صفحة جزء
[ ص: 87 ] الرابعة : شرط التواتر : إسناده إلى عيان محسوس ، لاشتراك المعقولات . واستواء الطرفين والواسطة في كمال العدد .

وأقل ما يحصل به العلم ، قيل : اثنان ، وقيل : أربعة ، وقيل : خمسة ، وقيل : عشرون ، وقيل سبعون ، وقيل غير ذلك . والحق أن الضابط حصول العلم بالخبر ; فيعلم إذن حصول العدد ، ولا دور ، إذ حصول العلم معلول الإخبار ودليله ، كالشبع والري ، معلول المشبع والمروي ودليلهما ، وإن لم يعلم ابتداء القدر الكافي منهما .

وما ذكر من التقديرات تحكم ، لا دليل عليه . نعم ، لو أمكن الوقوف على حقيقة اللحظة التي يحصل لنا العلم بالمخبر عنه فيها ، أمكن معرفة أقل عدد يحصل العلم بخبره ، لكن ذلك متعذر ، إذ الظن يتزايد بزيادة المخبرين تزايدا خفيا تدريجيا ، كتزايد النبات ، وعقل الصبي ، ونمو بدنه ، وضوء الصبح ، وحركة الفيء ; فلا يدرك .


المسألة " الرابعة : شرط التواتر إسناده إلى عيان محسوس " ، هذا هو الكلام في شروط التواتر التي سبق الوعد بذكرها ، وهي ثلاثة :

أحدها : أن يكون مستندا إلى مشاهدة حسية ، بأن يقال : رأينا مكة وبغداد ، ورأينا موسى وقد ألقى عصاه ; فصارت حية تسعى ، ورأينا المسيح وقد أحيا الموتى ، ورأينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - وقد انشق له القمر ، وسمعناه يتلو القرآن ، ويتحدى العرب به فعجزوا عن معارضته .

ولا يصح التواتر عن معقول ، لاشتراك المعقولات في إدراك العقلاء لها ; فليس اعتمادنا فيها على إخبار المخبرين مفيدا لنا ما ليس عندنا ; لأن مستندهم في الإخبار عن ذلك النظر في أن العالم مثلا محدث ، ونحن يمكننا أن ننظر فيه ; فنعلم [ ص: 88 ] أنه محدث ; بخلاف المحسوسات ، فإن بعض الناس يختص بها دون بعض ; فكان الإخبار عنها مفيدا للسامع ما ليس عنده ، وما قد لا يكون له إلى مشاهدته سبيل لبعد المكان ، كمن بالصين بالنسبة إلى مكة ومصر ، أو لانقضاء الزمان ، كأهل عصرنا مثلا بالنسبة إلى عصر موسى عليه السلام ، وما قبله من الأعصار والأمم .

الشرط الثاني : استواء الطرفين والواسطة في كمال العدد ، أي : يكون عدد التواتر المعتبر المذكور بعد موجودا في طرفي الخبر وواسطته .

فالطرفان : أحدهما : الطبقة المشاهدة للمخبر عنه ، كالصحابة المشاهدين لنبينا عليه السلام .

والثاني : الطبقة المخبرة لنا بوجوده ، والواسطة ما كان بينهما من طبقات المخبرين . فتكون كل واحدة من هذه الطبقات مستكملة لعدد التواتر ; فلو نقص بعضها عن عدد التواتر ، خرج الخبر عن كونه متواترا ; لأنه قد صار آحادا في وقت من الأوقات ; فلا ينقلب متواترا بعد . وبمثل هذا وقع الطعن في توراة اليهود ، وإنجيل النصارى ، وما نقلوه عن أسلافهم ، وذلك لأنهم قلوا - بقتل بختنصر لأكثرهم - عن عدد التواتر ، فلم يفد ما نقلوه العلم ، وكذلك النصارى ، كانوا على عهد المسيح عليه السلام ، وبعده بمدة طويلة ، قليلا ، لا يحصل بهم التواتر على ما ذكره ابن حزم عنهم .

الشرط الثالث : العدد من شروط التواتر ، وما يقوم مقام العدد من القرائن كما [ ص: 89 ] سبق تقريره ، وقد اختلف فيه : هل هو معلوم المقدار أو لا ؟ فمن زعم أنه معلوم المقدار . اختلفوا فيه أيضا .

فقيل : أقل ما يحصل به العلم اثنان ; لأنهما بينة مالية .

وقيل : أربعة ; لأنهم بينة في الزنى ، وجزم القاضي أبو بكر بأن خبرهم لا يفيد العلم ; لأنه لو أفاد العلم ، لما احتاجوا إلى التزكية في الشهادة بالزنى ; لكنهم يحتاجون إليها إجماعا ; فلا يفيد خبرهم العلم .

وقيل : خمسة ; عدد أولي العزم من الرسل ، وهم على الأشهر : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد عليهم السلام . وتوقف القاضي أبو بكر في حصول العلم بخبرهم لاحتماله ، وإنما منعه من ذلك في الأربعة الإجماع على احتياجهم إلى التزكية ، والتواتر لا يحتاج إلى العدالة .

وقيل : عشرون ، لقوله سبحانه وتعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين [ الأنفال : 65 ] ، ويلزم قائل هذا أن يجعلهم مائة ، بل ألفا ، تعيينا وتخييرا ، لما في سياق الآية من ذكر المائة والألف من المؤمنين .

وقيل : سبعون ، عدد الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات ربه سبحانه وتعالى .

وقيل غير ذلك ، كقول من قال : أربعون ، لقوله تعالى : ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [ الأنفال : 64 ] ، وكانوا حينئذ أربعين .

وقيل : ثلاثمائة ، عدد أصحاب طالوت ، وأهل بدر .

قال القرافي حكاية عن غيره : أو عشرة ، عدد أهل بيعة الرضوان .

قلت : وهو وهم ; لأن أهل بيعة الرضوان ، وهي بيعة الحديبية تحت الشجرة ، [ ص: 90 ] كانوا ألفا وخمسمائة . والمذكور في " الروضة " هو الأقوال الخمسة الأول .

قوله : " والحق أن الضابط حصول العلم بالخبر " ، أي : الضابط في حصول عدد التواتر حصول العلم بالخبر ; فمتى حصل العلم بالخبر المجرد عن القرائن ، علمنا حصول عدد التواتر ، وإنما قيدنا الخبر بكونه مجردا عن القرائن ; لأنا قد بينا أن خبر الواحد يفيد العلم مع القرائن ، ولا عدد فيه ; فلا يلزم من مطلق حصول العلم حصول العدد ، وإن كانت القرائن قد تفيد منضمة إلى عدد ما .

قوله : " ولا دور " ، جواب سؤال مقدر .

وتقريره : أن حصول العلم فرع على حصول العدد ; فلو عرف حصول العدد بحصول العلم ، لكان دورا .

وجوابه : لا نسلم أن ذلك دور ; لأن حصول العلم معلول الإخبار ودليله ; فالإخبار علة حصول العلم ، ومدلول له ، والاستدلال على وجود العلة بوجود المعلول لا دور فيه ، وإلا لما صح الاستدلال على وجود الصانع بوجود العالم ; لأنه علته والموجد له ، ولأن العلة لازم المعلول ، والاستدلال على وجود اللازم بوجود الملزوم لا خلاف في صحته ، وهو من أقوى طرق الاستدلال ، وهذا كما نقول في الشبع : هو معلول الطعام المشبع ودليله ، أي دليل المشبع ، إذ لا شبع إلا بمشبع ، والري : معلول الشراب المروي ودليله ، إذ لا ري إلا بمرو ، وإن لم يعلم القدر الكافي من [ ص: 91 ] المشبع والمروي ابتداء ، فإن الإنسان يأكل ويشرب ، ولا يعلم القدر الكافي له في الشبع والري قبل أن يشبع ، لكن إذا شبع وروي ، علم أنه قد تناول من الطعام قدرا مشبعا ، ومن الشراب قدرا مرويا ; فكذلك ما نحن فيه ، لا نعلم مقدار العدد المحصل للعلم ما هو ، فإذا حصل العلم بالخبر ، علمنا حصول العدد المحصل للعلم ; لأنه لازم لحصول العلم وشرط له ، والمشروط والملزوم يدلان على وجود اللازم والشرط ، وهذا معنى قولنا : " ولا دور " ، إذ حصول العلم معلول الإخبار ودليله ، كالشبع والري معلول المشبع والمروي ودليلهما ، وإن لم يعلم ابتداء - أي عند ابتداء الأكل - القدر الكافي منهما .

قوله : " وما ذكر من التقديرات " ، يعني ما سبق من الاثنين والثلاثة والأربعة وما بعدها ، " تحكم لا دليل عليه " ; لأن الجمهور على أن الله سبحانه وتعالى يخلق العلم عند حصول العدد المخبر ، وليس العلم متولدا عن خبر التواتر ، كما قال شذوذ من الناس ; لأن كل شيء سوى الله تعالى وصفاته ممكن ، وكل ممكن فهو مقدور له ، وكل مقدور له ; فإنما يوجد بإيجاده ، وحصول العلم ممكن مقدور فيكون موجودا بإيجاد الله سبحانه وتعالى .

وإذا ثبت أن العلم التواتري مخلوق لله تعالى ; جاز أن يخلقه عند إخبار القليل والكثير ; فما من عدد يفرض إلا وخلق العلم ممكن عند أقل منه وأكثر ، وإذا كان المؤثر في حصول العلم الخلق ; فعدد التواتر سبب معتاد لا تأثير له في [ ص: 92 ] إيجاد العلم ، وحينئذ لا يكون مرتبطا به ; حتى يقدر ما يحصل به من العدد بمقدار معين .

قوله : " نعم لو أمكن الوقوف " ، إلى آخره معنى هذا الكلام : أن العدد المحصل للعلم التواتري غير مقدر كما ذكرنا ، لكن إذا خلق الله سبحانه وتعالى العلم عند عدد ما ; فالوقوف على مقدار ذلك العدد ممكن في نفسه ليس محالا ; لكنا لا نقدر على الوقوف عليه لعسره ومشقته ; لا لامتناعه واستحالته ، " فلو أمكن الوقوف على حقيقة اللحظة التي يحصل لنا العلم بالمخبر عنه فيها " ، لأمكننا أن نعرف " أقل قدر يحصل العلم بخبره ، لكن ذلك متعذر " ، لما ذكرنا قبل وهاهنا ، من أن الظن يتزايد بزيادة المخبرين تزايدا خفيا تدريجيا ، أي : على التدريج شيئا يسيرا بعد شيء يسير ، " كتزايد النبات ، وعقل الصبي ، ونمو بدنه " ، وأبدان سائر الحيوان ، " وضوء الصبح ، وحركة الفيء " لخفاء حركة الشمس في فلكها لبعدها ; فكذلك الظن ، يتحرك بأول مخبر ، ثم يزيد بالثاني ، والثالث ، وهلم جرا ، حتى يحصل العلم ; فلو حصل العلم مثلا بإخبار الخامس ، وأمكننا أن ندرك ذلك ، علمنا أن هذه الخمسة قد أفادت العلم ، أو بإخبار السادس ، أو السابع فصاعدا ; فكذلك .

واعلم أن في قولنا هذا في " المختصر " نظرا ، وذلك لأنا إذا قلنا : إن العلم يخلقه الله تعالى عند إخبار المخبرين ; لم يلزم من وقوفنا على حقيقة اللحظة التي يحصل [ ص: 93 ] لنا العلم بالمخبر عنه فيها أن نعلم أقل قدر يحصل العلم بخبره مطلقا ; لجواز أن يخلقه الله سبحانه وتعالى في هذه الواقعة عند إخبار عشرة ، وفي الأخرى عند إخبار أقل من ذلك أو أكثر ; فاعلم ذلك ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية