صفحة جزء
[ ص: 83 ] الثالثة : قيل : ما حصل العلم في واقعة ، أو لشخص ، أفاده في غيرها ، ولغيره ممن شاركه في السماع ، من غير اختلاف . وهو صحيح إن تجرد الخبر عن القرائن ، أما مع اقترانها به ; فيجوز الاختلاف ، إذ لا يبعد أن يسمع اثنان خبرا ، يحصل لأحدهما العلم به ، لقرائن احتفت بالخبر ، اختص بها دون الآخر ، وإنكاره مكابرة .

ويجوز حصول العلم بخبر الواحد مع القرائن ، لقيامها مقام المخبرين في إفادة الظن وتزايده حتى يجزم به ، كمن أخبره واحد بموت مريض مشف ، ثم مر ببابه ; فرأى تابوتا بباب داره ، وصراخا ، وعويلا ، وانتهاك حريم ، ولولا إخبار المخبر ، لجوز موت آخر .


المسألة " الثالثة : قيل : ما حصل العلم في واقعة ، أو لشخص ، أفاده في غيرها ، ولغيره ممن شاركه في السماع " . هذا قول القاضي أبي بكر ، وأبي الحسين البصري ; فيما ذكره الآمدي . أما الشيخ أبو محمد فقال : ذهب قوم إلى هذا ; فيجوز أن يكون أراد أحد هذين ، أو هما ، أو غيرهما .

ومعنى الكلام : أن ما أفاد العلم من الأخبار في واقعة معينة ، وجب أن يفيده في كل واقعة غيرها ، وما أفاد العلم شخصا من الناس ، وجب أن يفيده لكل شخص غيره إذا شاركه في سماع ذلك الخبر ، " من غير اختلاف " ، أي : لا يجوز أن يختلف الخبر ; فيفيد العلم في واقعة دون أخرى ، ولا لشخص دون آخر .

قوله : " وهو صحيح إن تجرد الخبر عن القرائن " ، أي : هذا القول ; إما أن يكون مع تجرد الخبر عن القرائن ، أو لا مع تجرده ، فإن كان مع تجرده عن القرائن ; فهو صحيح ; لأن حكم المثلين واحد . فإذا أخبر مائة نفس زيدا بموت عمرو ، وحصل [ ص: 84 ] له العلم بخبرهم ; وجب أن يفيد بشرا خبر مائة نفس بموت بكر ، أو تزوجه ، أو حصول ولد له ، ونحو ذلك ، لاستواء القضايا والأشخاص في ذلك .

وإن كان ما ذكروه مع اقتران قرائن بالخبر ; فلا يلزم ، بل يجوز الاختلاف ، أي : اختلاف إفادة الخبر العلم باختلاف الأشخاص والوقائع ، إذ لا يبعد ، ولا يمتنع ، أن يسمع اثنان خبرا واحدا ، وقد احتفت بذلك الخبر قرينة أو قرائن ، اختص بعلمها أحدهما ; فيحصل له العلم بالخبر مع القرينة ، دون الآخر ، لعدم ظهوره على تلك القرينة ، وذلك لأن القرائن قائمة مقام بعض المخبرين ; فيصير كما لو أخبر أحدهما تواترا والآخر آحادا . ومثال ذلك : ما لو قال رجل لزيد وعمرو : قد تزوج بكر ، ويكون زيد قد رأى بكرا بالأمس يشتري جهاز العرس ، دون عمرو . أو يخبرهما المخبر بموت بكر ، ويكون زيد قد علم أنه مريض ميئوس منه ، دون عمرو ; فإنا نعلم بالضرورة أن زيدا يحصل له زيادة العلم بهذه القرينة ما لا يحصل لعمرو من ذلك الخبر ، علما أو غلبة ظن ، " وإنكاره مكابرة " .

قوله : " ويجوز حصول العلم بخبر الواحد مع القرائن ، لقيامها مقام المخبرين في إفادة الظن وتزايده حتى يجزم به " . معنى هذا الكلام أن العلم بخبر التواتر يحصل على جهة التزايد التدريجي ، وذلك لأن أول مخبر للإنسان بخبر يحرك عنده ظن ذلك الخبر على حسب ذلك المخبر في صدقه وعدالته ، وتيقظه وذكائه ، ثم كلما أخبره بذلك الخبر مخبر بعد مخبر ، تزايد ذلك الظن بإخبارهم ، حتى يبلغ القطع واليقين في نفسه .

[ ص: 85 ] وإذا ثبت هذا ; فالقرائن المحتفة بالخبر تقوم مقام آحاد المخبرين في إفادة الظن وتزايده ; لأنا نجد تأثيرها في أنفسنا بالضرورة ، وإذا كانت بمثابة المخبرين ; جاز بالضرورة أن يحصل العلم بخبر الواحد معها ; لأن مخبرا واحدا مع عشرين قرينة يتنزل منزلة أحد وعشرين مخبرا ، بل ربما أفادت القرينة الواحدة ما لا يفيده خبر جماعة من المخبرين ، بحسب ارتباط دلالتها بالمدلول عليه عقلا .

قوله : " كمن أخبره واحد بموت مريض " ، إلى آخره . هذا مثال المسألة ، وهو أن الواحد منا لو أخبره واحد من الناس بموت مريض كنا نعلم أنه مشف على الموت ، " ثم مررنا بباب ذلك المريض ; فرأينا عليه تابوتا " ، أي : نعشا ، وصراخا وعويلا داخل الدار ، وانتهاك حريم ; فإنا نجزم بموت الشخص الذي أخبرنا بموته .

وقوله : " ولولا إخبار المخبر لجوز موت آخر " ، هذا جواب سؤال مقدر ، تقديره أن يقال : لا نسلم أن الموجب لعلمنا بموت المريض المذكور هو خبر ذلك الواحد ، بل الموجب له تلك القرائن التي رأيناها .

وجوابه : أن الدليل على أن الموجب للعلم بموته خبر الواحد مع تلك القرائن ، لا القرائن بمجردها ، أنه لولا خبر ذلك الواحد ، لما اختص العلم بموت ذلك المريض المعين ، بل كنا نجوز موت شخص آخر غيره ; لأن القرائن المذكورة ، إنما أفادتنا أن في هذه الدار ميتا لا بعينه ، وأما خصوصية كونه فلانا المريض بعينه ; فإنما استفدناه من خبر الواحد ; فالقرائن مفيدة لأصل الموت ، والخبر مفيد لتعيين الميت ، وقد بينا أن القرائن كالمخبرين ، ولو أخبرنا جماعة أن في هذه الدار ميتا ، ثم أخبرنا آخر أن الميت المذكور هو فلان ، لحصل لنا العلم بموت فلان ، مستندا [ ص: 86 ] إلى مجموع الخبرين ; فلذلك إذا أفادتنا القرائن موتا مطلقا ، وأفادنا الخبر ميتا معينا ، فإن خبر المخبر جزء من مستند العلم بالموت في الصورتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية