صفحة جزء
[ ص: 203 ] أما غير الصحابي ؛ فلكيفية روايته مراتب :

إحداها : سماعه قراءة الشيخ ، في معرض إخباره ، ليروي عنه ؛ فله أن يقول : سمعت ، وقال ، وحدثني ، وأخبرني فلان .

الثانية : أن يقرأ هو على الشيخ ؛ فيقول : نعم ، أو يسكت ؛ فله الرواية ، لظهور الصحة والإجابة ، خلافا لبعض الظاهرية ، إلا مع مخيلة غفلة أو إكراه ؛ فلا يكفي السكوت ، ثم له أن يقول : أخبرنا ، وحدثنا فلان قراءة عليه ، وبدون : قراءة عليه ، فيه روايتان : المنع ، لإيهام السماع في لفظه ، وهو كذب . والجواز ؛ لأنه في معناه ، وهذا كقول الشاهد على مقر " بنعم " : أشهدني على نفسه بكذا وكذا .

وهل يجوز للراوي إبدال قول الشيخ : أخبرنا . " بحدثنا " ، أو عكسه ، فيه روايتان : الجواز ، لاتحاد المعنى لغة . والمنع ، لاختلافه اصطلاحا .


قوله : " أما غير الصحابي " ، يعني كالتابعي ومن بعده ، " فلكيفية روايته مراتب : إحداها : سماعه قراءة الشيخ ، في معرض إخباره ، ليروي عنه " ، أي : سماع الراوي قراءة الشيخ للحديث ، على جهة إخباره للراوي أنه من روايته ، ليروي الراوي عنه ؛ فله ، أي : فللراوي أن يقول : سمعت فلانا ، يعني شيخه المذكور ، يقول : كذا ، وله أن يقول : قال فلان ، وحدثني ، وأخبرني فلان ؛ لأن هذه الصيغ جميعها صادقة على السماع لغة ، والسماع صادق عليها .

المرتبة الثانية : أن يقرأ هو ، يعني الراوي ، على الشيخ ؛ فيقول الشيخ : نعم ، أو يسكت ؛ فله الرواية ، عنه بذلك ، لظهور الصحة والإجابة ، أي : لأن قول [ ص: 204 ] الشيخ : نعم ، في سياق قراءة الراوي عليه ، ظاهر في أن رواية الشيخ للحديث صحيحة ، وفي أنه أجاب الراوي إلى الرواية عنه " خلافا لبعض الظاهرية " .

وظاهر كلام الشيخ أبي محمد ، أن خلافهم فيما إذا سكت الشيخ ، فلم يعترف ، ولم ينكر ، بإشارة ولا عبارة ؛ لأنه قال في دليله : ولنا : أنه لو لم يكن صحيحا ، لم يسكت ؛ فحصر الدليل عليهم بحالة السكوت . وإنكار الرواية مع السكوت محكي عن بعض المتكلمين أيضا ، وكأنهم ذهبوا إلى أن الساكت لا ينسب إليه قول ، وإلى أن السكوت عدم الكلام ؛ فلا يفيد ثبوت الرواية .

والجواب : أن الساكت مع القرينة كالناطق ، ولهذا كان إقرار النبي صلى الله عليه وسلم ، على الأقوال والأفعال والأحوال التي تنتهي إليه حجة ، وإنما هو عبارة عن السكوت مع قرينة الرضى . وسكوت الشيخ في معرض قراءة الراوي عليه ، يفيد الإخبار والإذن في الرواية عنه ، وإلا كان تلبيسا في الدين ، وهو فسق ، والأصل عدمه .

فأما إذا قرأ على الشيخ ؛ فقال : نعم ، أو قال : أخبرك فلان بكذا ؛ فقال : نعم ؛ فلا يتجه فيه خلاف ، ويكون كما لو سمع الراوي قراءة الشيخ يحدثه .

قوله : " إلا مع مخيلة غفلة ، أو إكراه ؛ فلا يكفي السكوت " ، يعني سكوت الشيخ فيما إذا قرأ الراوي عليه ، إن كان مع تنبهه فهو كاف في الرواية ، وإن كان ثم قرينة غفلة من الشيخ ، أو إكراه له على الرواية ، أو أمر يحيل ذلك ، لم يكن سكوته كافيا في الرواية ، كما سبق في إقرار النبي عليه السلام ، إن كان مع علمه وقدرته [ ص: 205 ] على الإنكار ، كان حجة ، وإلا فلا .

قوله : " ثم له " ، أي : للراوي " أن يقول : أخبرنا فلان " ، و " حدثنا فلان قراءة عليه " ؛ لأنه حكى حاله عند القراءة ، وهو صادق ؛ لأن خبره مطابق . وبدون : " قراءة عليه " ، أي : إذا قال الراوي فيما قرأه على الشيخ وهو ساكت : أخبرنا فلان بكذا ، ولم يقل : " قراءة عليه " ؛ ففيه روايتان :

إحداهما : المنع ، أي : ليس له ذلك ؛ لأنه يوهم السماع من لفظ الشيخ ، وهو كذب في الرواية ؛ فلا يجوز .

والثاني : جواز ذلك ؛ لأنه في معناه ، أي : سكوت الشيخ مع عدم المانع عند قراءة الراوي عليه ، هو في معنى سماع الراوي من لفظ الشيخ ؛ فاقتصاره على أخبرنا لا يكون كذبا في الحقيقة .

قوله : " وهذا كقول الشاهد على مقر بـ نعم : أشهدني على نفسه بكذا وكذا " . هذا تقوية للرواية الثانية ، ومعناه : أن من قيل له : ألفلان عليك عشرة دراهم مثلا ؟ فقال : نعم ، كان للشاهد عليه أن يقول : أشهدني على نفسه بعشرة دراهم ، مع أنه لا مستند لهذه الشهادة إلا قول المشهود عليه : نعم ؛ فكذا في الرواية ، بل أولى ؛ لأن حكمها أيسر من حكم الشهادة ، والأصل في هذا أن نعم حرف تقرير لما قبله ؛ فهو مقدر بعده ؛ فقول الشيخ : نعم ، تقديره : نعم أخبرني بكذا . وقول المقر : نعم ، تقديره : نعم له علي عشرة دراهم ؛ فالجملة مرادة في الحكم والتقدير ، لكنها حذفت ، لظهورها بقرينة الحال على مذهب العرب في الاختصار .

قوله : " وهل يجوز للراوي إبدال قول الشيخ : أخبرنا ، بحدثنا أو عكسه " ، يعني : [ ص: 206 ] إبدال قوله حدثنا بأخبرنا ، يعني إذا قال الشيخ المسمع مثلا : أخبرنا فلان بحديث كذا ؛ فهل للراوي أن يقول : حدثني شيخنا فلان ، قال : حدثنا فلان بحديث كذا ؟ فيه روايتان : إحداهما : الجواز ، لاتحاد المعنى في اللغة ، إذ لا فرق فيها بين أخبرنا ، وحدثنا ، وأنبأنا ؛ لأنه مشتق من الخبر ، والحديث ، والنبأ ، وهي واحدة . ذكره ابن فارس في كتاب مفرد له في علم الحديث .

والرواية الثانية : المنع ، لاختلاف مقتضى اللفظين اصطلاحا ، أي : في اصطلاح المحدثين ؛ فإنهم يخصون لفظ حدثنا بما سمع من لفظ الشيخ ، و [ ص: 207 ] أخبرنا يصلح عندهم لذلك ، ولما قرئ على الشيخ ؛ فأقر به ؛ فالإخبار أعم من التحديث ، وأنبأنا يطلقها المتأخرون على الإجازة ، والمتقدمون يطلقونها بمعنى أخبرنا أو حدثنا ، والاصطلاح في كل لفظ يقضي على وضعه اللغوي ، ويقدم عليه ، ولهذا كانت الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية ، تقديما لاصطلاح الشرع على وضع اللغة .

التالي السابق


الخدمات العلمية