صفحة جزء
ثم قوله : كنا نفعل ، أو : كانوا يفعلون ، نحو قول ابن عمر : كنا نفاضل ، وكنا نخابر أربعين سنة . وقول عائشة : كانوا لا يقطعون في الشيء التافه . فإن أضيف إلى عهد النبوة ، دل على جوازه ، أو وجوبه ، على حسب مفهوم لفظ الراوي ، إذ ذكره في معرض الاحتجاج يقتضي أنه بلغ النبي ، صلى الله عليه وسلم ؛ فأقره عليه ، وإلا لم يفد .

ثم قوله : كانوا يفعلون . لا يفيد الإجماع عند بعض الشافعية ، ما لم يصرح به عن أهله ، وهو نقل له عند أبي الخطاب ، قال : ويقبل قول الصحابي : هذا الخبر منسوخ ، ويرجع في تفسيره إليه .


قوله " وقول التابعي والصحابي ، في حياة الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، وبعد موته " ، سواء ، أي : قول الراوي : من السنة ، سواء كان تابعيا أو صحابيا ، في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعد موته ، سواء في أنه حجة ؛ لأن كلا منهما أضاف السنة إلى من تقوم الحجة بإضافتها إليه ، وهو الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، لكن الحجة في قول الصحابي أظهر منها في قول التابعي ، لعدم الواسطة ، وكونه شاهد ما لم يشاهد ، وكونه عدلا بالنص ، بخلاف التابعي في ذلك كله .

وقولنا : " في حياة الرسول وبعد موته " هو تقسيم بالنسبة إلى الصحابي فقط ؛ لأنه الذي يصح أن يقول : من السنة ، والرسول حي أو ميت . أما التابعي ؛ فلا يصح أن يقول ذلك غالبا إلا والرسول ميت ؛ لأنه لو قاله والرسول حي ، لكان صحابيا ، اللهم إلا من شذ من كبار التابعين ، ممن عاصر الرسول ولم يلقه ، ككعب الأحبار ، [ ص: 197 ] وعبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي ، ونحوهما ؛ فهؤلاء يمكن أن يسمعوا السنة من الصحابة ، في حياة الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ثم يقولون في حياته : من السنة كذا ، إلا أنه بعيد جدا ، ولم نعلم وقع منه شيء .

قوله : " ثم قوله : كنا نفعل " ، هذه الرتبة الخامسة ، وهي قول الصحابي : كنا نفعل ، أو كانوا يفعلون كذا .

نحو قول ابن عمر رضي الله عنهما : " كنا نفاضل على عهد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ فنقول : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ؛ فيبلغ ذلك رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ فلا ينكره " .

[ ص: 198 ] وقوله : " كنا نخابر أربعين سنة " ، يعني : نزارع مخابرة ، كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم ، أهل خيبر في مزارعة أرضهم .

" وقول عائشة : كانوا لا يقطعون في الشيء التافه " ، أي : لا يقطعون السارق في الشيء اليسير ، حتى يبلغ نصابا شرعيا .

قوله : " فإن أضيف " ، يعني قوله : كنا نفعل أو كانوا يفعلون ، " إلى عهد النبوة " ، بأن قال : كنا نفعل أو كانوا يفعلون على عهد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، " دل على جوازه أو وجوبه " ، أي : جواز ما كانوا يفعلونه ، أو وجوبه " على حسب مفهوم لفظ الراوي " ، أي : على حسب ما فهم منه ، ودل عليه من جواز ، أو وجوب ، أو ندب .

[ ص: 199 ] وإنما قلنا : إنه يدل على جوازه أو وجوبه ؛ لأن ذكره في معرض الاحتجاج ؛ يقتضي أنه بلغ النبي ، صلى الله عليه وسلم ؛ فأقر عليه ، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم ، حجة كما سبق .

قوله : " وإلا لم يفد " ، أي : وإن لم يضف قوله : كنا نفعل وكانوا يفعلون ، إلى عهد النبوة ، لم يفد أنه حجة ، إذ الحجة في إقرار النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وهو منتف في غير عهده ؛ فيحتمل أنه رأي رآه جماعة منهم ؛ فحكاه هذا الراوي عنهم ، ولفظه - وإن كان يقتضي اتفاق جميعهم عليه - غير أنه غير قاطع فيه ، بل هو مظنون ؛ فلذلك ساغ خلافه .

قوله : " ثم قوله : كانوا يفعلون " ، إلى آخره . ليست هذه رتبة سادسة للفظ الراوي ؛ لأنها قد ذكرت في الرتبة الخامسة التي تكلمنا فيها آنفا ، بل هو كلام على هذه الصيغة ، من حيث إنها هل تفيد الإجماع أم لا ؟

والكلام عليها أولا من حيث إنها حجة أم لا ؟ والحجة أعم من الإجماع .

فالتقدير أن قول الراوي : كانوا يفعلون ، إن أضيف إلى عهد النبوة ؛ فهو حجة إقرارية ، وإن لم يضف إلى عهد النبوة ؛ فليس حجة إقرارية .

وهل يكون حجة إجماعية ؟ فيه خلاف . فهذا معنى قوله : كانوا يفعلون " لا يفيد الإجماع عند بعض الشافعية " ، أي : لا يفيد إضافة الفعل المحكي إلى جميع أهل الإجماع من ذلك العصر ، ما لم يصرح بنقل الإجماع عن أهله ، وهم أهل الحل والعقد ، " وهو نقل له " ، أي : هذا اللفظ ، وهو قوله : كانوا يفعلون نقل للإجماع [ ص: 200 ] " عند أبي الخطاب " .

قلت : يشبه أن النزاع لفظي ، وأنه إجماع ظني لا قطعي ؛ لأن هذا اللفظ يفيد إضافة الفعل إلى الجماعة ظنا لا قطعا . صرح به الآمدي في صيغة : كنا نفعل ، والصيغتان واحدة . ولقول أبي الخطاب قوة وظهور ، من جهة أن الراوي ؛ إنما يذكر هذه الصيغة في معرض الاحتجاج ، وهو إنما يحصل بفعل أهل الإجماع .

قوله : " قال " - يعني أبا الخطاب - : " ويقبل قول الصحابي : هذا الخبر منسوخ ، ويرجع في تفسيره إليه " ، هاتان مسألتان :

إحداهما : قبول قوله : هذا الخبر منسوخ ؛ لأنه نص على الإخبار بالنسخ نصا جازما ؛ فيحمل على علمه به ، دفعا للكذب عنه ، والغش والتلبيس منه على الناس .

وقال الإمام فخر الدين : لا يقبل ، لاحتمال كون ذلك اجتهادا منه .

وقال الكرخي : إن قال : هذا الخبر نسخ ذاك الخبر ، لم يقبل . وإن قال : هو منسوخ ، قبل ؛ لأنه لم يجد للاجتهاد مجالا ؛ فهو قاطع به . وضعف هذا إمام الحرمين .

قلت : الاحتمال في قوله : هذا منسوخ ، قائم ؛ فهو يفيد النسخ ظنا لا قطعا .

المسألة الثانية : أنه يرجع في تفسير الخبر إلى الصحابي ؛ لأنه أعلم بما سمع ، وسواء كان التفسير بقوله أو فعله كما فسر ابن عمر رضي الله عنهما حديث : المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا . بتفرق الأبدان ، حيث كان إذا باع أو اشترى شيئا ، [ ص: 201 ] يمشي خطوات ، ليلزم البيع ، وحديث : فإن غم عليكم فاقدروا له . بصومه يوم الغيم ، وربما جاءت هذه فيما بعد إن شاء الله تعالى .

تنبيه : قد بان من هذه الجملة ؛ أن لألفاظ الصحابي خمس مراتب :

الأولى : أن يقول : سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أو حدثني ، ونحوه ، وهو يقتضي عدم الواسطة باتفاق .

الثانية : قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الثالثة : أن يقول أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بكذا ، أو نهى عن كذا . وهاتان محمولتان على عدم الواسطة أيضا عند مالك والشافعي وأحمد .

الرابعة : قوله : أمرنا أو نهينا ؛ فهو عند الثلاثة محمول على أمره عليه السلام ، خلافا للكرخي .

الخامسة : قوله : كنا نفعل ، وكانوا يفعلون . إن أضيف إلى عهد النبوة ؛ فهو حجة إقرارية ، وإلا فلا .

فأما قول الصحابي : عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ فقيل : يحمل على سماعه منه ، وقيل : لا .

[ ص: 202 ] ومأخذ الخلاف أن ( عن ) معناها المجاوزة ؛ فمعنى قوله : عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، جاوز القول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي ، وهو أعم من أن يكون بواسطة أو غيرها ؛ فمن رجح تحسين الظن بالصحابي ، حمله على السماع ، ومن نظر إلى احتمال قيام الواسطة ، ورجح جانب الاحتياط ، لم يحمله عليه . وهذان الوجهان في غير الصحابي ؛ إذا قال : عن فلان ، ولم يعرف بتدليس ، فإن عرف بتدليس ؛ فالوجهان أيضا ، لكن يصير تدليسه قرينة مرجحة لعدم السماع ، وكان قتادة مدلسا ؛ فكان شعبة يراعي لفظه ، فإن قال : سمعت أنسا مثلا كتب عنه ، وإن قال : عن أنس ، لم يكتب .

انتهى الكلام على مراتب لفظ الصحابي .

التالي السابق


الخدمات العلمية