صفحة جزء
[ ص: 79 ] الثانية : العلم التواتري ضروري عند القاضي ، نظري عند أبي الخطاب ، ووافق كلا آخرون .

الأول : لو كان نظريا ، لما حصل لمن ليس من أهل النظر ، كالنساء والصبيان ، ولأن الضروري ما اضطر العقل إلى التصديق به ، وهذا كذلك .

الثاني : لو كان ضروريا ، لما افتقر إلى النظر في المقدمتين ، وهي اتفاقهم على الإخبار ، وعدم تواطئهم على الكذب .

والخلاف لفظي ، إذ مراد الأول بالضروري : ما اضطر العقل إلى تصديقه ، والثاني : البديهي : الكافي في حصول الجزم به تصور طرفيه ، والضروري منقسم إليهما ; فدعوى كل ، غير دعوى الآخر ، والجزم به حاصل على القولين .


المسألة " الثانية : العلم التواتري " أي : الحاصل عن خبر التواتر ، " ضروري عند القاضي " أبي يعلى " نظري " ، أي : يحصل بالنظر ، ويتوقف عليه عند أبي الخطاب ووافق كلا آخرون ، أي : كل واحد من القاضي وأبي الخطاب ، وافقه على قوله آخرون ، أي : جماعة من أهل العلم .

أما القاضي ; فوافقه الجمهور ، وأما أبو الخطاب فوافقه الكعبي ، وأبو الحسين البصري من المعتزلة ، وإمام الحرمين ، والغزالي ، والدقاق من أصحاب الشافعي ، واختار الآمدي الوقف لقيام الشبهة الضعيفة عنده من الطرفين .

قوله : " الأول " أي : احتج الأول - وهو القائل بأنه ضروري - بوجهين :

أحدهما : أن العلم التواتري " لو كان نظريا ، لما حصل لمن ليس من أهل النظر ، كالنساء والصبيان " ، والحمقى ، ونحوهم . لكنه حاصل لهؤلاء ; فلا يكون [ ص: 80 ] نظريا ; فيكون ضروريا ، وهذا الوجه بين بنفسه .

الوجه الثاني : أن العلم " الضروري ما اضطر العقل إلى التصديق به ، وهذا " ، أي العلم التواتري ، كذلك فيكون ضروريا ; لأنه مشتق من اضطرار العقل إلى التصديق به ، أو منسوب إليه ، ولا يشك أحد ممن بلغه وجود مكة بالتواتر ، في أن عقله يضطره إلى التصديق به .

قوله : " الثاني " ، أي احتج الثاني ، وهو القائل بأن العلم التواتري نظري ، بأنه " لو كان ضروريا ، لما افتقر إلى النظر " ، لكنه افتقر إلى النظر ; فلا يكون ضروريا . أما الملازمة ; فظاهرة ، وأما انتفاء اللازم ، أعني : افتقار هذا العلم إلى النظر ; فلأنه يتوقف حصوله على مقدمتين :

إحداهما : أن هؤلاء اتفقوا على الإخبار بوجود مكة مثلا .

والثانية : أن تواطؤهم على الكذب يمتنع عادة ; فلزم من المقدمتين حصول العلم الضروري بطريق الإنتاج القياسي .

وتقريره على الوجه الصناعي أن وجود مكة مثلا ، أخبر به جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة ، وكل ما أخبر به جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة ; فهو معلوم ; فوجود مكة معلوم ، ولا نعني بالعلم النظري إلا هذا .

قلت : وأجاب الأولون عن هذا بأن المقدمات التي يتوقف حصول هذا العلم على النظر فيها حاصلة في أوائل الفطرة ; فهو لا يحتاج إلى كبير تأمل ، ومثله لا يسمى [ ص: 81 ] نظريا ; إنما النظري ما توقف على أهلية النظر ، وليس هذا كذلك . هذا ما أجابوا به ، وهو جيد ، لا بأس به .

قوله : " والخلاف لفظي " إلى آخره . هذا مبني على جهة الوساطة بين الفريقين ، جمعا بين القولين ، وذلك لأن القائل بأنه ضروري ; لا ينازع في توقفه على النظر في المقدمات المذكورة ، والقائل بأنه نظري ; لا ينازع في أن العقل يضطر إلى التصديق به ، وإذا وافق كل واحد من الفريقين صاحبه على ما يقوله في حكم هذا العلم وصفته ; لم يبق النزاع بينهما إلا في اللفظ ، وهو أن الأول سمى ما يضطر العقل إلى التصديق به - وإن توقف على مقدمات نظرية - ضروريا ، والثاني سمى ما يتوقف على النظر في المقدمات - وإن كانت فطرية بينة - نظريا ، وخص الضروري بالبديهي ، وهو الكافي في حصول الجزم به تصور طرفيه ، كقولنا : الواحد نصف الاثنين ، فإن من تصور حقيقة الواحد ; وتصور حقيقة الاثنين ; حصل له العلم بأن الواحد نصف الاثنين .

وهذا معنى قولي : " إذ مراد الأول بالضروري ما اضطر العقل إلى تصديقه " ، أي : سواء توقف على مقدمات بينة أو لا ، " والثاني " : أي : ومراد الثاني بالضروري ، " البديهي الكافي في حصول الجزم به " أي : التصديق الجازم به تصور طرفيه ، أعني الموضوع والمحمول ، وإن شئت المحكوم والمحكوم عليه ، نحو : العالم موجود ، والمعدوم لا يكون موجودا حال عدمه ، والقديم لا يكون [ ص: 82 ] حادثا ، وبالعكس فيهما . بخلاف قولنا : العالم حادث ، أو ليس بقديم ; فإنه لا بد في التصديق به من واسطة ; فنقول : العالم مؤلف ، وكل مؤلف محدث ، أو ليس بقديم .

قوله : " والضروري منقسم إليهما " ، أي : العلم الضروري منقسم إلى البديهي ، الذي يدرك بالبديهة ، من غير احتياج إلى واسطة نظر ، وإلى ما اضطر العقل إلى التصديق به بواسطة النظر .

قوله : " فدعوى كل " ، أي كل واحد من الفريقين ، " غير دعوى الآخر " ، هذا بيان لعدم توارد حجة الفريقين على مورد واحد ; لأن الأول يقول : هو ضروري متوقف على الوساطة البينة ، والآخر يقول : ليس بديهيا غنيا عن الواسطة مطلقا .

وقد بينا أن كل واحد منهما موافق للآخر على قوله ، " والجزم به حاصل على القولين " ، أي : كل واحد من الخصمين يقول : إن التواتر مفيد العلم الجازم ، لكن تنازعا في تسميته ضروريا أو نظريا .

قلت : قد سبق عند ذكرنا للعمل أنه الحكم الجازم المطابق لموجب ، وأن ذلك الموجب إما عقل ، أو سمع ، أو مركب منهما ، وهو التواتر ; لتركبه من نقل النقلة ، ونظر السامع في المقدمتين المذكورتين ; فصار التواتر كالواسطة بين القسمين ; فلذلك وقع فيه النزاع ، وعلى هذا يترتب تقسيم العلم إلى قطعي وظني . والقطعي : إما بديهي محض ، أو نظري محض ، أو متوسط بينهما ، وهو التواتري ، كما قد رأيت ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية