صفحة جزء
[ ص: 118 ] الثانية : الجمهور على جواز التعبد به سمعا ، خلافا لبعض القدرية والظاهرية ، لنا : وجوه :

الأول : لو لم يكن ، لكان تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم ، الأحكام إلى البلاد على ألسنة الآحاد عبثا ، واللازم باطل ، وتبليغه كذلك تواتري . فإن قيل : اقترن بها ما أفاد العلم ، قلنا : لم ينقل ، والأصل عدمه ، ومجرد الجواز لا يكفي .

الثاني : إجماع الصحابة عليه ، وتواتره عنهم تواترا معنويا ، كقبول الصديق خبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في الجدة ، وعمر خبر حمل بن مالك في غرة الجنين ، وخبر الضحاك في توريث المرأة من دية زوجها ، وخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس ، وعثمان خبر فريعة بنت مالك في السكنى ، وعلي خبر الصديق في غفران الذنب بصلاة الركعتين ، والاستغفار عقيبه . ورجوع الكل إلى خبر عائشة في الغسل بالتقاء الختانين ، واستدارة أهل قباء إلى الكعبة بخبر الواحد . في قضايا كثيرة .

ودعوى اقتران ما أفاد العلم بها مردودة بما سبق ، وبقول عمر في خبر الغرة : لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره ، وظاهره الرجوع إلى مجرد الخبر .

قالوا : رد عليه السلام خبر ذي اليدين ، والصديق خبر المغيرة ، وعمر خبر أبي موسى ، وعلي خبر معقل في بروع ، وعائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه .

قلنا : استظهارا لهذه الأحكام لجهات ضعف اختصت بهذه الأخبار ، ثم إنها قبلت بعد التوقف فيها بإخبار اثنين بها ، ولم تخرج بذلك عن كونها آحادا .

الثالث : وجب قبول قول المفتي فيما يخبر به عن ظنه بالإجماع ؛ فليجب قبول قول الراوي فيما يخبر به عن السماع ، والجامع حصول الظن . قالوا : قياس ظني ؛ فلا يثبت به أصل . قلنا : محل النزاع .


المسألة " الثانية : الجمهور على جواز التعبد به " ، أي : بخبر الواحد ، [ ص: 119 ] " سمعا " ، أي : من جهة السمع ، أي : دل السمع ، وهو دليل الشرع ، على جوازه ، " خلافا لبعض القدرية " ، وهم أكثرهم ، وبعض " الظاهرية " على ما نقل الشيخ أبو محمد .

وفي المسألة تفصيل ، وهو أن القائلين بجواز التعبد به عقلا ، منهم من نفى كونه حجة شرعا ، كالشيعة ، والقاشاني ، وابن داود ، ومنهم من أثبت ذلك . ثم هؤلاء اتفقوا على دلالة دليل السمع عليه ، واختلفوا في دلالة العقل عليه ؛ فأثبته أحمد والقفال وابن سريج ، ونفاه الباقون .

وقال أبو عبد الله البصري : هو حجة فيما لا يسقط بالشبهة ، واختار الآمدي أنه حجة مطلقا ، وهو المذكور في " المختصر " ، وعليه النظر .

" لنا " على جواز التعبد به سمعا " وجوه " :

الأولى : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثبت عنه بالتواتر أنه كان يبلغ الأحكام إلى البلاد على ألسنة الآحاد ، فلو لم يجز التعبد بخبر الواحد سمعا ، " لكان تبليغ الأحكام على ألسنة الآحاد عبثا " ؛ لأنه غير مفيد " واللازم " وهو العبث من الشارع " باطل " لأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، هو حكم الله تعالى ، والله سبحانه وتعالى نزه نفسه عن العبث بقوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا إلى قوله عز وجل : فتعالى الله الملك الحق [ المؤمنون : 115 - 116 ] ، أي : عن العبث .

[ ص: 120 ] قوله : " وتبليغه كذلك تواتري " ، أي : تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم ، الأحكام بطريق الآحاد ثابت بالتواتر ، وقد صدرنا الدليل بهذا .

قوله : " فإن قيل " ، إلى آخره ، هذا اعتراض على الدليل المذكور من الخصم .

وتقريره : لا نسلم أن تلك الأخبار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يبلغها الناس كانت آحادا ، بل اقترن بها ما أفاد العلم من القرائن الحالية ، وقد قدمنا أن خبر الواحد إذا أفاد العلم بالقرائن كان واسطة بين التواتر والآحاد ، لا تواترا ولا آحادا ، وحينئذ فلا يبقى في تبليغها دليل على جواز التعبد بخبر الواحد المجرد .

قوله : " قلنا " ، إلى آخره ، هذا جواب الاعتراض المذكور .

وتقريره : أن ما ذكرتموه من اقتران قرائن بتلك الأخبار ، أفادت معها العلم " لم ينقل ، والأصل عدمه " ؛ فيستصحب فيه حال العدم .

غاية ما في الباب أن ذلك محتمل احتمالا مجردا ، لكن مجرد احتمال الشيء وجوازه لا يكفي في ثبوته ، وإلا لكان كل ممكن في علم الله تعالى واقعا موجودا ؛ لأنه جائز الوجود .

الوجه " الثاني : إجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه ، وتواتره عنهم تواترا معنويا " ، أي : أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على العمل بخبر الواحد ، وتواتر ذلك عنهم تواترا معنويا ، كسخاء حاتم ، وشجاعة علي رضي الله عنه ، وذلك في وقائع كثيرة جرت لهم ، نذكر منها جملة تنبه على غيرها ، وهي الوقائع التي وقعت في " المختصر " .

[ ص: 121 ] فمن ذلك : " قبول الصديق خبر المغيرة بن شعبة ، ومحمد بن مسلمة في الجدة " ؛ فروى مالك عن الزهري ، عن عثمان بن إسحاق بن خرشة ، عن قبيصة بن ذؤيب ، قال : جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله ميراثها ، قال : فقال : ما لك في كتاب الله شيء ، وما لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شيء ؛ فارجعي حتى أسأل الناس ؛ فسأل الناس ؛ فقال المغيرة بن شعبة : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعطاها السدس ؛ فقال أبو بكر رضي الله عنه : هل معك غيرك ؟ فقام محمد بن مسلمة ؛ فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة ؛ فأنفذه لها أبو بكر الحديث . رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .

ومن ذلك قبول عمر رضي الله عنه خبر حمل بن مالك بن النابغة في غرة الجنين : ذكر الشيخ أبو محمد أن عمر رضي الله عنه قال : أذكر الله امرأ سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الجنين ؛ فقام حمل بن مالك بن النابغة ؛ فقال : كنت بين جاريتين لي ؛ فضربت إحداهما الأخرى بمسطح ؛ فقتلتها وجنينها ؛ فقضى النبي صلى الله عليه وسلم ، في الجنين بغرة ؛ فقال عمر رضي الله عنه : " لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره " .

[ ص: 122 ] قلت : معنى هذه القصة مشهور صحيح ، من رواية أبي هريرة والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما ، غير أن مناشدة عمر رضي الله عنه لم أقف عليها .

من ذلك : قبول عمر رضي الله عنه أيضا خبر الضحاك في توريث المرأة من دية زوجها ؛ فروى سعيد بن المسيب ، قال : قال عمر رضي الله عنه : الدية على العاقلة ، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا ؛ فأخبره الضحاك بن سفيان الكلابي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها . رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والترمذي وصححه .

ومن ذلك : قبول عمر رضي الله عنه أيضا خبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه " في " أخذ الجزية من المجوس ؛ فروى سفيان بن عيينة ، عن عمرو عن بجالة ؛ أن عمر كان لا يأخذ الجزية من المجوس ، حتى أخبر عبد الرحمن بن عوف أن [ ص: 123 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، أخذ الجزية من مجوس هجر . رواه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي وصححه . وله من طريق آخر ، عن عمرو بن دينار ، عن بجالة بن عبدة ، قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية على " مناذر " ؛ فجاءنا كتاب عمر : " انظر مجوس من قبلك ؛ فخذ منهم الجزية ، فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذ الجزية من مجوس هجر " . قال الترمذي : هذا حديث حسن .

ومن ذلك : قبول عثمان رضي الله عنه خبر فريعة بنت مالك في السكنى ؛ فروت زينب بنت كعب بن عجرة ، أن الفريعة بنت مالك بن سنان ، وهي أخت أبي سعيد الخدري ، أخبرتها أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له ؛ فقتلوه ، ولم يكن ترك لها مسكنا تملكه ولا نفقة ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا ، قالت : فلما كان عثمان رضي الله عنه ، أرسل إلي ؛ فسألني عن ذلك ؛ فأخبرته فاتبعه ، وقضى به ، رواه النسائي ، وابن ماجه ، والترمذي .

ومن ذلك : قبول علي خبر الصديق رضي الله عنهما في غفران الذنب بصلاة الركعتين ، والاستغفار عقيبه ؛ فروى أسماء بن الحكم الفزاري ، قال : سمعت [ ص: 124 ] عليا رضي الله عنه يقول : إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديثا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني ، وإذا حدثني رجل من أصحابه ، استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته ، وإنه حدثني أبو بكر رضي الله عنه ، وصدق أبو بكر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : ما من رجل يذنب ذنبا ، ثم يقوم فيتطهر ، ثم يصلي ركعتين ، ثم يستغفر الله ، إلا غفر الله له ، ثم قرأ هذه الآية : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم [ آل عمران : 135 ] . رواه الأربعة أيضا .

ومن ذلك : " رجوع لكل - أي : جميع الصحابة رضي الله عنهم إلى خبر عائشة رضي الله عنها في " وجوب " الغسل بالتقاء الختانين " وذلك أن بعض الصحابة كان يفتي بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، بأن الماء من الماء ، لا غير ؛ فنازعه بعضهم في ذلك ، واشتهر الخلاف حتى صار الصحابة فيه قسمين : المهاجرين والأنصار ؛ فأرسلوا إلى عائشة أبا موسى يسألها عن ذلك ؛ فروت لهم عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا التقى الختانان - وفي رواية : إذا مس الختان الختان - وجب الغسل ؛ فرجعوا إلى قولها .

وقد روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، قال : إنما كان الماء من الماء [ ص: 125 ] رخصة في أول الإسلام ، ثم نهي عنها . رواه الترمذي ، وقال : حديث صحيح .

ومن ذلك : استدارة أهل قباء إلى الكعبة بخبر الواحد ؛ فروى إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحب أن يوجه إلى الكعبة ؛ فأنزل الله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام [ البقرة : 144 ] ؛ فوجه نحو الكعبة ، وكان [ ص: 126 ] يحب ذلك ؛ فصلى رجل معه العصر ، ثم مر على قوم من الأنصار ، وهم ركوع في صلاة العصر ، نحو بيت المقدس ؛ فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأنه قد وجه نحو الكعبة ، قال : فانحرفوا وهم ركوع . ورواه سفيان عن أبي إسحاق ، ورواه أيضا عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، قال : كانوا في الفجر . أخرجاه في " الصحيحين " ، ورواه النسائي والترمذي وصححه .

قوله : " في قضايا كثيرة " ، أي : هذه الوقائع عمل فيها بخبر الواحد في قضايا ، أي : مع قضايا كثيرة ، عمل فيها به ؛ فدل على أن العمل به مجمع عليه بين الصحابة رضي الله عنهم ؛ فيكون حجة .

قوله : " ودعوى اقتران ما أفاد العلم بها مردودة بما سبق ، وبقول عمر " ، إلى آخره ، أي : فإن ادعى الخصم أن الأخبار في هذه الوقائع اقترن بها قرائن أفادت معها العلم ، قلنا : دعواك هذه مردودة من وجهين :

أحدهما : ما سبق في الوجه الذي قبل هذا ، وهو أنه لم ينقل ، والأصل عدمه ، ومجرد الجواز لا يكفي .

والثاني : أنها مردودة " بقول عمر في خبر الغرة " ، السابق ذكره : " لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره ، وظاهره الرجوع إلى مجرد الخبر " ؛ لأنه أخبر أنه امتنع قضاؤه برأيه لوجود [ ص: 127 ] سماعه هذا الخبر ؛ فيكون الخبر بمجرده مستقلا بالمنع ، وليس فيه ذكر قرينة .

قوله : " قالوا : رد عليه السلام خبر ذي اليدين " ، إلى آخره . هذا اعتراض من الخصم على هذا الوجه ، وهو الاحتجاج بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بخبر الواحد .

وتقريره : أن ما ذكرتموه من إجماعهم ، إن دل على العمل بخبر الواحد ؛ فقد ورد عنهم ما يدل على إجماعهم على رده ، وعدم العمل به ، وذلك في قضايا :

منها : ما روى محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، انصرف من اثنتين ؛ فقال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة ، أم نسيت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصدق ذو اليدين ؟ وفي رواية : أحق ما يقول ذو اليدين ؟ فقال الناس : نعم ؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فصلى اثنتين أخريين . الحديث متفق عليه ، وهو في بقية السنن الأربعة .

ومنها : أن الصديق رضي الله عنه رد خبر المغيرة بن شعبة في الجدة بمجرده حتى وافقه محمد بن مسلمة ، وقد سبق .

ومنها : أن عمر رضي الله عنه رد خبر أبي موسى في الاستئذان ؛ فروى أبو سعيد رضي الله عنه ، قال : استأذن أبو موسى على عمر رضي الله عنه : فقال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فقال عمر رضي الله عنه واحدة ، ثم سكت ساعة ، ثم قال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فقال عمر رضي الله عنه : ثنتان ، ثم سكت ساعة ، ثم قال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فقال عمر : ثلاث ، ثم رجع ؛ فقال عمر رضي الله عنه للبواب : ما صنع ؟ قال : رجع ، قال : علي به ؛ فلما جاءه ، قال : ما هذا الذي [ ص: 128 ] صنعت ؟ قال : السنة ، قال : والله لتأتيني على هذا ببرهان ، أو لأفعلن بك . قال : فأتانا ونحن رفقة من الأنصار ؛ فقال : يا معشر الأنصار ، ألستم أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : الاستئذان ثلاث ، فإن أذن لك ، وإلا فارجع ؟ قال : فجعل القوم يمازحونه ، قال أبو سعيد : ثم رفعت رأسي ؛ فقلت : فما أصابك في هذا اليوم من العقوبة من شيء ؛ فأنا شريكك ، قال : فأتى عمر ؛ فأخبره بذلك ؛ فقال عمر : ما كنت علمت بهذا . أخرجاه في " الصحيحين " من حديث أبي بن كعب ، وأبي سعيد ، وأبي موسى ، ورواه من حديثه أبو داود وابن ماجه والترمذي ، وقال : حديث حسن .

ومنها : أن عليا رضي الله عنه رد خبر معقل بن سنان ، في بروع بنت واشق ، كذا ذكر الشيخ أبو محمد ، والمشهور فيه ما روى علقمة ، عن ابن مسعود ، أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ، ولم يفرض لها ، ولم يدخل بها حتى مات ؛ فقال ابن مسعود رضي الله عنه : لها مثل صداق نسائها ، لا وكس ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث . فقام معقل بن سنان الأشجعي ؛ فقال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في بروع بنت [ ص: 129 ] واشق ، امرأة منا ، مثل ما قضيت ؛ ففرح بها ابن مسعود . رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، والله أعلم بالصواب .

ومنها : أن عائشة ردت خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ؛ فروى يحيى بن عبد الرحمن ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الميت يعذب ببكاء أهله عليه ؛ فقالت عائشة رضي الله عنها : يرحمه الله ، لم يكذب ، ولكنه وهم ، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لرجل مات يهوديا : إن الميت ليعذب ، وإن أهله ليبكون عليه ، رواه الترمذي وصححه .

قالوا : فهذا رد من النبي صلى الله عليه وسلم ، وجماعة من الصحابة ، لخبر الواحد ، وحينئذ رده ثابت بالنص والإجماع .

قوله : " قلنا استظهارا " ، إلى آخره ، أي : إنما ردوا هذه الأخبار ، في هذه الوقائع ، استظهارا لتلك الأحكام " لجهات ضعف اختصت بهذه الأخبار " ، في نظر أولئك الذين بلغتهم ، وذلك لا يدل على أن خبر الواحد مردود مطلقا ، " ثم إنها - يعني تلك الأخبار - قبلت بعد التوقف فيها بإخبار اثنين بها " ، كما في حديث المغيرة لما وافقه محمد بن مسلمة ، وحديث أبي موسى لما وافقه أبو سعيد ، وحديث ذي اليدين لما وافقه الشيخان ، وغيرهما " ولم تخرج بذلك - أي : بإخبار اثنين بها - عن [ ص: 130 ] كونها آحادا " ؛ فقد صار ما احتج به الخصم حجة عليه .

وبيان وجوه الموجب للتوقف في الأخبار المذكورة .

أما خبر ذي اليدين ، فإن الناس كانوا كثيرين خلف النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وفيهم من هو أضبط لأفعال الصلاة من ذي اليدين ، وأحرص على كمالها ودفع النقص عنها ؛ فكان تنبيهه لوقوع النقص فيها دونهم بعيدا في العادة ؛ فلذلك توقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى وافقه الناس .

وأما خبر المغيرة في الجدة ؛ فللتوقف فيه وجهان :

أحدهما : أن المغيرة كان في الجاهلية غير متماسك تماسك غيره من العرب ، وشهد عليه بالزنى في زمن عمر رضي الله عنه ، حتى لم يبق إلا رجمه ؛ فلعل الصديق رضي الله عنه تفرس فيه نوع ضعف أو تهمة ؛ فتوقف في خبره لأجله ، حتى وافقه آخر .

الوجه الثاني : أن الصديق لعله غلب في خبره معنى الشهادة على المال ، من حيث كان الثابت به مالا ، خصوصا وهو يثبت حكما مؤبدا ، لا ذكر له في الكتاب والسنة ، وهو ميراث الجدة ؛ فكان ذلك مناسبا ، بل موجبا للتوقف .

وأما خبر أبي موسى : فإن عمر رضي الله عنه كان شديد الحراسة للسنة ، والصيانة لها عن دخول ما ليس منها فيها ، وكان مع ذلك شديد الخبرة بأحاديث النبي ، صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان لا يفارقه ؛ إما بنفسه ، أو بنائبه على ما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما عنه ، ثم إنه سمع ما لم يكن يعلمه ؛ فأحب الاحتياط لذلك ، ولهذا قال : ما كنت علمت بهذا .

[ ص: 131 ] وأما حديث معقل فتضمن أحكاما ، منها : الصداق ، وهو حق مالي ؛ فلعله غلب فيه الشهادة .

وأما حديث ابن عمر : فإنما ردته عائشة رضي الله عنها من حيث الوهم ، لا من حيث الكذب والضعف ، ولهذا قالت : يرحمه الله ، لم يكذب ولكنه وهم .

وكذلك روت عمرة أنها سمعت عائشة ، وذكر لها أن ابن عمر يقول : إن الميت ليعذب ببكاء الحي ؛ فقالت عائشة رضي الله عنها : غفر الله لأبي عبد الرحمن ، أما إنه لم يكذب ، ولكنه نسي أو أخطأ ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على يهودية يبكى عليها ؛ فقال : إنهم ليبكون عليها ، وإنها لتعذب في قبرها . متفق عليه ، وأخرجه النسائي والترمذي وصححه . فتبين بهذا أن رد هذه الأخبار ، لهذه المعاني التي اختصت بها ، لا يقدح في العمل بخبر الواحد .

الوجه " الثالث " : من أصل الدليل في المسألة .

وتقريره : أن قول المفتي يجب قبوله فيما يخبر به عن ظنه أن ما أفتى به حكم الله ، بحسب اجتهاده بالإجماع ، أي : يجب قبوله بالإجماع ؛ فليجب قبول قول الراوي فيما يخبر به عن السماع ممن فوقه ، والجامع بين فتيا المفتي ، وخبر الواحد حصول الظن فيهما .

أما في الفتيا ؛ فلأنه يغلب على ظن المفتي والمستفتي أن ما أفتى به حكم الله تعالى .

[ ص: 132 ] وأما في الراوي ؛ فلأنه يغلب على ظن السامع ، أن ما رواه ثابت عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ فيجب أن يقبل ، بالقياس على الفتيا .

قوله : " قالوا " ، إلى آخره ، هذا اعتراض على هذا الوجه .

وتقريره : أن هذا قياس ظني ؛ فلا يثبت به العمل بخبر الواحد ؛ لأنه أصل قوي ؛ فلا يثبت بمثل هذا القياس .

قوله : " قلنا : محل النزاع " ، هذا جواب اعتراضهم .

وتقريره : أن كون القياس المذكور ظنيا محل النزاع ؛ فإنا لا نسلم أنه ظني ، بل هو جلي قاطع من حيث هو في معنى أصله ، وذلك أنه لا فرق بين الراوي والمفتي إلا أن هذا يخبر عن غيره ، وهذا يخبر عن ظنه ، أو أن هذا يروي قول غيره ، وهذا يروي مذهب غيره .

وتحرير الجواب عن الاعتراض المذكور : إما بما ذكرناه من منع كون القياس المذكور ظنيا ، أو بمنع كون محل النزاع - وهو جواز التعبد بخبر الواحد - قطعيا ، بل هو اجتهادي ؛ فيثبت بدلالته الظنية كالقياس المذكور وغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية