صفحة جزء
[ ص: 180 ] السابعة : الجمهور : أن الصحابة عدول ، لا حاجة إلى البحث عن عدالتهم . وقيل : إلى أوان الخلاف لشياع المخطئ منهم فيهم . وقيل : هم كغيرهم .

لنا : ثناء الله ورسوله عليهم ، نحو : لقد رضي الله عن المؤمنين ، والذين معه أشداء على الكفار ، خير الناس قرني ، إن الله اختارني واختار لي أصحابا ، لا تؤذوني في أصحابي ، وسلبهم العدالة أذى له فيهم . ثم فيما تواتر من صلاحهم ، وطاعتهم لله ورسوله غاية التعديل .

والصحابي : من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو ساعة ، أو رآه ، مع الإيمان به ، إذ حقيقة الصحبة : الاجتماع بالمصحوب . وقيل : من طالت صحبته له عرفا . وقيل : سنتين ، وغزا معه غزاة أو غزاتين . والأول أولى .

ويعلم ذلك بإخبار غيره عنه ، أو هو عن نفسه ، وفيه نظر ، إذ هو متهم بتحصيل منصب الصحابة ، ولا يمكن تفريع قبول قوله على عدالتهم ، إذ عدالتهم فرع الصحبة ؛ فلو أثبتت الصحبة بها ، لزم الدور ، والله سبحانه أعلم .


المسألة " السابعة : الجمهور " ، أي : مذهب جمهور العلماء ، الأئمة الأربعة وغيرهم ، أن الصحابة رضي الله عنهم عدول مطلقا ، لا حاجة إلى البحث عن عدالتهم . وقيل : إلى أوان الخلاف ، أي : لم يزالوا عدولا ، حتى وقع الخلف بينهم ، واقتتلوا ؛ لأنهم حينئذ صاروا فئتين ، والحق بالضرورة لا يكون في الطرفين . فإحداهما على باطل قطعا ؛ فهي فاسقة ، لكن الفاسق منهم غير معين ، لاشتباه الأمر ؛ فمن هؤلاء من رد قول الجميع ، لعدم تعين الفاسق منهم من العدل ، ومنهم من قبل قول كل واحد منهم على انفراده ، دون حالة معارضة غيره له ، لعدم تمييز [ ص: 181 ] العدل ، وهذا يعزى إلى بعض المعتزلة ، أحسبه واصل بن عطاء وأصحابه . وهذا معنى قولنا : " لشياع المخطئ منهم " ، أي : من الصحابة رضي الله عنهم ، " فيهم " أي : لصيرورته شائعا لا يعرف ، والضمير في " منهم " ، و " فيهم " عائد إلى الصحابة .

وقيل : هم كغيرهم أي من رواة الأمة ، يبحث عن عدالتهم ؛ فيقبل قول العدل دون غيره منهم .

قوله : " لنا : ثناء الله ورسوله عليهم " ، إلى آخره ، هذا دليل القول الأول ، وهو الحكم بعدالتهم مطلقا . وتقريره : أن الله سبحانه وتعالى ، ورسوله ، صلى الله عليه وسلم ، أثنيا عليهم ، وكل من أثنى الله ورسوله عليه ؛ فهو عدل ؛ فالصحابة عدول .

أما ثناء الله سبحانه وتعالى ، ورسوله عليهم ؛ فدليله من الكتاب : قوله سبحانه وتعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا [ الفتح : 18 ] ، يعني بيعة الرضوان بالحديبية ، لهذا سميت بيعة الرضوان ؛ لأن الله عز وجل رضي عنهم لأجلها ، والله عز وجل لا يرضى عن القوم الفاسقين ؛ فدل رضاه عنهم على عدالتهم ، قال تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار ، إلى قوله : ليغيظ بهم الكفار [ الفتح : 29 ] ، والكفار لا يغاظون إلا بالمؤمنين العدول ، إذ الفساق غير مرضي عنهم ، حتى يكونوا من جند الإيمان ، ويغاظ بهم الكفار ، وقال سبحانه وتعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] ، وكذلك جعلناكم أمة وسطا [ البقرة : 143 ] ، والخطاب مع الصحابة ، والوسط وخير الناس هو العدل .

ودليله من السنة : ما روى عمران بن حصين ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : [ ص: 182 ] خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، الحديث . أخرجاه في " الصحيحين " ، ورواه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي وصححه .

وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله اختارني ، واختار لي أصحابا ، وأنصارا ، وأصهارا .

وقال : لا تؤذوني في أصحابي ، وسلبهم العدالة ، أي : الحكم بأنهم غير عدول ، أذى له فيهم ؛ فيكون منهيا عنه ؛ فيكون القول المؤدي إليه ، وهو سلبهم العدالة ؛ فاسدا .

وروى عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ؛ فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم ؛ فقد آذاني ، ومن آذاني ؛ فقد آذى الله ، ومن آذى الله ؛ فيوشك أن يأخذه . رواه الترمذي .

[ ص: 183 ] ولمسلم من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أصحابي أمنة أمتي ، فإذا ذهب أصحابي ، أتى أمتي ما يوعدون . ومن ليس بعدل لا توصى فيه هذه الوصية ، ولا يكون أمنة ، أي : أمانا للأمة .

قوله : " ثم فيما تواتر " ، إلى آخره ، أي : ولو لم ترد هذه النصوص بتعديلهم ، لكان فيما تواتر من صلاحهم ، وطاعتهم لله ورسوله ، ببذلهم أنفسهم وأموالهم في الجهاد وطاعة رب العباد غاية التعديل .

فأما ما شجر بينهم من الخلاف ، فلم يكن منهم أحد معاندا للحق فيه ، بل كانوا متأولين ؛ فالمصيب منهم لا نزاع في عدالته ، والمخطئ منهم لا يقدح خطؤه في اجتهاده في عدالته ، كالحاكم .

[ ص: 184 ] فأما قوله عليه السلام : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض . فهو نهي وتحذير ، لا إخبار بأن ذلك يقع منهم ، ولا جرم ؛ فإنهم انتهوا بنهي النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فلم يقتتلوا قتال كفر وتكفير ، بل قتال اجتهاد وتأويل .

وأما قوله عليه السلام : ليختلجن ناس من أصحابي عن الحوض . الحديث ؛ فالمراد به أهل الردة ، بدليل قوله في الحديث : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم . والله أعلم .

قوله : " والصحابي " ، إلى آخره . لما أثبت عدالة الصحابة ، وجب القول [ ص: 185 ] في الصحابي ، المستحق لمنصب العدالة بتعديل الشرع من هو ؟

فالصحابي : من صحب الرسول عليه السلام مطلق الصحبة ، ولو ساعة ، أو لحظة ، ورآه مع الإيمان به ، إذ حقيقة الصحبة الاجتماع بالمصحوب ، وإنما شرطنا مع ذلك الإيمان ؛ لأن الكفار الذين صحبوه ورأوه عليه السلام ، لا يسمون صحابة بالاتفاق ؛ فدل على أن الإيمان شرط في إطلاق اسم الصحابي .

" وقيل : من طالت صحبته له " ، أي : وقيل : الصحابي : من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ، عرفا ؛ لأنه لا يقال في العرف : فلان صاحب فلان ، إلا لمن طالت صحبته له في العرف ، ولو كان مجرد الرؤية مع الاجتماع صحبة ، لكان أكثر الناس بعضهم أصحاب بعض ، إذ أكثرهم يحصل بينهم ذلك .

" وقيل : سنتين " ، أي : وقيل : الصحابي من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، سنتين ، " وغزا معه غزاة أو غزاتين " . وهذا فيما أظن قول سعيد بن المسيب ، وقد رد بمثل جرير بن عبد الله البجلي ، وهو صحابي باتفاق العلماء ، ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم ، هذه المدة ؛ لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة ، كما صرح به إبراهيم التيمي ، وجرير رضي الله عنه أيضا في حديث المسح على الخفين . والحديث في " الصحيحين " ، والمائدة [ ص: 186 ] من أواخر ما نزل ، وفيها : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] ، هذا من حيث الاستدلال ، ومن حيث التاريخ ؛ فذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه " التلقيح " أن إسلامه ، يعني : جرير بن عبد الله البجلي ، كان في السنة العاشرة ، وهي آخر سني الهجرة .

قوله : " والأول أولى " ، أي : أن القول بأن الصحابي من صحبه مطلق الصحبة مع الإيمان ، أولى من القولين الأخيرين . أما قول ابن المسيب ؛ فقد بينا ضعفه . وأما القول الآخر ؛ فلأن الصحابي مشتق من الصحبة ، وبمطلقها يتحقق الاشتقاق ، ولأنه يصح تقسيمها إلى القليل والكثير ، نحو صحبته لحظة ، وسنة ، ودهرا ، ومورد القسمة مشترك ، ولأنه لو حلف : ليصحبن فلانا ، أو لا صحبت فلانا ، حصل الحنث أو البر بمطلق الصحبة ، ولا نسلم أن الصاحب لا يطلق إلا على من طالت صحبته ، بل هو يطلق عليه ، ولا يلزم من إطلاقه عليه عدم إطلاقه على غيره ، بل الأولى أن يكون الإطلاق في جميع [ ص: 187 ] ذلك باعتبار القدر المشترك من الصحبة ، وهو مطلقها ، نفيا للمجاز والاشتراك عن اللفظ .

قوله : " ويعلم ذلك بإخبار غيره عنه ، أو هو عن نفسه " ، أي : ويعلم كونه صحابيا بإخبار غيره عنه أنه صحابي ؛ لأن ذلك بمثابة التعديل ، وخبر الواحد فيه مقبول ، خصوصا إذا كان صحابيا ، عدلا بتعديل الشرع ، أو بإخباره عن نفسه ، بأن يقول : أنا صحابي .

قلت : " وفيه نظر " أي : في ثبوت صحبته بقوله ؛ لأنه متهم بتحصيل منصب الصحابة لنفسه ، ولا يمكن تفريع قبول قوله على عدالة الصحابة ، بأن يقال : هذا صحابي عدل ؛ فيقبل خبره بأنه صحابي ؛ لأن عدالة الصحابة فرع الصحبة ؛ فلو أثبتت الصحبة بعدالة الصحابة ، لزم الدور .

أما أن عدالة الصحابة فرع الصحبة ؛ فلأنا لا نحكم بهذه العدالة إلا لمن ثبتت صحبته دون غيره ؛ فنقول : هذا صحابي ؛ فيكون عدلا بالأدلة السابقة .

وأما أنه لو أثبتت الصحبة بعدالة الصحابة ، لزم الدور ؛ فلأنه يلزم إثبات الأصل - وهو الصحبة - بالفرع - وهو العدالة - وإثبات الأصل بالفرع دور محال ، والشيخ أبو محمد زعم أن إثبات صحبة الراوي بقوله : أنا صحابي ، لا يلحق غيره مضرة ، ولا يوجب تهمة ، وهما ممنوعان . بل يوجب تهمة ، وهو تحصيل منصب الصحبة لنفسه ، ويضر بالمسلمين ، حيث يلزمهم قبول ما يرويه مع هذه التهمة ، والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية