صفحة جزء
[ ص: 105 ] الأولون : لو أفاد العلم لصدقنا كل خبر نسمعه ، ولما تعارض خبران ، ولجاز نسخ القرآن وتواتر السنة به ، ولجاز الحكم بشاهد واحد ، ولاستوى العدل والفاسق ، كالتواتر . واللوازم باطلة ، والاحتجاج بنحو : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون غير مجد ، لجواز ارتكاب المحرم .


قوله : " الأولون " ، أي : احتج الأولون ، وهم القائلون بأنه لا يفيد العلم بوجوه :

أحدها : لو أفاد خبر الواحد العلم ، لصدقنا كل خبر نسمعه ، لكنا لا نصدق كل خبر نسمعه ; فهو لا يفيد العلم . والملازمة وانتفاء اللازم - وهو تصديقنا كل خبر نسمعه - ظاهران ، غنيان عن البيان .

الوجه الثاني : لو أفاد خبر الواحد العلم ، لما تعارض خبران ; لأن العلمين لا يتعارضان ، كما لا تتعارض أخبار التواتر ، لكنا رأينا التعارض كثيرا في أخبار الآحاد ، وذلك يدل على أنها لا تفيد العلم .

الوجه الثالث : لو أفاد خبر الواحد العلم ، لجاز نسخ القرآن وتواتر السنة به ; لأنه علمي مثلهما ، لكن نسخ القرآن وتواتر السنة به لا يجوز ، لضعفه عنهما ; فدل على أنه لا يفيد العلم .

فأما اختيارنا لنسخ القرآن ، وتواتر السنة به في كتاب النسخ ; فذلك باعتبار القدر المشترك بينهما من الظن ، الذي هو مناط العمل . أما من حيث إنه مساويهما في القوة أو كون ذلك جائزا في المناسبة الحكمية ; فلا .

الوجه الرابع : لو أفاد خبر الواحد العلم ، لجاز الحكم بشاهد واحد ، ولم يحتج [ ص: 106 ] معه إلى شاهد ثان ، ولا يمين عند عدمه ، ولا إلى زيادة على الواحد في الشهادة بالزنى واللواط ; لأن العلم بشهادة الواحد حاصل ، وليس بعد حصول العلم مطلوب ، لكن الحكم بشهادة واحد بمجرده لا يجوز ، وذلك يدل على أنه لا يفيد العلم .

الوجه الخامس : لو أفاد خبر الواحد العلم لاستوى العدل والفاسق في الإخبار ، لاستوائهما في حصول العلم بخبرهما ، كما استوى خبر التواتر في كون عدد المخبرين به عدولا أو فساقا ، مسلمين أو كفارا ، إذ لا مطلوب بعد حصول العلم ، وإذا حصل بخبر الفاسق ، لم يكن بينه وبين العدل فرق من جهة الإخبار ، لكن الفاسق والعدل لا يستويان بالإجماع والضرورة ، وما ذاك إلا لأن المستفاد من خبر الواحد إنما هو الظن ، وهو حاصل من خبر الواحد العدل دون الفاسق .

وهذه الوجوه اشتملت عليها الملازمة المذكورة في قولنا : " لو أفاد العلم لصدقنا كل خبر نسمعه ، ولما تعارض خبران ، ولجاز نسخ القرآن وتواتر السنة به ، ولجاز الحكم بشاهد واحد ، ولاستوى العدل والفاسق " .

وقولنا : " واللوازم باطلة " ، معناه : أن الجملة المذكورة في " المختصر " تضمنت خمس ملازمات ، قد ظهرت في الوجوه الخمسة هاهنا ، وقد سبق بيان الملازمة وشرحها في مسألة تكليف المحال .

واللوازم : جمع لازم ، وهو الواقع في جواب " لو " في قولنا : لو كان كذا لكان كذا ، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم ; فاللوازم هاهنا هي تصديقنا كل [ ص: 107 ] خبر نسمعه ، وعدم تعارض الخبرين ، وجواز نسخ القرآن بخبر الواحد ، وجواز الحكم بشاهد واحد ، واستواء العدل والفاسق .

وانتفاء كل واحد من هذه اللوازم الخمسة يدل على انتفاء ملزومه ، وهو إفادة خبر الواحد العلم ; فهو ملزوم واحد له خمسة لوازم ، وكلها باطلة .

قوله : " والاحتجاج بنحو : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ الأعراف : 33 ] ، غير مجد " ، أي : غير نافع " لجواز ارتكاب المحرم " ، هذا إشارة إلى حجة القائلين بأن خبر الواحد يفيد العلم ، وبيان ضعفها .

أما تقرير حجتهم : فهو أن الله تعالى قال : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن إلى قوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ الأعراف : 33 ] ، أي : هو محرم عليكم ، فلو لم يفد خبر الواحد العلم ، لكان ذلك كذبا لكونه غير مطابق للواقع ، وهو الكذب وذلك لقول الرواة قد كذبوا على الله عز وجل ، وقالوا عليه بغير علم ، وهو حرام .

والجواب عن هذه الحجة أن اللازم منها ارتكاب الرواة المحرم ، وهو الكذب على الله عز وجل ، وليس بممتنع عليهم ، ولا هم معصومون منه ، إذ يجوز أن يرتكبوا الكذب المحرم في الرواية ، أقصى ما في الباب : أنهم لإسلامهم ، وظهور عدالتهم ، لا نظن بهم ذلك ، لكن هذا لا يوجب القطع بصدقهم ، بل الظن ، وهو المطلوب .

وهاهنا جواب آخر لم يذكر في " المختصر " : وهو أنا لا نسلم أن عدم إفادة [ ص: 108 ] خبرهم العلم يستلزم كذبهم ، بل جاز أن يكون ذلك وهما وخطأ في الرواية من غير تعمد ، وذلك مما لا يتعلق به تحريم ولا تحليل .

تنبيه : الخبر إما تواتر ; فهو مفيد للعلم كما سبق ، أو آحاد مجرد ; فلا يفيد العلم قطعا كما تقرر هاهنا ، أو آحاد احتفت به قرائن أفاد معها العلم ; فهو عند بعضهم واسطة بين المتواتر والآحاد ; فليس تواترا ; لأن المخبر به واحد ، ولا آحادا لإفادته العلم .

قلت : ويجوز أن يسمى خبر الواحد خاصا ، لاختصاصه بالقرائن .

وأيضا الخبر إما تواتر : وقد عرف ، أو آحاد : وهو إما مستفيض ، [ أو غير مستفيض ] وهو بقية الآحاد .

قلت : المستفيض مأخوذ من : فاض الماء والإناء ونحوه : إذا امتلأ ، حتى تبدد الماء من حافاته ، كما سبق في شرح الخطبة . والتحقيق في الخبر المستفيض بموجب هذا الاشتقاق ، وبموجب عرف الناس : أنه الخبر الشائع الذائع ، المنتشر في الناس انتشارا يبعد معه الكذب عادة ، وهو الذي يثبت به الموت ، والنسب ، والملك المطلق ، والنكاح ، والوقف ومصرفه ، والعتق ، والولاء ، والولاية ، والعزل ، والخلع ، والطلاق على الصحيح فيه من حيث النظر .

فأما من اعتبر فيه عددا يقع العلم بخبره على ظاهر كلام أحمد والخرقي ; فهو اعتبار التواتر فيه ، وليس بمعتبر في الاستفاضة .

وأما اكتفاء القاضي فيه باثنين فصاعدا ، وقول من قال : ثلاثة فصاعدا ; فليس لأن المستفيض ذلك ، بل لأن الغالب فيما أخبر به اثنان أو ثلاثة فصاعدا أنه مستفيض [ ص: 109 ] عند هذا القائل ، وهو ممنوع . والتحقيق في المستفيض ما ذكرناه .

تنبيه : اعلم أن أخبار الآحاد الصحيحة ، المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمها المحدثون إلى سبعة أقسام :

أحدها : أحاديث البخاري ومسلم : وهو المعبر عنه في عرفهم بالمتفق عليه .

وثانيها : ما انفرد به البخاري عن مسلم .

وثالثها : ما انفرد به مسلم عن البخاري .

ورابعها : ما خرجه الأئمة بعدهما على شرطهما .

وخامسها : ما خرج على شرط البخاري وحده .

وسادسها : ما خرج على شرط مسلم وحده .

وذلك كما في المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم وغيره .

ومعنى التخريج على شرطهما ، أو شرط أحدهما : أنهما - أعني البخاري ومسلما - اختلفا في رواة الحديث ، لاختلاف صفاتهم المعتبرة عندهما ; فاتفقا على الإخراج عن طائفة من الرواة ، وانفرد البخاري بالرواية عن طائفة من الرواة ، وانفرد مسلم بالرواية عن طائفة . فزعم المستدركون عليهما : أنهم قد وجدوا أحاديث قد رواها من خرجا عنه ، اتفاقا وانفرادا ، ومن يساوي من خرجا عنه ; فخرجوها ، وقالوا : هذا استدراك عليهما على شرطهما ، أو شرط واحد [ ص: 110 ] منهما .

وسابعها : ما أخرجه بقية الأئمة ، كأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وغيرهم من أئمة الحديث .

وأعلى هذه الأقسام : الأول وهو المتفق عليه ، وقد اختلف في إفادته العلم ; فزعم ابن الصلاح أنه كان يقول بإفادته الظن ، ثم تبين له خطأ ذلك القول ، وظهر له أنه يفيد العلم .

قال : لأن الأمة أجمعت على تلقي ما في " الصحيحين " بالقبول ، وأنه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة معصوم من الخطأ .

قلت : وهذا لا يتحصل منه المقصود ; فإنا نقطع بالفرق بين حديث : الأعمال بالنيات ، وهو من أشهر المتفق عليه ، وبين غزاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدرا وأحدا وحنينا . [ ص: 111 ] والعلميات لا تتفاوت ، حتى يظهر الفرق بين بعض أخبارها وبعض ، وإذا كانت خطبة حجة الوداع لم يحصل العلم بوقوعها ، بل هي في عداد الآحاد ، مع وقوعها بين العالم المجتمعين في الحج ; فما الظن ببقية الأخبار التي لم يسمعها إلا الواحد والاثنان .

والتحقيق في أحاديث " الصحيحين " أنها مفيدة للظن القوي الغالب ، لما حصل فيها من اجتهاد الشيخين - رحمهما الله تعالى - في نقد رجالها ، وتحقيق أحوالها ، أما حصول العلم بها ; فلا مطمع فيه ، وذلك في غيرها من الأقسام الأخر أولى ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية