صفحة جزء
[ ص: 179 ] والمأخذ الصحيح لهذه المسألة التحسين العقلي ، فإن المثبت يقول : الأحكام الشرعية حسنها ذاتي لا يختلف باختلاف الشرائع فهي حسنة بالنسبة إلينا فتركنا لها قبيح ، والنافي يقول : حسنها شرعي إضافي فيجوز أن يكون الحكم حسنا في حقهم قبيحا في حقنا ، وعلى هذا أيضا انبنى الخلاف في جواز النسخ وكونه رفعا كما سبق .

أما قبل البعثة فقيل : كان - صلى الله عليه وسلم - متعبدا بشرع من قبله لشمول دعوته له ، وقيل : لا ؛ لعدم وصوله إليه بطريق علمي ، وهو المراد بزمن الفترة ، وقيل : التوقف للتعارض .


قوله : " والمأخذ الصحيح لهذه المسألة " ، إلى آخره . اعلم أنا لما ذكرنا مأخذ كل واحد من الفريقين في المسألة والاعتراض عليه كما قد رأيت ، لم يتحقق واحد من المأخذين ، فاحتجنا إلى أن نذكر لها مأخذا وجيزا صحيحا ; وهو التحسين العقلي كما سبق شرحه في المسألة . نقول : " الأحكام الشرعية حسنها ذاتي " ، أي : لذواتها ، أو لأوصاف قامت بها ، والحسن الذاتي ونحوه " لا يختلف في شرعنا بالنسبة إلينا ، كتحريم القتل ، والزنى ، والقذف ونحو ذلك ، وإذا كانت الأحكام حسنة حسنا لا [ ص: 180 ] يتغير ، كان تركنا لها قبيحا ؛ لأن ترك الحسن قبيح ، كما أن ترك القبيح حسن .

" والنافي " في المسألة " يقول " : حسن الأحكام ليس ذاتيا ، بل هو " شرعي إضافي " ، أي : هو مستفاد من أمر الشرع ونهيه بالإضافة إلى المأمور والمنهي .

وحينئذ " يجوز أن يكون الحكم حسنا في حقهم ، قبيحا في حقنا " ، بناء على أنهم أمروا به ، ونهينا عنه ، كقتل الإنسان نفسه في التوبة من الذنب ، كان حسنا في حق قوم موسى بقوله : ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم [ البقرة : 54 ] الآية . وهو قبيح في حقنا لأنا منهيون عنه ، وإنما التوبة عندنا بالقلب واللسان .

قوله : " وعلى هذا أيضا انبنى الخلاف في جواز النسخ وكونه رفعا ، كما سبق " في باب النسخ أن الخلاف في جوازه وكيفيته مبني على التحسين والتقبيح العقليين .

أما جواز النسخ ، فلأن المانع له يقول : إن كان الحكم المنسوخ حسنا ، كان نسخه قبيحا ، وإن كان قبيحا ، فابتداء شرعه أقبح ، فيمتنع النسخ .

والمجيز له يقول : الحسن والقبح تابعان لأمر الشرع ونهيه ، فيجوز أن يأمر الآن بشيء ، فيكون حسنا ، وأن ينهى عنه فيما بعد ، فيكون قبيحا .

وأما الخلاف في كيفية النسخ ، فلأن من قال بالتحسين والتقبيح ، قال : النسخ بيان انتهاء مدة الحكم ؛ لأن رفع الحسن قبيح ، وابتداء شرع القبيح أقبح ، ومن لم يقل بذلك ، قال : النسخ رفع الحكم ، ولا قبح فيما أمر [ ص: 181 ] الشرع به ، ولا حسن فيما نهى عنه .

قوله : " أما قبل البعثة " ، إلى آخره .

اعلم أن الخلاف في أن شرع من قبلنا شرع لنا هو فيما بعد مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بد ، أما قبل بعثته - عليه السلام - فاختلف الأصوليون :

فقال بعضهم : " كان متعبدا بشرع من قبله " من الأنبياء عليهم السلام " لشمول دعوته له " ، أي : لأن كل واحد من الأنبياء قبله دعا إلى شرعه كل المكلفين ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - واحد منهم ، فيتناوله عموم الدعوة ، ثم اختلف هؤلاء هل كان بشرع نوح وإبراهيم أو موسى وعيسى عليهم السلام .

قلت : ومقتضى دليلهم أن يتعين شرع عيسى - عليه السلام - لذلك ؛ لأن دعوته عمت ، ونسخت ما قبلها من الشرائع ، فبعمومها تناولت النبي - عليه السلام - ، وبنسخها لما قبلها منعت من اتباعه إياه ؛ لأن المنسوخ في حكم المعدوم .

أما عموم دعوته فلوجوه :

أحدها : قوله - سبحانه وتعالى : وجعلنا ابن مريم وأمه آية [ المؤمنون : 50 ] ، وجعلناها وابنها آية للعالمين [ الأنبياء : 91 ] ، ولنجعله آية للناس [ مريم : 21 ] ، والآية : العلامة ، أي : آية على سعادة السعداء باتباعه ، وعلى شقاوة الأشقياء بمخالفته ، وذلك يقتضي عموم الدعوة .

الوجه الثاني : قوله : وجعلني مباركا أين ما كنت [ مريم : 31 ] ، أي : [ ص: 182 ] من اتبعني كنت مباركا عليه ، وذلك يفيد عموم الدعوة .

الوجه الثالث : أن الله - سبحانه وتعالى - سماه ناصرا له ، وكل من كان ناصرا لله - عز وجل ، كان عام الدعوة ، إلا أن يقوم على اختصاصها دليل .

أما أنه كان ناصرا لله - عز وجل ، فلقوله - سبحانه وتعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين [ الصف : 14 ] والتقدير : كونوا أنصار الله كما كان عيسى والحواريون أنصار الله .

وأما أن من كان ناصرا لله - عز وجل - ، كان عام الدعوة إلا أن يقوم دليل مخصص ، فلأن نصرة الله تعالى هي الدعاء إلى توحيده ودينه الحق ، والمصير إلى ذلك واجب على كل أحد ، فإن قام دليل مخصص للدعوة ببعض البلاد كاختصاص دعوة لوط - عليه السلام - بقرى سدوم ، أو ببعض القبائل ، كاختصاص دعوة شعيب بمدين وأصحاب الأيكة ونحو ذلك ، اختصت الدعوة بموجب الدليل .

الوجه الرابع : قوله - سبحانه وتعالى - : ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله [ المائدة : 116 ] الآية ، ولفظ الناس عام ، وهو يدل على أنه أرسل إلى الناس عموما ، فغلا بعضهم ، فاتخذوه إلها .

الوجه الخامس : قوله تعالى : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ الأحقاف : 35 ] ، وعيسى منهم ، وكانت دعوة أولي العزم عامة ، فكذلك عيسى .

أما قوله - سبحانه وتعالى : ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل [ ص: 183 ] [ آل عمران : 48 - 49 ] ، فلا يقدح فيما ذكرناه من أدلة عموم دعوته ؛ لأن المرسل إلى الناس مرسل إلى كل جزء وطائفة منهم ، وبنو إسرائيل طائفة من الناس الذين أرسل إليهم .

وأما أن شريعته نسخت ما قبلها من الشرائع ، فلأن شريعة موسى نسخت ما قبلها ، وشريعة عيسى نسخت شريعة موسى بدليل قوله تعالى حكاية عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل : ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم [ آل عمران : 50 ] ، يعني في شرع التوراة ، وذلك هو حقيقة النسخ ، ولا يشترط في نسخ الشريعة نسخ جميعها ، بل يكفي في تسميتها منسوخة نسخ بعض أحكامها ، بدليل أن شريعة محمد - عليه الصلاة والسلام - نسخت كل شريعة قبلها ، مع أنها قررت بعض الأحكام ، فلم تنسخ ، فثبت بما ذكرته أن من قال بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان قبل بعثته متعبدا بشرع من قبله يلزمه أن يعين لذلك شريعة عيسى ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم : أنا أولى الناس بابن مريم ، إنه لم يكن بيني وبينه نبي .

وقال بعض الأصوليين ; منهم أبو الحسين البصري ، وجماعة من المتكلمين : لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - متعبدا بشرع من قبله ؛ لأنه لم يصل " إليه بطريق علمي " لطول المدة ، واختلاف أحوال النقلة ، " وهو المراد بزمن الفترة " وأيضا لئلا يلحقه الغض بتبعية من قبله .

وتوقف قوم في ذلك لتعارض الدليل فيه ، وهم القاضي عبد الجبار ، والغزالي ، وجماعة من الأصوليين .

قلت : من المتجه أنه كان متعبدا بالإلهام ، أي : يلهمه الله تعالى عبادات [ ص: 184 ] يتعبد بها ، ويخلق فيه علما ضروريا بمشروعيتها له ، وبمعرفة تفاصيلها . وهذا أحسن ما يقال في تعبده - عليه الصلاة والسلام - قبل البعثة ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية