صفحة جزء
[ ص: 96 ]

مع تقريب الإفهام على الأفهام ، وإزالة اللبس عنه مع الإبهام . حاويا لأكثر من علمه ، في دون شطر حجمه ، مقرا له غالبا على ما هو عليه من الترتيب ، وإن كان ليس إلى قلبي بحبيب ولا قريب . سائلا من الله تعالى وفور النصيب ، من جميل الأجر ، وجزيل الثواب ، ودعاء مستجاب ، وثناء مستطاب ، اللهم فهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .


قوله : " مع تقريب الإفهام " هو مكسور الهمزة ، وهو التفهيم أيضا ، يقال : أفهمته إفهاما ، وفهمته تفهيما ، فهما مصدران لفعلين من المادة ، كالإكرام والتكريم ، غير أن التفهيم والتكريم يفيد المبالغة والتكرير على الأفهام ، وهو بفتح الهمزة جمع فهم ، وهو القوة التي يدرك بها معنى الكلام ، والمعنى : أني مع اختصار الكتاب لفظا والزيادة فيه معنى ، قربته على الأفهام بتسهيل ألفاظه ووضعها مواضعها ، بحيث إن من سمع ظواهر ألفاظه مطلقا أو غالبا ، فهم باطن معانيه ، ورب عبارة ليست كذلك ، بل يحتاج في تنزيلها على المراد إلى تكلف وتعسف ، وهذا المراد بقوله : " وإزالة الإبهام " بالباء الموحدة ، ويصح أن يكون بالياء المثناة من أسفل ، وفيه من حيث اللفظ لبس ، لكنه من حيث القرينة وسياق الكلام زائل . أما وجه اللبس من حيث اللفظ ، فإن قوله : " مع الإبهام " يحتمل أني أزلت اللبس والإبهام فاصطحبا في الزوال عن الكلام وهذا هو المراد ، وعليه دل سياق [ ص: 97 ] الكلام وقرينته ، لأنه وصفه بالتقريب والظهور ، ولا يتحقق إلا بذلك .

ويحتمل أني ألفت الكتاب مع الإبهام ، فيكون الاصطحاب بين التأليف والإبهام في الوقوع ، لكنه ليس مرادا ، لأنه ينافي سياق الكلام ، ويناقض قوله : " مع تقريب الإفهام على الأفهام " وأما زوال اللبس من حيث القرينة فبما ذكرته .

والإبهام : هو اشتباه جهات الحق ، فلا تعلم عين جهته يقال : أمر مبهم : لا يدرى ما وجهه .

قوله : " حاويا لأكثر من علمه " أي لأكثر من علم كتاب " الروضة " " في دون شطر حجمه " أي : نصف مقداره ، وهذا التقدير معروف بالعيان لمن قابل بين الكتابين . و " حاويا " : منصوب على الوجهين في قوله : " غير خال " ويجوز على الوجه الثالث فيه .

قوله : " مقرا له غالبا على ما هو عليه من الترتيب ، وإن كان ليس إلى قلبي بحبيب ولا قريب " مقرا : في إعرابه الوجوه الثلاثة المذكورة في " غير خال " .

ومعنى الكلام : أن غالب ترتيب الشيخ أبي محمد في " الروضة " أقررته على ما هو عليه لم أغيره ، وإن كان ترتيبه ليس بحبيب إلي ، ولا قريب إلى قلبي ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وذلك لأني مختصر لكتابه ، وحقيقة الاختصار : هو ذكر جميع المعنى دون اللفظ ، وتغيير الترتيب لا مدخل له في ذلك ، غير أني تصرفت في ترتيبه تصرفا ما ، بحسب ما ينبغي ويقرب على الفهم .

فمن ذلك تقديم المقدمة المذكورة أوله ، لاشتمالها على فصول هي كليات للكتاب ، أو كالكليات ، وتقديم الأمور الكلية على الجزئية معلوم الحسن بمناسبة العقل ، لأن الكليات هي قواعد يرد إليها ، وينبني عليها جزئيات العلم المتكلم [ ص: 98 ] فيه .

ووجه عدم محبتي لترتيب الشيخ أبي محمد وقربه من قلبي أنه رتب كتابه على ثمانية أبواب ، هكذا : حقيقة الحكم وأقسامه ، ثم تفصيل الأصول الأربعة ، ثم بيان الأصول المختلف فيها ، ثم تقاسيم الأسماء ، ثم الأمر والنهي ، والعموم والاستثناء ، والشرط ، ودليل الخطاب ، ونحوه ، ثم القياس ، ثم حكم المجتهد ، ثم الترجيح .

وقد كان القياس تقديم تقاسيم الأسماء ، وهو الكلام في اللغات لتوقف معرفة خطاب الشرع على فهمها ، لوروده بها ، لكن العذر للشيخ أبي محمد عن هذا أنه تابع في كتابه الشيخ أبا حامد الغزالي في " المستصفى " حتى في إثبات المقدمة المنطقية في أوله ، وحتى قال أصحابنا وغيرهم ممن رأى الكتابين : إن " الروضة " مختصر " المستصفى " ويظهر ذلك قطعا في إثباته المقدمة المنطقية ، مع أنه خلاف عادة الأصوليين من أصحابنا وغيرهم ، ومن متابعته على ذكر كثير من نصوص ألفاظ الشيخ أبي حامد .

فأقول : إن الشيخ أبا محمد التقط أبواب " المستصفى " ، فتصرف فيها بحسب رأيه ، وأثبتها ، وبنى كتابه عليها ، ولم ير الحاجة ماسة إلى ما اعتنى به الشيخ أبو حامد من درج الأبواب تحت أقطاب الكتاب ، أو أنه أحب ظهور الامتياز بين الكتابين باختلاف الترتيب ، لئلا يصير مختصرا لكتابه ، وهو إنما يصنع كتابا مستقلا في غير المذهب الذي وضع فيه أبو حامد كتابه ، لأن أبا حامد أشعري شافعي ، وأبو محمد حنبلي أثري ، وهو طريقة الحكماء الأوائل وغيرهم ، لا تكاد تجد لهم كتابا في طب أو فلسفة إلا وقد ضبطت مقالاته وأبوابه في أوله ، بحيث يقف الناظر الذكي من مقدمة الكتاب على ما في أثنائه من تفاصيله . [ ص: 99 ]

أبو حامد المنهج ، وجعل كتابه دائرا على أربعة أقطاب :

الأول : في الأحكام والبداية بها ، لأنها الثمرة المطلوبة .

والثاني : في الأدلة المثمرة للأحكام ، إذ ليس بعد معرفة الثمرة أهم من معرفة المثمر .

الثالث : في طريق الاستثمار ، وهو بيان وجه دلالة على الأحكام في المنطوق وغيره .

الرابع : في المستثمر ، وهو المجتهد المستخرج للحكم من الدليل .

ولما كان المقلد يقابله ، وجب بيان حكمه عنده ، ثم بين كيفية اندراج تفاصيل أصول الفقه مع كثرتها تحت هذه الأقطاب الأربعة بيانا ثانيا أبسط من هذا ، وهو واضح ظاهر ، ولم أذكره لطوله ، ثم بين تفاصيل ذلك بيانا ثالثا على عادة الأصوليين في استيفاء التفصيل .

وقد يورد على أبي حامد في ترتيبه أنه كان يقدم الأدلة ، ثم الأحكام ، ثم وجه الاستدلال بالأدلة ، ثم أحكام المجتهدين ، لأن الترتيب الوجودي في اجتناء الأثمار من الأشجار الذي جعله نظيرا لاستخراج الأحكام من الأدلة كذلك ، لأن الشجرة قبل الثمرة ، ثم إذا وجدت الثمرة توصل المجتني إلى تحصيلها ، غير أن أبا حامد قد نبه على جواب هذا بقوله : لأنها الثمرة المطلوبة ، إشارة إلى تقديم ما هو مطلوب لغيره ، وهو الأدلة ووجه دلالتها . [ ص: 100 ]

وأما المقدمة المنطقية فقد بين الشيخ أبو حامد أنها لا تختص بعلم الأصول ، بل هي آلة لكل علم ، وإنما هي في أصول الفقه كالعلاوة ألحقها بعض من غلب عليه الكلام به لشدة الفهم له ، والفطام عن المألوف شديد ، ولذلك كل من غلب عليه علم وألفه ، مزج به سائر علومه ، يعرف ذلك باستقراء تصانيف الناس ، وبهذا تبين أن الشيخ أبا محمد كان في كتابه متابعا لأبي حامد ، لأن الشيخ أبا محمد لم يكن متكلما ولا منطقيا حتى يقال : غلب عليه علمه المألوف ، فلما ألحق المقدمة بكتابه ، دل على أن ذلك لمحض المتابعة ، وقد أخبرنا الثقات أن الشيخ إسحاق العلثي عاتب أبا محمد في إلحاقه هذه المقدمة ، وأنكر عليه ، فأسقطها من " الروضة " بعد أن انتشرت بين الناس فلهذا توجد في نسخة دون نسخة ، فتركي لاختصارها في جملة الكتاب كان لأمور :

أحدها : ما صح عنه من رجوعه .

والثاني : أن النسخة التي اختصرت منها لم تكن المقدمة فيها .

والثالث : وهو المعول عليه أني أنا لا أحقق ذلك العلم ، ولا الشيخ أيضا كان يحققه ، فلو اختصرتها لظهر بيان التكليف عليها من الجهتين ، فلا يتحقق [ ص: 101 ] الانتفاع بها للطالب ، ويقطع عليه الوقت ، فمن أراد ذلك العلم فعليه بأخذه من مظانه من شيوخه وكتبه ، وإذا كان الشيخ أبو حامد الذي هو الأصل في ذلك ولم يعلم أحد قبله ألحق المنطق بأصول الفقه ، اقتصر في مقدمة كتابه ، وأحال من أراد الزيادة في ذلك على كتابيه : " معيار العلم " و " محك النظر " فمن هو تبع له في ذلك أولى بالإحالة على كتب الفن ، ولم نعلم أحدا تابع أبا حامد من المتأخرين على إلحاق المنطق بالأصول إلا ابن الحاجب ، وحسبك من ذلك أن الإمام فخر الدين الذي هو إمام المتأخرين في المنطق والكلام ولم يذكر في كتبه الأصولية شيئا منه .

وقد رتب جماعة من الأصوليين أصول الفقه ترتيبا حسنا ، فمنهم الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله على ما حكينا عنه ، ومنهم الشيخ سيف الدين الآمدي رحمه الله في " المنتهى " وغيره ، فإنه رتبه على أربعة أصول :

الأول : في تحقيق مبادئه .

الثاني : في الدليل وأقسامه وأحكامه .

الثالث : في أحوال المجتهدين والمفتين والمستفتين .

الرابع : في ترجيحات طرق المطلوبات .

وهو ترتيب مختصر جامع انتظم جميع ما يحتاج إليه في هذا العلم ، على ما فصله في كتابه ، ويقع التنبيه عليه عند ذكرنا تقسيم غيره .

ومنهم الشيخ أبو إسحاق في " اللمع " حيث قال : وأما أصول الفقه ، فهي الأدلة التي يبنى عليها الفقه ، وما يتوصل به إلى الأدلة على سبيل الإجمال .

والأدلة هاهنا : خطاب الله عز وجل ، وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأفعاله وإقراره ، [ ص: 102 ] وإجماع الأمة ، والقياس ، والبقاء على حكم الأصل عند عدم هذه الأدلة ، وفتيا العالم في حق العامة . وما يتوصل به إلى الأدلة ، فهذا الكلام على تفصيل هذه الأدلة ووجوبها وترتيب بعضها على بعض .

وأول ما نبدأ به : الكلام في خطاب الله عز وجل وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأنهما أصل لما سواهما من الأدلة ، ويدخل في ذلك أقسام الكلام ، والحقيقة والمجاز ، والأمر والنهي ، والعموم والخصوص ، والمجمل والمبين ، والناسخ والمنسوخ .

ثم الكلام في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره ، لأنها تجري مجرى أقواله في البيان .

ثم الكلام في الأخبار لأنها طريق إلى معرفة ما ذكرناه من الأقوال والأفعال .

ثم الكلام في الإجماع ، لأنه ثبت كونه دليلا بخطاب الله عز وجل ، وخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعنهما ينعقد الإجماع .

ثم الكلام في القياس لأنه ثبت كونه دليلا بما ذكرناه من الأدلة وإليها يستند .

ثم ذكر حكم الأشياء في الأصل ، لأن المجتهد إنما يفزع إليه عند عدم هذه الأدلة .

ثم نذكر فتيا العالم ، وصفة المفتي والمستفتي ، لأنه إنما يصير طريقا للحكم بعد العلم بما ذكرناه .

ثم نذكر الاجتهاد ، وما يتعلق به بعد ذلك إن شاء الله تعالى ، هذا كلام الشيخ أبي إسحاق بلفظه .

ومنهم الإمام فخر الدين أبو عبد الله الرازي رحمه الله ، قال في " المحصول " : الفصل العاشر في ضبط أبواب أصول الفقه : وقد عرفت أن أصول الفقه عبارة عن [ ص: 103 ] مجموع طرق الفقه ، وكيفية الاستدلال بها ، وكيفية حال المستدل بها .

أما الطرق : فهي إما عقلية ، ولا مجال لها عندنا في الأحكام ، خلافا للمعتزلة حيث قالوا : حكم العقل في المنافع الإباحة ، وفي المضار التحريم . أو سمعية ، وهي إما منصوصة أو مستنبطة .

أما المنصوصة : فهي إما قول أو فعل يصدر عمن لا يجوز الخطأ عليه ، وهو الله تعالى ورسوله ومجموع الأمة ، والصادر عن الرسول وعن الأمة إما قول أو فعل ، والفعل لا يدل إلا مع القول ، فتكون الدلالة القولية مقدمة على الدلالة الفعلية ، والدلالة القولية إما أن يكون النظر في ذاتها ، وهي الأوامر والمناهي . وإما في عوارضها ، إما بحسب متعلقاتها ، وهي العموم والخصوص ، أو بحسب كيفية دلالتها ، وهي المجمل والمبين ، والنظر في الذات مقدم على النظر في العوارض ، فلا جرم باب الأمر والنهي مقدم على باب العموم والخصوص .

ثم النظر في العموم والخصوص نظر في متعلق الأمر والنهي ، والنظر في المجمل والمبين نظر في كيفية تعلق الأمر والنهي بتلك المتعلقات ، ومتعلق الشيء مقدم على النسب العارضة بين الشيء ومتعلقه ، فلا جرم قدم باب العموم والخصوص على باب المجمل والمبين ، وبعد الفراغ منه لا بد من باب الأفعال .

ثم هذه الدلالة تارة ترد لإثبات الحكم ، وتارة لرفعه ، فلا بد من باب النسخ ، وإنما قدمناه على باب الإجماع ، لأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وكذا القياس ، ثم ذكرنا بعده باب الإجماع ، ثم هذه الأقوال والأفعال قد يحتاج إلى التمسك بها من لم يشاهد من صدرت عنه ، ولا أهل للإجماع فلا تصل إليه هذه الدلالة إلا [ ص: 104 ] بالنقل ، فلا بد من البحث عن النقل الذي يفيد العلم ، والنقل الذي يفيد الظن ، وهو باب الأخبار .

وهذه جملة أبواب أصول الفقه بحسب الدلائل المنصوصة .

ولما كان التمسك بالمنصوصات إنما يمكن بواسطة اللغات وجب تقديم باب اللغات على الكل .

وأما الدليل المستنبط فهو القياس .

فهذه أبواب طرق الفقه .

أما أبواب كيفية الاستدلال بها ، فهو باب الترجيح .

وأما كيفية حال المستدل بها ، فالذي ينزل حكم الله تعالى به ، إن كان عالما فلا بد له من الاجتهاد ، وهو باب شرائط الاجتهاد وأحكام المجتهدين ، وإن كان عاميا ، فلا بد له من الاستفتاء ، وهو باب المفتي والمستفتي .

ثم نختم الأبواب بذكر أمور اختلف المجتهدون في كونها طرقا إلى الأحكام الشرعية .

فهذه مجموع أبواب أصول الفقه : أولها اللغات ، ثم الأمر والنهي ، ثم العموم والخصوص ، ثم المجمل والمبين ، ثم الأفعال ، ثم الناسخ والمنسوخ ، ثم الإجماع ، ثم الأخبار ، ثم القياس ، ثم الترجيح ، ثم الاجتهاد ، ثم الاستفتاء ، ثم الأمور المختلف في كونها طرقا للأحكام ، فهي ثلاثة عشر بابا .

هذا كلامه بلفظه إلا أحرفا يسيرة لخصتها منه .

ولم يذكر المطلق والمقيد ، لأنه أدرجه في كتاب العموم والخصوص ، وهذا تقسيم وترتيب لا مزيد عليه .

ومنهم الشيخ الإمام الأوحد شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس المالكي ، المعروف بالقرافي ، جعل كتابه " التنقيح " مشتملا على مائة فصل وفصلين يجمعها عشرون بابا . [ ص: 105 ]

الباب الأول في الاصطلاحات ، ثم في معاني الحروف ، ثم في تعارض مقتضيات الألفاظ ، ثم في الأوامر ، ثم في النواهي ، ثم في العمومات ، ثم في أقل الجمع ، ثم في الاستثناء ، ثم في الشروط ، ثم في المطلق والمقيد ، ثم في دليل الخطاب ، ثم في المجمل والمبين ، ثم في فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم في النسخ ، ثم في الإجماع ، ثم في الأخبار ، ثم في القياس ، ثم في التعارض والترجيح ، ثم في الاجتهاد ، ثم في أدلة المجتهدين .

وهو قريب من الترتيب قبله ومقتضب منه ، وهو كثيرا ما يأتم بالإمام أبي عبد الله الرازي فيما يصح عنده ، على جهة التأدب والاعتراف بالفضيلة .

ومنهم من مشايخ أصحابنا القاضي أبو يعلى رحمه الله ، قال في " العدة " : الذي نقول : إن أصول الفقه وأدلة الشرع ثلاثة أضرب : أصل ، ومفهوم أصل ، واستصحاب حال . والأصل : ثلاثة أضرب : الكتاب والسنة وإجماع الأمة . والكتاب ضربان : مجمل ومفصل . والسنة ضربان : مسموع من النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنقول عنه .

والكلام في المنقول ، في سنده من حيث التواتر والآحاد ، وفي متنه من حيث هو قول أو فعل أو إقرار على واحد منهما ، والإجماع يذكر .

ومفهوم الأصل : ثلاثة أضرب : مفهوم الخطاب ، ودليله ، ومعناه . واستصحاب الحال : ضربان : أحدهما : استصحاب براءة الذمة ، والثاني : استصحاب حكم الإجماع بعد الخلاف . هذا حاصل كلامه لخصته أنا ، وفي ظاهر لفظه مناقشة ، وهو أنه قال في متن الحديث : إنه على ضربين : قول ، وفعل ، وإقرار على قول أو فعل . وهذه ثلاثة أضرب لا ضربان ، فلعله جعل الإقرار نوعا من الفعل ، وجعلهما [ ص: 106 ] جميعا قسيم القول ، فصار تقديره : المتن ، إما قول أو فعل ، والفعل ينقسم إلى مباشرة ، وإقرار على مباشرة ، ولا يستقيم كلامه إلا بهذا .

قال القاضي : وقد قيل : إن أصول الفقه وأدلة الشرع على ضربين : أحدهما : ما طريقه الأقوال ، والآخر : الاستخراج .

فأما الأقوال : فهي النص والعموم والظاهر ومفهوم الخطاب وفحواه والإجماع .

وأما الاستخراج : فهو القياس . قال القاضي : والأول أصح ، لأنه أعم لوجود دليل الخطاب واستصحاب الحال فيه ، وذلك حجة عندنا .

قال : ولم أذكر قول الصحابي إذا لم يخالفه غيره ، لأنه مختلف فيه عن أحمد رحمه الله ، وسأذكره في باب مفرد ، هذا معنى كلام القاضي .

والضبط الذي اختاره وحكاه عن غيره كلاهما ناقص ضبط بالنسبة إلى ما ذكرناه عن الشيخ أبي إسحاق والإمام فخر الدين .

ومنهم الشيخ الإمام الأوحد نجم الدين أبو محمد عبد المنعم بن علي بن نصر بن منصور بن الصيقل الحراني الحنبلي ، ضبط مقالات أصول الفقه ضبطا حسنا محققا ، فقال :

أصول الفقه : هو العلم بأدلة الأحكام الشرعية ، ووجوه دلالتها إجمالا لا تفصيلا .

وقد اشتمل هذا الحد على ذكر العلم والأدلة والأحكام الشرعية ووجوه دلالتها ، وهي أجزاء الحد المذكور ، فوجب أن يفرد لكل جزء منها مقالة ، فاشتمل كتابنا لهذا المعنى على أربع مقالات :

المقالة الأولى : في العلم .

المقالة الثانية : في الأحكام الشرعية . [ ص: 107 ]

المقالة الثالثة : في الأدلة .

المقالة الرابعة : في وجوه دلالتها .

قال : وقدمنا النظر في العلم ، لأنه كالتمهيد لسائر المقالات ، لا يوقف عليها إلا بعد تحقيق القول في العلم . وقدمنا النظر في الأحكام على الأدلة ، لأن الدليل يراد للإيصال إلى معرفة الحكم ، والحكم يراد لذاته ، فكان تقديم ما يراد لذاته على ما يراد لغيره أولى . وقدمنا النظر في الأدلة على النظر في وجوه دلالتها ، لأنها حالة للدليل ، فكان النظر فيما له الحال مقدما على النظر في الحالة .

قال : والنظر في هذه المقالات على وجه الاستقصاء متسرب إلى جميع مسائل الأصول .

قلت : ذكر هذا في كتاب " النكت والإشارات في الأصول النظريات " وجدت منه إلى مسألة الواجب المخير .

وهذا الضبط والتقسيم على إجمال فيه ، شبيه في التلخيص والاختصار بضبط الشيخ سيف الدين الآمدي رضي الله عنهم أجمعين .

هذا الذي تهيأ لي الوقوف عليه من ضبط الناس لأصول الفقه ، وقد تكلم الناس فيه بما لم أقف عليه ، والكل موصل إلى المقصود ، لكن الكلام في أحسن الطرق إيصالا . وأخصر ما حكيناه من الطرق طريقة الآمدي ، وابن الصيقل . وأبينه وأبسطه طريقة الشيخ أبي إسحاق ، والإمام فخر الدين .

ولي فيه طريقة متوسطة جامعة ، وإن كانت لا تخرج عن حقيقة ما قالوه ، لكن [ ص: 108 ] الكيفية متغايرة ، وهو أن المقصود من وضع الشريعة : امتثال المكلفين لأحكامها قولا وعملا .

فالحكم الشرعي له مصدر ، وهو الشرع ، ومورد ، وهو المكلف الذي يتلقاه ليمتثله .

ثم مورد الحكم - وهو المكلف - قد يكون مجتهدا يستقل بمعرفة الحكم عن دليله ، فلا حاجة له إلى واسطة ، وقد يكون قاصرا عن ذلك ، وحكمه التقليد للمجتهد ، فهو واسطة بين المقلد والشرع في إيصال الحكم ، فوجب لذلك النظر في الحكم ودليله ومورده .

وهو ضربان : المجتهد ، والمقلد ، والنظر في الحكم يستلزم النظر في متعلقاته ، وهي الحاكم ، وهو الشارع ، والمحكوم عليه ، وهو المكلف من حيث هو مكلف ، لا من حيث هو مجتهد ولا مقلد ، والمحكوم فيه ، وهو الأفعال المتصفة بالحكم الشرعي من وجوب وندب وكراهة وحظر وصحة وفساد .

والنظر في الدليل يستدعي النظر في أقسامه ، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والاستصلاح واستصحاب الحال ، وغير ذلك مما زاد فيه المجتهدون ونقصوا .

والنظر في مورد الحكم يستدعي الكلام في الاجتهاد والتقليد والمجتهد والمقلد من حيث هما كذلك .

فهذا ضبط جامع ، متوسط بين الإجمال المخل والبيان الممل ، وهي طريقة غريبة لا توجد إلا هاهنا .

أما ترتيب كتابنا هذا المختصر ، فستراه عن قريب إن شاء الله تعالى .

قوله : " سائلا من الله تعالى وفور النصيب " أي ألفت هذا الكتاب سائلا ، ودل على ذلك قوله : في تأليف كتاب . وفور النصيب : كماله ، أي أن يكمل [ ص: 109 ] نصيبي " من جميل الأجر وجزيل الثواب " . سأل الله تعالى أن يحسن له الأجر في كيفيته بكونه جميلا ، وفي كميته بكونه جزيلا ، أي : كثيرا . والأجر والثواب واحد ، لكن سهل تكراره اختلاف اللفظ .

قوله : " ودعاء مستجاب ، وثناء مستطاب ، اللهم فهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " أي : وفور النصيب من دعاء مستجاب ، وثناء مستطاب ، أي : يدعو لي من ربما ينتفع بشيء من هذا الكتاب ، فيستجيب الله منه في . ولقد طالما نظرت في كتب الفضلاء ، فإذا رأيت فائدة مستغربة ، أو حل أمر مشكل ، أقرأ لمصنف الكتاب شيئا من القرآن ، وأجعل له ثوابه على مذهبنا في ذلك ، وإن كان المصنف ممن لا يعتقد وصوله ، فأنا أرجو من الناس مثل ذلك ، فإنه يقال : كما تكونوا يولى عليكم .

أما قولي : " وثناء مستطاب " فلفظ أثبته عند اختصار الكتاب ، ونفسي تنفر منه ، إذ لم يخطر ببالي حينئذ إلا ثناء الناس ، وذلك محض الرياء المذموم ، والذي جرأني على ذلك التأسي بصاحب " المفصل " حيث قال في خطبته : أنشأت هذا الكتاب مناصحة لمقتنيه ، أرجو أن أجتني منها ثمرتي دعاء يستجاب وثناء يستطاب . [ ص: 110 ]

وأما الآن - وقت الشرح - فإنه خطر لي تخريجها على وجه صحيح ، وهو طلب الثناء من الله سبحانه وتعالى ، فإنه سبحانه لكرمه قد يشكر من العبد ما هو دون هذا ، ويثني عليه به ، إذا علم نيته فيه ، والأعمال بالنيات . فإن صح لي هذا التأويل مع تراخي الزمان هذا التراخي ، وإلا فأنا أستغفر الله من هذه اللفظة ، ولا على من كتب هذا المختصر أن يسقطها .

" اللهم فهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " . ختمت الخطبة بلفظ آية من القرآن تبركا .

التالي السابق


الخدمات العلمية