحاق ونحوه ; لأنه علم ، والكلام في غيره ، والألفاظ المذكورة مما اتفق فيه اللغتان ، كالصابون ، والتنور .

وأجيب بأن الألفاظ اليسيرة الدخيلة لا تنفي تمحض اللغة عرفا ، كأشعار كثير من العرب ، مع تضمنها ألفاظا أعجمية ، وتحديهم كان بلغتهم فقط . أو : لما عربت صار لها حكم العربية ، و أأعجمي وعربي متأول على خلاف ما ذكرتم ، واتفاق اللغتين بعيد ، والأصل عدمه .


المسألة " الرابعة : في القرآن المعرب " ، أي : القرآن مشتمل على الكلام المعرب - بتشديد الراء وفتحها - " وهو ما أصله أعجمي ، ثم عرب " أي : استعملته العرب نحو استعمالها لكلامها ; فقيل له : معرب ، توسطا بين العجمي والعربي ، خلافا للقاضي أبي يعلى ، والقاضي أبي بكر ، والأكثرين .

" لنا " ، أي : على وقوع المعرب في القرآن - " قول ابن عباس وعكرمة : ناشئة الليل " ، في قوله تعالى : إن ناشئة الليل هي أشد وطئا [ المزمل : 6 ] حبشية " [ ص: 33 ] ومشكاة : لغة هندية ، وإستبرق و سجيل : لغة فارسية ، وهما من أهل التفسير والعلم بالقرآن ، خصوصا ابن عباس ترجمان القرآن ، الذي دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " اللهم علمه الحكمة " رواه الترمذي ، وهو متفق عليه ; فيجب المصير إلى قولهما .

وذكر ابن فارس في كتاب " فقه اللغة " ، قال : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ومجاهد ، وابن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، وغيرهم من أهل العلم أنهم قالوا في أحرف كثيرة : إنها بلغات العجم ، منها : طه ، واليم ، والطور ، والربانيون ، [ ص: 34 ] يقال : إنها سريانية ، والصراط ، والقسطاس ، والفردوس ، يقال : هي رومية . ومشكاة ، و كفلين من رحمته [ الحديد : 28 ] ، يقال : هي حبشية ، وهيت لك ، يقال : هي بالحورانية .

[ ص: 35 ] قال : وزعم أهل العربية أن القرآن ليس فيه من كلام العجم شيء ، وأنه كله بلسان عربي مبين .

قلت : الحق أن فيه ألفاظا معربة كما ذكرنا ، لكن الألفاظ المذكورة عن هؤلاء أكثرها عربي محض ، وقد صنف ابن الجواليقي كتابا سماه " المعرب " ، وذكر فيه ألفاظا وقعت في القرآن معربة .

قوله : " قالوا : تحدي العرب بغير لسانهم " ، إلى آخره ، هذه أدلة المانعين لوقوع المعرب في القرآن ، وهي من وجوه :

أحدها : أن القرآن نزل معجزا تحدى به العرب ، أي : تحداهم وبعثهم على معارضته ، تعجيزا لهم ; فلو كان مشتملا على غير العربي المحض ، لكان قد تحداهم بمعارضة ما ليس من لسانهم ، وهو ممتنع ; لأنه تكليف ما لا يطاق ، كما إذا قيل للعجمي المحض : أنشئ لنا مثل السبع الطوال ، أو الأشعار الستة ، ونحوها .

[ ص: 36 ] الوجه الثاني : أن النص أثبت أن القرآن عربي محض ، ولو كان فيه معرب لم يكن عربيا محضا .

أما الأول : فلقوله سبحانه وتعالى : إنا أنزلناه قرآنا عربيا [ يوسف : 2 ] ، وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا [ الأحقاف : 12 ] ، قرءانا عربيا غير ذي عوج [ الزمر : 28 ] ، ونحوه كثير ، وذلك يقتضي تمحض عربيته .

وأما الثاني : فلأن ما اشتمل على عدة ألفاظ أعجمية الأصل ، لا يكون كله عربيا محضا بالضرورة ، كما أن الجيش من العرب ، إذا كان فيه آحاد فرسان من العجم ، لا يكون جيشا عربيا محضا ، فلو لم يكن القرآن عربيا ، لزم خلاف النص على كونه عربيا محضا .

الوجه الثالث : قوله سبحانه وتعالى : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي الآية [ فصلت : 44 ] ، هذا ظاهر في إنكار المعرب بتقدير وقوعه ; لأن تقدير الآية : أنا إنما جعلنا القرآن عربيا ; لأنا لو جعلناه أعجميا لأنكرتموه أيها الكفار ، وقلتم كيف يكون قرآن أعجمي ونبي عربي ، وظاهر الآية أنه لو وقع ذلك وأنكروه لكان لهم فيه الحجة ، وذلك يقتضي أنه عربي محض ، لتقوم به الحجة ، ولا يتجه لهم إنكاره .

قوله : " ولا حجة في منع صرف " إسحاق " ونحوه " ، إلى آخره ، هذا جواب من منكري المعرب عن سؤال مقدر لمثبتيه ، وذلك أنهم قالوا : ومن الدليل على أن في القرآن ألفاظا أعجمية الأصل ، أن إبراهيم ، وإسحاق ، وإسماعيل ، ويعقوب ونحوها ، غير منصرفة لاجتماع العلمية والعجمة فيها ، وما اتصف بالعجمة ; فهو [ ص: 37 ] أعجمي ، ثم استعملت العرب هذه الألفاظ على نهج لغتها ; فصارت أعجمية معربة ، وهو المطلوب .

فأجاب النافون عن ذلك بأن منع صرف إسحاق ونحوه ، لا حجة فيه على أن في القرآن معربا ; لأن هذه أعلام ، وليس النزاع في الأعلام ، إنما النزاع في غيرها وهي أسماء الأجناس ، نحو : ديباج ، وفرند ، ونيروز ، وآجر ، وإبريسم ، وإهليلج ، وإطريفل ولجام ونحوه .

قوله : والألفاظ المذكورة ، إلى آخره ، هذا جواب من منكري المعرب عما استدل به مثبتوه من لفظ ناشئة ، ومشكاة ، وإستبرق ، وسجيل ، ونحوه .

وتقريره : أن هذه الألفاظ ليست أعجمية ، بل هي عربية وافقت ألفاظ العجم فاتفقت فيها اللغتان المعروفتان عندنا في اللغتين جميعا ، وسنذكر جملة من ذلك آخر المسألة إن شاء الله تعالى ، وحينئذ لا يكون في الألفاظ المذكورة حجة على وقوع المعرب في القرآن ; لأنها على ما ذكرناه ليست معربة ، بل عربية وافقت ألفاظ العجم .

قوله : " وأجيب " أي : عن الوجوه المذكورة التي احتج بها المانعون .

أما عن الأول ، وهو قولهم : تحدي العرب بغير لغتهم ممتنع ، ولا نسلم أن وقوع المعرب في القرآن يستلزم تحديهم بغير لغتهم ; لأن الواقع من المعرب في القرآن ألفاظ يسيرة ، دخيلة من غير لغته ، وهي لا تنفي تمحض العربية فيه عرفا ، كأشعار كثير من العرب الفصحاء ، هي عربية عرفا باتفاق ، مع تضمنها ألفاظا أعجمية ، وإذا [ ص: 38 ] لم يكن المعرب الواقع في القرآن نافيا لتمحضه عربيا ; فما تحداهم إلا بلغتهم ; لأن تلك الألفاظ الدخيلة لقلتها لا تأثير لها ، وليس هذا كما ذكروه من تكليف العجمي المحض إنشاء مثل السبع الطوال ونحوها ، لكثرته وقلة المعرب في القرآن بالضرورة .

أو نقول : إن تحديهم كان بلغتهم فقط لا بالمعرب ، وفي القرآن من الألفاظ المحضة ما هي كافية بتعجيزهم عن الإتيان بمثله ، وهذا معنى قولنا : " وتحديهم بلغتهم فقط " .

قوله : " أو لما عربت صار لها حكم العربية ، هذا جواب آخر عن هذا السؤال ، أن هذه الكلمات وإن كان أصلها أعجميا ، إلا أن العرب لما استعملتها في لغتها ، صار لها حكم العربية في الإعجاز والتحدي ومخاطبة العرب بها ; فما تحداهم إلا بلغتهم " . فحاصل الأمر منع أنه تحداهم بغير لغتهم ; إما لأن المخالف للغة القرآن فيه قليل ، لا حكم له في نفي تمحضه عربيا ، أو لأنه بالتعريب صار حكمه حكم العربي ، ثم إن أصل الدليل مبني على امتناع تكليف ما لا يطاق ، وهو ممنوع كما سبق ، وقد حصل الجواب عن الوجه الثاني ، وهو أن وقوع المعرب في القرآن ينفي كونه عربيا محضا .

ثم نريد الطعن في مقدمة دليله ، وهو أنا لا نسلم أن النص أثبت أن القرآن عربي محض ، وقولهم : إن قوله سبحانه وتعالى : إنا أنزلناه قرآنا عربيا [ يوسف : 2 ] [ ص: 39 ] ونحوه يقتضي تمحض عربيته ممنوع ، بل يقتضي أنه عربي في غالب ألفاظه ، وأنه عربي حكما لا حقيقة ، بمعنى أنه لم ينف أنه لا معرب فيه ، أو أنه عربي عرفا ، والقرآن مع المعرب الذي فيه يسمى عربيا عرفا كما بينا ، والقول فيما استشهدوا به من الجيش العربي فيه آحاد من العجم كذلك ، اعتبارا بالأكثر ، وإن سلمنا ; فالفرق بينهما : أن آحاد الفرسان لم يحدث فيها ما يصير حكمها حكم العرب ، بخلاف الألفاظ المعربة ; فإنه حدث فيها من تعريب العرب لها ما صير حكمها حكم ألفاظ العرب .

وأما الجواب عن الثالث ، وهو قوله تعالى : ولو جعلناه قرآنا أعجميا [ فصلت : 44 ] ; فقد أجبت عنه في " المختصر " بقولي : " و أأعجمي وعربي متأول على خلاف ما ذكرتم " .

وتقرير الجواب بنحو ما سبق ، وهو أن حجة الكفار ; إنما كانت تقوم لو كان جميع القرآن أعجميا ، أما وغالبه عربي بلغتهم ، وإنما فيه ألفاظ يسيرة من غيره ; فلا ، وحينئذ يصير تأويل الآية : ولو جعلنا هذا القرآن ، أي جميعه ، قرآنا أعجميا ; لأنكروه ، ولقامت حجتهم ، لكن ما جعلنا جميعه أعجميا ; فليس لهم إنكاره ، ولا تقوم لهم بإنكاره حجة ، وهو صحيح ; لأنهم لو قالوا له أنت أتيتنا بألفاظ ليست من لغتنا كالمشكاة ، وسجيل ، ونحوه ، ونحن لا نعرف إلا لغتنا ، لقال لهم : أنا لا أتحداكم بهذه الألفاظ ، بل بالألفاظ العربية المحضة ، التي هي من لغتكم ; فأتوا بمثلها إن كنتم صادقين .

[ ص: 40 ] والجواب عن قولهم : إن مشكاة ونحوها مما اتفق فيه اللغتان بوجهين :

أحدهما : أن اتفاق اللغتين بعيد في العادة ، وإن كان ممكنا لذاته .

الثاني : سلمنا أنه ليس ببعيد ، لكن الأصل عدمه ; فحملكم الألفاظ عليه ، مع نقل العلماء المعتبرين أنها معربة ، حمل على خلاف الأصل ، وهو غير جائز .

واعلم أن هذه المسألة من رياضيات هذا العلم ; فهي كما ذكرناه في مبدأ اللغات ، لا يترتب عليها كبير أمر في فقه اللغات .

تنبيه : ذكر ابن إسحاق في المغازي ، وابن فارس في فقه اللغة ، المسمى بـ الصاحبي ، كلاهما عن أبي عبيد ، ما يدل على أن النزاع في المسألة لفظي . وحاصله : أن في اللغة ألفاظا أصلها أعجمي ، كما قال الفقهاء ، لكن استعملتها العرب ; فعربتها بألسنتها ، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها ; فصارت عربية ، ثم نزل القرآن وقد اختلطت بكلام العرب ; فمن قال : إنها عربية ; فهو صادق ، يعني باعتبار التعريب الطارئ . ومن قال : إنها أعجمية ; فهو صادق ، يعني باعتبار أصلها .

قال أبو عبيد : وإنما سلكنا هذا الطريق لئلا يظن بالفقهاء الجهل بكتاب الله عز وجل ، وهم كانوا أعلم بالتأويل ، وأشد تعظيما للقرآن .

[ ص: 41 ] فائدة تتعلق بالمسألة :

قال الثعالبي في فقه اللغة وأسرار العربية : فصل في ذكر أسماء قائمة في لغتي العرب والفرس على لفظ واحد : التنور ، الخمير ، الرمان ، الدين ، الكنز ، الدينار ، والدرهم .

ثم قال : فصل في أسماء تفردت بها الفرس دون العرب ; فاضطرت العرب إلى تعريبها ، أو تركها كما هي ; فمنها في الأواني : الكوز ، الجرة ، الإبريق ، الطست ، الخوان ، الطبق ، القصعة ، السكرجة .

ومن الملابس : السمور ، السنجاب ، الخز ، الديباج ، السندس ، التاختج ، الراختج .

ومن الجواهر : الياقوت ، الفيروزج ، والبلور .

ومن المأكولات : السميذ ، الجرذق ، والدرمك ، والكعك والسكباج ، والمزيرباج ، والطباهج ، والجوذاب ، الزماورد ، الفالوذج ، اللوزينج ، الجوزينج ، السكنجبين ، الجكنجبين .

[ ص: 42 ] ومن الأفاويه والرياحين : القرفة ، الدارصيني ، الفلفل ، الكراويا ، الزنجبيل ، الخولنجان ، النرجس ، البنفسج ، النسرين ، السوسن ، المرزنجوش ، الياسمين ، الجلنار ، العنبر ، الكافور ، الصندل ، القرنفل .

وذكر فصلا فيما نسبة فارسيته من العربية ، وفصلا في أسماء عربية تتعرب فارسية أكثرها ، وأشياء غير ذلك . ولم أستوف ما ذكره خشية الإطالة ، وكل هذا يدل على أن في اللغة والقرآن معربا ، وطريق الجمع والتوفيق ما قاله أبو عبيد ، ولعل ناظرا ينظر في هذا الكتاب ; فيظن حكايتنا لهذه الألفاظ خروجا عن المقصود ، وليس كذلك ، بل هو محقق للمقصود ومكمل له ، وإنما يعتقد أن ذلك خروج بطال يقنع بحكاية ما يجده في كتب الفقهاء والأصوليين ، وإنما الحزم أخذ كل شيء من مظنته ، ومع ذلك ليت الشخص يصل إلى تحقيق المراد ، لكنه كلما كان اجتهاده أبلغ ، كان بالتحقيق أجدر ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية