صفحة جزء
[ ص: 112 ] ثم فيه مسائل :

الأولى : يجوز التعبد بخبر الواحد عقلا ، خلافا لقوم .

لنا : أن في العمل به دفع ضرر مظنون ; فوجب أخذا بالاحتياط ، وقواطع الشرع نادرة ; فاعتبارها يعطل أكثر الأحكام . والرسول - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى الكافة ، ومشافهتهم وإبلاغهم بالتواتر متعذر ; فتعينت الآحاد .

الخصم : خبر الواحد يحتمل الكذب ; فالعمل به عمل بالجهل ، وامتثال أمر الشرع والدخول فيه ، يجب أن يكون بطريق علمي ، وأجاب عن الأول : بالمعارضة ، بأن الاحتياط في الترك ، احترازا من تصرف المكلف في نفسه ، التي هي غير مملوكة له ، بالظن ، وفيه خطر ، كما قيل في شكر المنعم عقلا . وعن الثاني : بمنع التعطيل تمسكا بالنفي الأصلي ، وعن الثالث : بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما كلف إبلاغ من أمكنه إبلاغه دون غيره .

والمعتمد : أن نصب الشارع علما ظنيا على وجوب فعل تكليفي ، جائز بالضرورة .

ثم المنكر ، إن أقر بالشرع ; فتعبده بالحكم بالفتيا ، والشهادة ، والاجتهاد في الوقت ، والقبلة ، ونحوها من الظنيات ، ينقض قوله ، وإلا ; فما ذكرناه قبل يبطله ، ثم إذا أقر بالشرع ، وعرف قواعده ومبانيه وافق .


قوله : " ثم فيه مسائل " ، أي في خبر الآحاد ، ولا شك أن النزاع في كونه مفيدا للعلم ، أو غير مفيد ، هو كالحكم الكلي به ; فلذلك قدمته على مسائله ، ولم أدرجه فيها ، وكل جائز ، وقد سبق مثله .

المسألة " الأولى : يجوز التعبد بخبر الواحد عقلا ، خلافا لقوم " ، أي : يجوز أن يتعبد الله تعالى خلقه بخبر الواحد ، بأن يقول لهم : اعبدوني بمقتضى ما يبلغكم [ ص: 113 ] عني وعن رسولي على ألسنة الآحاد . وهذا قول الجمهور ، الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاء والأصوليين ، خلافا للجبائي وجماعة من المتكلمين .

قوله : " لنا : أن في العمل به دفع ضرر مظنون " ، إلى آخره : هذه حجة القائلين بجواز التعبد بخبر الواحد عقلا ، وهي من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن في العمل بخبر الواحد دفع ضرر مظنون ؛ لأن خبر الواحد يفيد الظن بمقتضاه ، فإذا ورد بإيجاب شيء أو حظره ، حصل لنا الظن بأنا معاقبون على ترك الواجب ، وفعل المحظور ؛ فالعقاب عليها ضرر مظنون ؛ ففي عملنا بذلك الخبر دفع هذا الضرر المظنون .

وأما أن دفع الضرر المظنون واجب عقلا ؛ فمما لا ينازع فيه عاقل ؛ لأن فيه أخذا بالاحتياط للنفس ، والاحتياط للنفس واجب عقلا بالضرورة ، ولأنا إذا عرضنا على العقل أن بتقرير الوضوء من مس الذكر تسلم النفس من عذاب مظنون ، وبتقدير عدم الوضوء منه يلحقها عذاب مظنون ، دل عليه قوله عليه السلام : من مس ذكره فليتوضأ ، وقوله عليه السلام : ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يحدثون لذلك وضوءا . أو قلنا له : أي الأمرين عندك أرجح ؟ الوضوء أو عدمه ؟ والحالة هذه ؛ فإنه إنما يرجح الوضوء جزما ؛ فثبت بما ذكرناه أن العمل بخبر الواحد جائز عقلا ، بل [ ص: 114 ] واجب .

الوجه الثاني : لو لم يجب العمل بخبر الواحد ؛ لتعطل أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية ؛ لكن تعطل أكثر الأحكام لا يجوز ؛ فوجب أن يكون العمل بخبر الواحد جائزا .

أما الملازمة : فلأنه لو امتنع العمل بخبر الواحد لتوقف العمل في الوقائع على القواطع ، لخلت أكثر الوقائع عن الأحكام ؛ لأن قواطع الشرع نادرة ؛ فلا تفي بجميع الوقائع .

وأما أن تعطل أكثر الأحكام لا يجوز ؛ فلأن ذلك خلاف مقتضى الشرع ومقصوده ، إذ مقتضى الشرع ومقصود الشارع تعميم الوقائع بالأحكام ؛ ليكون ناموسه قائما ظاهرا في كليها وجزئيها ، وإنما يتحقق ذلك بالتعبد بأخبار الآحاد ؛ لأنها وردت في كثير من الجزئيات ، وباقيها عممناها بالأحكام ، بالقياس على موارد النصوص بهذا الدليل بعينه ، كما بيناه في القياس ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى .

الوجه الثالث : أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، " مبعوث إلى الكفة " ، أي : إلى كافة الناس بالإجماع ، لقوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [ سبأ : 28 ] ، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ الأنبياء : 107 ] ، وقوله عليه السلام : بعثت إلى الناس كافة ، بعثت إلى الأسود والأحمر . وإذا ثبت أنه مبعوث إلى جميع المكلفين ؛ فإبلاغه إليهم الأحكام العلمية إما تواتر ، أو آحاد ، لكن التواتر متعذر ، [ ص: 115 ] فتعينت الآحاد ، وإذا تعينت للتبليغ ، فلو لم يجب العمل بها ، لم يكن لتبليغها فائدة ؛ فثبت بهذه الوجوه أن العمل بخبر الواحد جائز ، بل واجب عقلا .

قوله : " الخصم : خبر الواحد يحتمل الكذب " ، إلى آخره ، هذه حجة الخصم على عدم جواز العمل بخبر الواحد عقلا .

وتقريرها : أن خبر الواحد يحتمل الكذب ؛ فالعمل به عمل بالجهل ، وهو قبيح عقلا ، والعقل لا يجيز القبيح ، وأيضا : فإن امتثال أمر الشرع والدخول فيه ، يجب أن يكون بطريق علمي ، ليكون المكلف منه على يقين وأمان من الخطأ فيه .

قوله : " وأجاب عن الأول " ، أي : هذا الخصم المانع لجواز التعبد بخبر الواحد ، أجاب عن الوجوه التي احتج بها المجوزون له ؛ فأجاب عن الوجه الأول بأن قال : قولكم : يجب العمل بخبر الواحد - أخذا بالاحتياط - معارض بأن الاحتياط في ترك العمل به ؛ لأن العمل به تصرف من المكلف في نفسه التي هي مملوكة لغيره ، - وهو خالقه عز وجل - بالظن ، وفي ذلك خطر ، لجواز أن يقال له : لم تصرفت في ملكنا من غير مستند قاطع ؟ وكيف أضعت حقنا من نفسك بظن لم تكن منه على يقين ؟ وهذا كما قلنا في وجوب شكر المنعم عقلا ، حيث كان الخطر في تركه معارضا بالخطر في فعله ، حيث كان الشكر إتعابا لنفس الشاكر بغير إذن مالكها .

" وعن الثاني " : أي : وأجاب هذا الخصم عن الوجه الثاني للقائلين بوجوب العمل بخبر الواحد ، وهو قولهم : لو اعتبرنا قواطع الشرع ، لتعطلت الأحكام بمنع التعطيل تمسكا بالنفي الأصلي ، أي : لا نسلم لزوم التعطيل ، بل ما وجدنا فيه قاطعا أثبتناه ، وما لم نجد فيه قاطعا رددناه إلى استصحاب الحال ، وهو النفي الأصلي ، أي : الأصل عدم الحكم في هذه الواقعة ؛ فيستصحب فيها ذلك .

" وعن الثالث " : أي : وأجاب الخصم عن الوجه الثالث للمثبتين - وهو أن إبلاغ [ ص: 116 ] الرسول الأحكام إلى الكافة بالتواتر متعذر ؛ فتتعين الآحاد - بأن قال : " الرسول إنما كلف إبلاغ من أمكنه إبلاغه ، دون غيره " ، ممن لا يمكنه إبلاغه ، كأهل الجزائر ونحوها .

قوله : " والمعتمد أن نصب الشارع علما ظنيا على وجوب فعل تكليفي جائز بالضرورة " ، أي : الدليل المعتمد - أي الذي يعتمد عليه في إثبات هذا المطلوب - هو : أنا نعلم جواز أن الشارع ينصب علما - أي : معرفا ظنيا ، أي يفيد الظن - على وجوب فعل تكليفي ، أي : من أفعال التكليف ، وإنما قلنا : إن هذا جائز ؛ لأنه بالضرورة لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته . وأيضا : فإنه قد وقع في الشرع كثيرا ، ولا يقع في الشرع إلا ما يجوز في العقل ، إذ ما يمتنع في العقل يستحيل وقوعه مطلقا .

قوله : " ثم المنكر إن أقر بالشرع " إلى آخره أي : ثم بعد إقامة الدليل على جواز التعبد بخبر الواحد عقلا ، نقول : لهذا المنكر لجواز التعبد بخبر الواحد : إما أن يقر بالشرع وصحة أحكامه الواردة فيه ، أو لا ، فإن أقر بالشرع ؛ فما ورد فيه من التعبدات الظنية ينقض قوله ، كالحكم بالفتيا ، والشهادة ، والاجتهاد في القبلة إذا اشتبهت جهتها في وقت الصلاة ، ونحوها من الأمارات الشرعية ، فإن جميعها إنما يفيد الظن ، وقد وقع التعبد به ؛ فما المانع من التعبد بخبر الواحد ، وإن كان لا يفيد إلا الظن ؟ وإن كان هذا المنكر لا يقر بالشرع ؛ فما ذكرناه من الأوجه الثلاثة [ ص: 117 ] أولا ؛ وهذا الدليل المعتمد في الجواز ، يبطل قوله ، ويثبت ما قلناه .

ثم إذا أقر بالشرع ، وعرف قواعده ومبانيه ، وافق على جواز التعبد بخبر الواحد ، وذلك لأن الشرع مبني على التعبد بالعلميات بالظنون ، توسيعا لدائرة التكليف ، وتكثيرا للعبادات ، وتخفيفا عن المكلفين بتكثير المذاهب المسلوكة ، إذ لو حصروا التعبد بالقواطع ؛ لما كان لهم إلا مذهب واحد ، وقول واحد يلزم الحرج بمخالفته قطعا . وسيأتي لهذا مزيد بيان عند ذكرنا أن في الحوادث حكما معينا أم لا ، إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية