صفحة جزء
[ ص: 157 ] الخامسة : لا يشترط ذكورية الراوي ، ولا رؤيته ، لقبول الصحابة خبر عائشة من وراء حجاب . ولا فقهه ، لقوله عليه السلام : رب حامل فقه غير فقيه . ولا معرفة نسبه ، كما لو لم يكن له نسب أصلا ، وأولى . ولا عدم العداوة والقرابة ، لعموم حكم الرواية ، وعدم اختصاصها بشخص ، بخلاف الشهادة ، ومن اشتبه اسمه باسم مجروح رد خبره ، حتى يعلم حاله .


المسألة الخامسة : لا يشترط ذكورية الراوي ، ولا رؤيته ، أي : لا يشترط أن يكون الراوي ذكرا ، ولا أن يكون مرئيا ، مشاهدا حال السماع منه .

قوله : " لقبول الصحابة خبر عائشة من وراء حجاب " .

هذا دليل على عدم اعتبار الشرطين ؛ فإنهم كانوا يقبلون روايتها وهي أنثى ، وكذلك أجمعوا على قبول رواية النساء غيرها ، وكانوا يسمعون منها وهي وراء حجاب ؛ لأنها ما كان يراها إلا محارمها ، كالقاسم بن محمد وهو ابن أخيها ، وعروة بن الزبير ، وهو ابن أختها أسماء ، وعمرة بنت عبد الرحمن وهي بنت أخيها ، وهي امرأة مثلها ، ولهذا رجحت رواية هؤلاء على رواية غيرهم من الأجانب إذا عارضتها ، لكون هؤلاء يسمعون منها بغير حجاب ، بخلاف غيرهم ، وهو معنى يناسب الترجيح ، ويصلح له .

قوله : " ولا فقهه " ، أي : ولا يشترط أن يكون فقيها ، وهو قول إمام الحرمين ، وجماعة غيره ، خلافا لمالك وأبي حنيفة في اشتراطه ، ولذلك قدح أهل العراق [ ص: 158 ] في رواية أبي هريرة ؛ لأنه لم يكن مشهورا بالفقه عندهم ، وإن احتجوا بأن غير الفقيه مظنة سوء الفهم ، ووضع النصوص على غير المراد منها ؛ فالاحتياط للأحكام أن لا يروى عنه .

ولنا ما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره ؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب حامل فقه ليس بفقيه . رواه أبو داود والنسائي والترمذي . وقال : حديث حسن وهذا نص في قبول رواية من ليس بفقيه . وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه : فرب مبلغ أوعى من سامع . رواه ابن ماجه والترمذي ، وصححه .

ومبلغ : بفتح اللام ، وهو الذي يبلغه الحديث عمن هو دونه في الفهم . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، ولم يشترط الفقه ، ولا فرق بين الفقيه وغيره .

[ ص: 159 ] وأما ما ذكروه من أن غير الفقيه مظنة سوء الفهم ؛ فلا يلزم ؛ لأنا إنما نقبل روايته ، إذا روى باللفظ ، أو المعنى المطابق ، وكان يعرف مقتضيات الألفاظ ، والعدالة تمنعه من تحريف لا يجوز ؛ فيكون ما يرويه لنا لفظ صاحب الشرع أو معناه ، وحينئذ نأمن وقوع الخلل ، ويجب علينا العمل .

قوله : " ولا معرفة نسبه " ، أي : ولا يشترط معرفة نسب الراوي ، كما لو لم يكن له نسب أصلا كالعبد ، وولد الزنى ، والمنفي باللعان ، إذا كانوا عدولا ، قبلت روايتهم ، ولا نسب لهم أصلا ، وأولى ، أي : فتقبل رواية من لا يعرف نسبه ، قياسا على من لا نسب له أصلا ، وهي أولى بالقبول ؛ لأن هذا له نسب ، لكنه مجهول ، وأولئك لا نسب لهم أصلا ، والموجود المجهول أحسن حالا من المعدوم بالكلية .

قوله : " ولا عدم العداوة والقرابة " ، أي : ولا يشترط في الراوي أن لا يكون عدوا ، ولا قريبا ، لمن روى في حقه خبرا ، مثل أن تثبت السرقة على شخص ؛ فروى عدو له : من سرق فاقطعوه . مثلا ، وإن كان هذا الحكم معلوما بالنص والإجماع . أو [ ص: 160 ] يثبت لشخص حق بشاهد واحد ؛ فروى أبوه أو ابنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قضى بشاهد ويمين ؛ فلا تقدح عداوة الأول ، وقرابة الثاني في هذه الرواية ، لعموم حكم الرواية ، وعدم اختصاصها بشخص ، بخلاف الشهادة .

وتقرير هذا الكلام - وإن كان بينا ، وقد أشرنا إليه فيما سبق - : هو أن حكم الرواية عام ؛ لأنه يثبت بها حكم عام على هذا المروي في حقه وحق غيره ؛ فالمسلم العاقل لا تحمله تهمة العداوة والقرابة على أن يتحمل الإثم العام ، لبلوغ غرضه في عدو أو قريب ، بخلاف الشهادة ، حيث منع من قبولها العداوة والقرابة ؛ فإنها على شخص مخصوص ؛ فحكمها وضررها غير عام ؛ فقد ينقدح للشخص أن يقول : أنا أضر عدوي هذا بالشهادة عليه زورا ، وأنفع قريبي هذا بالشهادة له كذلك ، ثم أستدرك إثم هذه الشهادة بفعل قربة من القرب ، أو قربات من صلاة ، وصدقة ، وصيام ، وحج ، وأمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، حتى أفعل من الحسنات ما يذهب بتلك السيئة . بخلاف الضرر العام على الناس بكذبه في الرواية ؛ فإنه لا يطمع في استدراكه ؛ فيجبن عن الكذب فيها .

قوله : " ومن اشتبه اسمه باسم مجروح ، رد خبره حتى يعلم حاله " ، وذلك لاحتمال أن يكون الراوي ذلك المجروح فلا تقبل روايته ؛ فيتوقف حتى يعلم : هل هو المجروح أو الثقة ؟ وكثيرا ما يفعل المدلسون مثل هذا ، يذكرون الراوي [ ص: 161 ] الضعيف باسم يشاركه فيه راو ثقة ، ليظن أنه ذلك الثقة ، ترويجا لروايتهم . ومثال المسألة : الأعرج عن أبي هريرة ، هما اثنان عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، وهو ثقة من رجال الصحيح ، وحميد بن عبد الله الأعرج ، وهو ضعيف ، وكذلك شريك بن عبد الله بن أبي نمر ليس بالقوي فيما ذكره النسائي وحكي عن يحيى بن معين ، وشريك بن عبد الله القاضي ، ثقة قوي ، وأمثال هذا كثير ينبغي التحفظ منه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية