صفحة جزء
[ ص: 111 ]

فنقول وبالله التوفيق : أصول الفقه : أدلته ، فلنتكلم عليها أصلا بعد ذكر مقدمة تشتمل على فصول .


فنقول وبالله التوفيق : أصول الفقه : أدلته " . هكذا قال كثير من الأصوليين ، وهو موافق لما سيأتي إن شاء الله تعالى في تعريف الأصل من أنه ما منه الشيء ، أو استند الشيء في وجوده إليه ، لأن الفقه مأخوذ من الأدلة ، وهو مستند في وجوده إليها ، ولهذا مزيد تحقيق عن قريب إن شاء الله تعالى .

قوله " فلنتكلم عليها " : أي على الأصول " أصلا أصلا ، بعد ذكر مقدمة تشتمل على فصول " .

أي : فلنتكلم على أصول الفقه أصلا بعد أصل ، على ترتيبها في الشرف لا في القوة .

فهي في الشرف : الكتاب ، ثم السنة ، ثم الإجماع ، لأن الكتاب كلام الله سبحانه وتعالى ، وهو أجل وأشرف وأعظم من النبي الذي السنة كلامه ، والنبي صلى الله عليه وسلم أشرف من المجتهدين الذين الإجماع هو اتفاقهم .

وأما في القوة ، فالإجماع ، ثم الكتاب ، ثم السنة ، لأن الإجماع لا ينسخ ، بخلاف الكتاب والسنة ، فإنهما ينسخان ، فيجوز أن الآية أو الخبر المعارض لإجماع يكون منسوخا .

والكتاب أقوى من السنة لأنه متواتر محفوظ الألفاظ لا يدخله تبديل قارئ ، ولا تحريف راو ، بخلاف السنة ، فإن غالبها آحاد ، والمتواتر منها غير مقطوع به أنه عين كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، لا سيما مع تجويز الجمهور من المحدثين والفقهاء الرواية [ ص: 112 ] بالمعنى .

وأما تقديمنا على ذلك مقدمة ، فلما سبق من أنها اشتملت على أمور كلية ، فكان تقديمها مناسبا ، وهي تعريف أصول الفقه ، وتحقيق القول فيها ، ثم التكليف ومسائله ، ثم الأحكام وأقسامها ، ثم اللغات التي هي كالباب للكتاب على ما سيأتي تفصيل ذلك كله .

فائدة : تضمنت الجملة المذكورة ألفاظا يليق التنبيه عليها :

أحدها : قوله : فلنتكلم ، هذه صيغة أمر من المتكلم لنفسه ، وهو في التحقيق متعذر من جهة أن الأمر يستدعي آمرا ومأمورا متغايرين ، كالإخبار يستدعي مخبرا ومخبرا ، والضرب يقتضي ضاربا ومضروبا ، ونحو ذلك كثير ، لكنه يصح من جهة التقدير ، وهو أن المتكلم نزل نفسه منزلة أجنبي يأمره بما يريد ، وهذا مشهور شائع في ألسنة العرب ومن تكلم بلغتهم نظما ونثرا .

الثاني : قوله : فلنتكلم عليها ، ومعنى على : الاستعلاء ، وحقيقته لا يصح هاهنا ، إذ لا يصح إلا في الأجسام ، والكلام عرض ، والأصول المراد بها هاهنا عرض أيضا ، وهو السنة والإجماع والقياس ونحوها ، فالاستعلاء إنما يصح هنا تقديرا ، وهو أن هذه الأدلة لما كانت موضع الكلام في هذا العلم ، صار الكلام فيها كالمستعلي عليها استعلاء اللون على الجسم الذي هو موضعه .

الثالث : قوله : أصلا أصلا لنصبه وجهان : [ ص: 113 ]

أحدهما : أنه حال ، أي نتكلم عليها حال كونها مرتبة أصلا بعد أصل .

الثاني : أنها منصوبة على أنها مقدرة بمفرد هو صفة موصوف محذوف ، التقدير : نتكلم عليها كلاما مرتبا في أصل بعد أصل ، وحقيقة الأصل لغة وعرفا تذكر عن قريب إن شاء الله تعالى .

الرابع : قوله : " مقدمة " ، هي مأخوذة من مقدمة الجيش بكسر الدال ، وهي أوله ، لم يحك الجوهري فيها غير الكسر ، لكنه ذكر في قادمتي الرحل مقدمة بفتح الدال ، وهي أوله مما يلي وجه الراكب ، وهي مقابلة آخر الرحل ، وهذه المادة ترجع تراكيبها إلى معنى الأولية ، فمقدمة الكتاب أيضا أوله ، ويجوز فيها كسر الدال على صيغة الفاعل ، وفتحها على صيغة المفعول ، وهي في الأصل صفة ، ثم استعملوها اسما في كل ما وجد فيه التقديم نحو مقدمة الجيش والكتاب ، ومقدمة الدليل والقياس ، وهي القضية التي تنتج ذلك مع قضية أخرى ، نحو : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ، ونحو ذلك : كل وضوء عبادة ، وكل عبادة يشترط لها النية ، ونحو : العالم مؤلف ، وكل مؤلف محدث ، وأشباه ذلك .

الخامس : قوله : " فصول " : هو جمع فصل ، وهو في الأصل مصدر فصل يفصل فصلا ، إذا قطع ، ومادة " ف ص ل " ترجع إلى معنى القطع والإبانة ، ثم سمي بالمصدر المذكور كل ما بين وميز شيئا من شيء وقطعه عنه ، فمنها الفصول في الكتب المدونة ، لأنها تميز جمل الكلام بعضها من بعض ، ومنها فصول الأجناس التي تستعمل في الحدود ، كالناطق في حد الإنسان في قولهم : حيوان ناطق ، والحساس في حد الحيوان في قولهم : جسم حساس متحرك بالإرادة ، ومنها يوم الفصل ، وفصل القضاء ، لأنه يقطع النزاع بين الخصوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية