صفحة جزء
[ ص: 73 ] والأول : التواتر لغة : التتابع ، واصطلاحا : إخبار قوم يمتنع تواطؤهم على الكذب لكثرتهم ، بشروط تذكر .

وفيه مسائل :

الأولى : التواتر يفيد العلم ، وخالف السمنية ، إذ حصروا مدارك العلم في الحواس الخمس . لنا : القطع بوجود البلدان النائية ، والأمم الخالية ، لا حسا ، ولا عقلا ، بل تواترا . وأيضا المدركات العقلية كثيرة ، منها حصركم المذكور ، فإن كان معلوما لكم ، وليس حسيا ، بطل قولكم ، وإلا فهو جهل ; فلا يسمع . قالوا : لو أفاد العلم لما خالفناكم . قلنا : عناد واضطراب في العقل والطبع ، ثم يلزمكم ترك المحسوسات لمخالفة السوفسطائية .


قوله : " والأول " ، أي : القسم الأول ، " التواتر لغة " : أي : في اللغة " التتابع " .

قال الجوهري : المواترة : المتابعة ، ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة ، وإلا فهي مداركة ومواصلة ، ومواترة الصوم : أن يصوم يوما ، ويفطر يوما أو يومين ، ولا يراد به المواصلة ; لأن أصله من الوتر ، وكذلك : واترت الكتب ; فتواترت ، أي : جاءت بعضها في أثر بعض ، وترا وترا ، من غير أن تنقطع .

قلت : هذا يظهر منه أن التواتر : التتابع المتدارك بغير فصل ; فأما فهم الفصل بين الرسل من قوله سبحانه وتعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى [ المؤمنون : 44 ] ، أي : واحدا بعد واحد ; فليس من اللفظ ، بل مما ثبت من الفترات بينهم ، والذي أجده يبادر إلى الذهن من التواتر ، أنه التتابع المتدارك ، والله سبحانه أعلم .

[ ص: 74 ] قوله : " واصطلاحا " ، أي : والتواتر في الاصطلاح ، أي : اصطلاح الأصوليين وعرفهم : هو " إخبار قوم يمتنع تواطؤهم على الكذب لكثرتهم ، بشروط تذكر " .

فقولنا : إخبار قوم - بكسر الهمزة - : مصدر ، نحو : أخبر إخبارا ، ويجوز فتحها : جمع خبر ، وهو يتناول التواتر ، والآحاد المستفيض ، وغيره ; لأن الجميع أخبار قوم .

وقولنا : " يمتنع تواطؤهم على الكذب " : احتراز من إخبار قوم لا يمتنع تواطؤهم على الكذب ، وهو الآحاد .

وقولنا : لكثرتهم : احتراز من خبر الواحد المعصوم ، كآحاد الملائكة والرسل ; فإنه خبر قوم يمتنع تواطؤهم على الكذب ، بل يمتنع الكذب عليهم أصلا ، وليس بتواتر ، لعدم الكثرة .

وقولنا : " تواطؤهم " : بضم الطاء والهمزة : هو الأصل ; لأنه تفاعل من الوطء ، وتواطيهم بكسر الطاء وبالياء من غير همز : هو منقوص من ذلك ، بأن حذف الهمز وقلبت ضمة الطاء كسرة تخفيفا وأصل الكلمة الهمز في جميع تصاريفها ، والمواطأة : الموافقة .

وقولنا : " بشروط تذكر " ، أي : للتواتر شروط قد ذكرت في مسائله . وفيه مسائل : الأولى : التواتر يفيد العلم ، أي : يحصل العلم بالخبر المتواتر ، وخالف السمنية ، والبراهمة أيضا ، أي : قالوا : لا يفيد العلم بل الظن ، " إذ حصروا " ، أي : إنما خالفوا في إفادة المتواتر العلم ; لأنهم حصروا " مدارك العلم في الحواس [ ص: 75 ] الخمس " ، أي : قالوا : لا سبيل إلى إدراك علم من العلوم إلا بإحدى الحواس الخمس : السمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، واللمس .

تنبيه : قال الجوهري : السمنية - بضم السين وفتح الميم - : فرقة من عبدة الأصنام ، تقول بالتناسخ ، وتنكر وقوع العلم بالأخبار . قال : والبراهمة : قوم لا يجوزون على الله بعثة الرسل .

قلت : إنما ذكرت هذا ; لأني سمعت كثيرا من عامة الفقهاء الأصوليين ، بل وخاصتهم ، يقولون : السمنية - بفتح السين وسكون الميم - ويعتقدونها نسبة إلى السمن المأكول . وبعضهم يقول : السمنية - بضم السين وفتح الميم وتشديدها - وليس فيها تشديد .

قوله : " لنا " ، إلى آخره ، هذا دليل على إفادة التواتر العلم .

وتقريره : أن القطع حاصل لنا بوجود البلدان والأقاليم النائية ، كمكة ، ومصر ، وبغداد ، والهند ، والصين ، وبوجود الأمم الخالية ، كأمة نوح ، وإبراهيم ، وهود ، وصالح ، وغير ذلك مما يكثر ، وحصول العلم بذلك ، لا من جهة الحس ولا العقل ، إنما هو بالتواتر ; فدل على أنه يفيد العلم .

قوله : " وأيضا المدركات العقلية كثيرة " ، إلى آخره ، هذا دليل على إبطال حصرهم مدارك العلم في الحواس الخمس .

وتقريره : أن الأشياء التي تدرك بالعقل كثيرة ، ومن المدركات العقلية حصركم المذكور ، أي : حصركم لمدارك العلم في الحواس الخمس ; لأنكم إنما قررتموه وأدركتموه عقلا . فنقول : هذا الحصر إما أن يكون معلوما لكم ، أو غير معلوم ، فإن كان معلوما لكم ، بطل قولكم : إن مدارك العلم محصورة في الحواس ; لأن هذا علم [ ص: 76 ] قد حصلتموه من غير جهة الحواس ، وإن لم يكن معلوما ، لكان هذا الحصر على ظن ، لكن الظن لا يفيد في هذا الباب ; لأنه من العمليات .

قوله : " قالوا لو أفاد العلم " ، لاشتركنا نحن وأنتم فيه بالضرورة ; خصوصا على رأي من يقول : إنه يفيد العلم الضروري ، ولو اشتركنا جميعا في حصول العلم الضروري من جهة التواتر لما خالفناكم فيه ; لاضطرار حصول العلم لنا إلى الموافقة ، كما أنا لما شاركناكم في العلوم الحسية لم نخالفكم فيها ، فلما لم نشارككم في العلم التواتري ، دل على أنه لا يفيد العلم .

قوله : قلنا : عناد واضطراب في العقل ، هذا جواب دليلهم .

وتقريره : أن مخالفتكم لنا في إفادة التواتر العلم ; إما عناد منكم ، أو اضطراب في عقولكم أو طباعكم ، كما يخالف في الحسيات لاضطراب عقله ومزاجه أو حواسه ، نحو : من يجد طعم العسل مرا ، لغلبة الصفراء عليه .

قوله : " ثم يلزمكم " ، إلى آخره . هذا إلزام على مقتضى دليلهم .

وتقريره : إن لزمنا إنكار إفادة التواتر العلم بمخالفتكم لنا ، لزمكم إنكار إفادة المحسوسات العلم : بمخالفة السوفسطائية لكم .

والجواب عن هذا الإلزام مشترك بيننا وبينكم ; فما أجبتم به السوفسطائية عن إفادة الحواس العلم ; فهو جوابنا لكم عن إفادة التواتر العلم .

تنبيه : وقد وقع ذكر السوفسطائية ها هنا ; فلنذكر هذه النسبة ، وفرق أهلها ومذاهبهم ، تكميلا لفائدة الناظر .

أما نسبتهم فهي لتجاهلهم ; لأن سفسط ، أي : تجاهل ، سموا بذلك لتجاهلهم ، وقيل : لهذياناتهم ، يقال : سفسط في الكلام ، إذا هذى في كلامه .

[ ص: 77 ] وأما فرقهم فثلاث :

إحداهن : اللاأدرية : نسبة إلى اللاأدري ، وهؤلاء يقولون : لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ، ولا انتفاءه ، بل نحن متوقفون في ذلك . ومن شبههم أنهم قالوا : رأينا المذاهب ; فوجدنا أهل كل مذهب يدعون العلم الضروري بصحة مذهبهم ، وخصمهم يكذبهم في ذلك ، وربما ادعى العلم الضروري ببطلان مذهبهم ; فأوجب ذلك التوقف .

الفرقة الثانية : تسمى العنادية : نسبة إلى العناد ; لأنهم عاندوا ; فقالوا : نحن نجزم بأنه لا موجود أصلا ، وعمدتهم ضرب المذاهب ببعض ، والقدح في كل مذهب بالإشكالات المتجهة عليه من غير أهله ، كقولهم : لو كان في الوجود موجود لكان إما ممكنا أو واجبا ، والقسمان باطلان للإشكالات القادحة في الإمكان والوجوب ، ولو كان الجسم موجودا ، لكان قبوله للانقسام ; إما أن يكون متناهيا ، أو لا . والأول : باطل لأدلة نفاة الجوهر الفرد ، والثاني : باطل لأدلة مثبتيه .

الفرقة الثالثة : تسمى العندية ، نسبة إلى لفظ عند لأنهم يقولون : أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس فيها ; فكل من اعتقد شيئا ; فهو في الحقيقة كما هو عنده وفي اعتقاده ; فالعالم مثلا قديم عند من اعتقد قدمه ، محدث عند من اعتقد حدوثه ، كالصفراوي : يجد السكر في فمه مرا ، وغيره يجده حلوا ; فدل على أن الحقائق تابعة للإدراكات .

هذه فرق السوفسطائية ومقالاتهم . وقد اختلف الناس في مناظرتهم ; فقال [ ص: 78 ] بعضهم : لا تجوز ; لأنهم إنما يناظرون بالدليل ، وهم ينكرون حقيقة الدليل ومقدماته وسائر الأشياء ، لكن الطريق إلى قطعهم أن يضربوا ، ويحرقوا بالنار ، حتى يجدوا حقيقة الألم ; فتبطل دعواهم ، وقال قوم : يناظرون ويلزمون أمورا لا بد لهم من تسليمها . مثل أن يقال لهم : هل لمذهبكم هذا حقيقة أم لا ؟ فإن قالوا : لا ; لم يستحق أن يعتمد عليه في إنكار الموجودات ، وإن قالوا : نعم ، أبطلوا قولهم بإنكار الحقائق ، ومثل أن يقال لهم : هل تميزون بين الدخول في النار ، والدخول في الماء ؟ أو بين ضربكم وعدمه ؟ أو بين مذهبكم وما يناقضه ؟ فإن قالوا : نعم ، اعترفوا بالحقائق ، وإلا عرفوا الحقائق بالضرب والإيلام ونحوه ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية