صفحة جزء
[ ص: 191 ] ثم : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بكذا ، أو نهى عن كذا ؛ فحكمه حكم الذي قبله ، لكنه دونه ، لاحتمال الواسطة ، واعتقاد ما ليس بأمر أو نهي أمرا أو نهيا . لكن الظاهر أنه لم يصرح بنقل الأمر إلا بعد جزمه لوجود حقيقته ، ومعرفة الأمر مستفادة من اللغة ، وهم أهلها ؛ فلا يخفى عليهم ، ثم إنهم لم يكن بينهم في صيغة الأمر ونحوها خلاف ، وخلافنا فيه لا يستلزمه .

ثم أن يقول : أمرنا ، أو نهينا ؛ فيحتمل مع ما سبق من الاحتمالات أن الآمر غير الرسول عليه السلام ؛ فرده قوم لذلك ، والأظهر قبوله ، إذ مراد الصحابي الاحتجاج به ؛ فيحمل على صدوره ممن يحتج بقوله ، وهو الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، لكنه يحتمل أنه أراد أمر الله تعالى ، بناء على تأويل أخطأ فيه في نفس الأمر ؛ فيخرج قبوله إذن على أن مذهب الصحابي حجة أم لا .

ولا يتوجه هذا الاحتمال في قوله : من السنة كذا ، أو جرت ، أو مضت السنة بكذا ؛ فحكمه حكم أمرنا ونهينا .


قوله : " ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بكذا ، أو نهى عن كذا " .

هذه الرتبة الثالثة ، " فحكمه حكم الذي قبله " ، وهو قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حمله على السماع ، لكنه دون قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من وجهين :

أحدهما : احتمال الواسطة في قوله : أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أو نهى ، بخلاف قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

واعلم أنا قد بينا أن قوله : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يحتمل الواسطة أيضا ؛ فلا يصح الفرق بينه وبين قوله : أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، لعدم احتمال الواسطة في قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، واحتمالها في أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، نعم احتمال الواسطة في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقوى منه في قوله : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ لأن سماعه من يروي أمر الرسول ونهيه ؛ فيحكيه عنه ، ويضيفه إلى الرسول بواسطة من سمع منه ، أقرب وأكثر من قوله : قال ، مع إرادة الواسطة .

[ ص: 192 ] الوجه الثاني : في الفرق بين قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لفظ قال لفظ خبري لا احتمال فيه ، ولا اشتباه ، بخلاف قوله : أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فإن الأمر والنهي مشتبه في صيغه ومعانيه ؛ فيحتمل أن هذا الراوي اعتقد ما ليس أمرا أمرا ، وما ليس نهيا نهيا ، لاختلاف الناس في الأمر والنهي ، حتى قال بعض أهل الظاهر : لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ ، لكن مع هذا الاحتمال ؛ فالظاهر أنه لم يصرح بنقل الأمر بقوله : أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إلا بعد جزمه بوجود حقيقة الأمر ؛ فيكون هذا الظاهر راجحا على ذلك الاحتمال .

وإنما قلنا : إن الظاهر أنه ما نقل الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا بعد معرفة حقيقته ؛ لأن معرفة الأمر مستفادة من اللغة ، وهم - يعني الصحابة - أهل اللغة ؛ فلا يخفى عليهم لفظ الأمر من غيره .

ثم إن الصحابة لم يكن بينهم في صيغة الأمر والنهي ونحوها خلاف ، حتى يقال : إن الراوي يحتمل أن يشتبه عليه المراد من الأمر ، بل كان عندهم معلوما بالضرورة من لغتهم ، من غير اشتباه ولا احتمال ، وإنما وقع الخلاف في الأمر فيما بين الأصوليين بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم بكثير ، وذلك لا يستلزم اختلاف الصحابة فيه ، واشتباهه عليهم .

قوله : " ثم أن يقول : أمرنا أو نهينا " . هذه الرتبة الرابعة ؛ فيحتمل مع ما سبق من الاحتمالات أن الآمر غير الرسول ، أما الاحتمالات السابقة ؛ فهي احتمال الواسطة ، واحتمال اعتقاد ما ليس بأمر أمرا ، واحتمال اعتقاد ما ليس بنهي نهيا ؛ فهذه [ ص: 193 ] ثلاثة احتمالات ، وهي في الحقيقة احتمالان ، وهما قائمان في قوله : أمرنا أو نهينا ، ويزيد على ما سبقه من المراتب باحتمال أن الآمر غير الرسول ؛ لأن الفاعل في قوله : أمرنا غير مسمى ، " فرده قوم " وهو الكرخي وجماعة ، أي : منعوا إضافة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، " لذلك " أي : لعدم تسمية الفاعل ؛ لأنه يحتمل غيره قطعا ؛ فلا يضاف إلى الرسول بالاحتمال " والأظهر قبوله " ، وإضافته إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وهو قول الشافعي والأكثرين ؛ لأن مراد الصحابي إنما هو الاحتجاج به ، أي : بقوله : أمرنا ؛ فيجب حمله ، أي : حمل الأمر ، على صدوره ممن يحتج بقوله ، وهو الرسول عليه السلام ، إذ غيره لا حجة في أمره ، ولأن العرف ، أن المرءوس إذا قال : أمرنا أو نهينا ، أنه يريد رئيسه بذلك .

قوله : " لكنه " ، أي : لكن قوله : أمرنا ، " يحتمل أنه أراد أمر الله " ، أي : أن الله أمرنا بكذا ، " بناء على تأويل " آية أو حديث " أخطأ الصحابي فيه " ، أي : في التأويل " في نفس الأمر " .

ومثال هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما ، حين صام بالمدينة رمضان ، برؤية الهلال ليلة السبت ، وصام معاوية بالشام ، برؤية الهلال ليلة الجمعة ؛ فقيل لابن عباس : أما ترضى برؤية معاوية ؟ فقال : لا إنما رأيناه ليلة السبت ؛ فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما كان ذلك ؛ بناء [ ص: 194 ] منه على تأويل قوله عليه السلام : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، على ما ذكر .

وإنما مراد الحديث ما إذا لم يثبت في بعض البلاد ، لا مطلقا . أما إذا رئي في بعضها ؛ فهو كما لو رئي في جميعها عند الأكثرين ؛ فكان قول ابن عباس : هكذا أمرنا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بناء منه على إجرائه الحديث على إطلاقه ، في الصوم والإفطار للرؤية ، وفيه ما قد نبهنا عليه .

وكذلك ، لو قال قائل : أمرنا أن نرد المطلقة ثلاثا إلى زوجها الأول ، بمجرد عقد الزوج الثاني عليها ، بناءا على تأويله قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ، على أن النكاح فيه العقد ، " فيخرج قبول قوله " : أمرنا " على أن مذهب الصحابي حجة أم لا " ؛ لأن التأويل المذكور هو مذهبه . وفي الاحتجاج بمذهبه خلاف ، يذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى .

قوله : " ولا يتوجه هذا الاحتمال في قوله : من السنة كذا ، أو جرت السنة ، أو مضت السنة بكذا " .

أي : الخطأ في تأويل الأمر ، لا يتجه في قوله : من السنة كذا ؛ لأن قوله من السنة كذا ، ونحوه ، نقل مجرد ، لا اجتهاد فيه ، والخطأ في قوله : أمرنا ، على [ ص: 195 ] الاحتمال المذكور ، إنما جاء من الاجتهاد في لفظ النص ، حيث ظن أن الله سبحانه وتعالى أمر بما ليس آمرا به في نفس الأمر .

قوله : " فحكمه حكم أمرنا ونهينا " ، أي : قوله : من السنة كذا ، أو جرت السنة ، أو مضت السنة بكذا ، كقوله : مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين ؛ فلا يجتمعان أبدا ، ونحوه ، حكمه : حكم أمرنا ونهينا ، في أن الأظهر إضافته إلى سنة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لا غيره ، مع احتماله ما سبق من الاحتمالات ، وهو وقوع الواسطة بين هذا الراوي ، وبين سنة الرسول ، بأن يكون إما عرف أن ما ذكره من السنة بواسطة ، واحتمال اعتقاد ما ليس بأمر أو نهي أمرا أو نهيا .

فأما احتمال أن الآمر غير الرسول ؛ فلا يتجه في قوله : من السنة ، إذ ليس فيها لفظ أمر يستدعي آمرا ، ويحتمل أن يقوم مقام هذا الاحتمال في قوله : أمرنا ، احتمال تردد قوله : من السنة ، بين سنة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وسنة الخلفاء الراشدين ، وإنما قلنا : إن الأظهر إضافته إلى سنة النبي عليه السلام ، لتبادرها إلى الفهم عند الإطلاق ، ولأنه ذكر في معرض الاحتجاج ، وإنما الحجة في سنة الرسول ، وسنة الخلفاء الراشدين - وإن كانت حجة أيضا ، واللفظ يتناولها - لكنها مختلف فيها ، وسنة الرسول متفق عليها ؛ فحمل أمر الصحابي في قوله : من السنة ، على الاحتجاج بما لا خلاف فيه أولى .

[ ص: 196 ] وقول التابعي والصحابي ، في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعد موته ، سواء ، إلا أن الحجة في قول الصحابي أظهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية