صفحة جزء
[ ص: 208 ] الثالثة : الإجازة ، نحو : أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني ، أو ما صح عندك من مسموعاتي . والمناولة ، نحو : خذ هذا الكتاب فاروه عني ، ويكفي مجرد اللفظ دون المناولة . فيقول فيهما : حدثني ، أو أخبرني إجازة ، فإن لم يقلها ؛ فقد أجازه قوم ، وهو فاسد ، لإشعاره بالسماع منه ، وهو كذب . ومنع أبو حنيفة وأبو يوسف الرواية بهما ، وفيه نظر ، إذ الغرض معرفة صحة الخبر ، لا عين الطريق .

ولو قال : خذ هذا الكتاب ، أو : هو سماعي ، ولم يقل : اروه عني . لم تجز روايته عنه ، كما لو قال : عندي شهادة بكذا ؛ فلا يشهد بها ؛ لجواز معرفته بخلل مانع ، وقد يتساهل الإنسان في الكلام ، وعند الجزم به يتوقف .

ولا يروي عنه ما وجده بخطه ، لكن يقول : وجدت بخط فلان كذا ، وتسمى الوجادة . أما إن قال : هذه نسخة صحيحة بكتاب البخاري ونحوه ، لم تجز روايتها عنه مطلقا ، ولا العمل بها ، إن كان مقلدا ، إذ فرضه تقليد المجتهد ، وإن كان مجتهدا ؛ فقولان .


المرتبة " الثالثة : الإجازة ، نحو " قول الشيخ للراوي : " أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني ، أو ما صح عندك من مسموعاتي " .

" والمناولة : نحو " قوله : " خذ هذا الكتاب ؛ فاروه عني " ؛ فهذا من طرق الرواية ، ومما يجوز به .

قوله : " ويكفي " - يعني في المناولة - " مجرد اللفظ ، دون المناولة " ، أي : دون أن يناوله الكتاب بيده ؛ لأن الإذن إنما يستفاد من اللفظ ، لا من إعطاء الكتاب ، [ ص: 209 ] لأنه لو اقتصر على إعطائه الكتاب ، ولم يقل له : اروه عني ، لم تجز الرواية ، وإنما جازت بلفظ الإذن ؛ فدل على أنه المستقل بها ، وإنما سمي هذا مناولة ؛ لأن المحدثين اصطلحوا على أن أحدهم يناول الآخر كتابا ؛ فيقول : اروه عني ، عادة واتفاقا ، لا اشتراطا لإعطاء الكتاب في المناولة ، وحينئذ تصير المناولة نوع إجازة .

قوله : " فيقول فيهما " ، أي : في الإجازة والمناولة ، يقول الراوي : حدثني فلان إجازة ، أو أخبرني فلان إجازة " فإن لم يقلها " ، أي : إن لم يقل إجازة ، بل اقتصر على قوله : حدثني ، أو أخبرني ، " فقد أجازه قوم " ؛ لأن الإجازة والمناولة في معنى إسماع الشيخ ، وقراءة الراوي عليه ، " وهو " ، أي : هذا القول ، " فاسد " ؛ لأنه قوله : أخبرني فلان ، يشعر بسماعه منه ، وهو كذب ؛ لأنه لم يسمع منه شيئا .

قوله : " ومنع أبو حنيفة وأبو يوسف الرواية بهما " ، أي : بالإجازة والمناولة ، " وفيه " ، أي : فيما قالاه ، " نظر " ؛ لأن الغرض من الرواية معرفة صحة الخبر ، لا عين طريقه التي هو ثابت بها ، وذلك لأن طريق الحديث ، وهو قول الراوي : حدثنا فلان ، عن فلان ، إلى آخر السند ، إنما هو وسيلة إلى معرفة صحة الحديث ، ومعرفة صحته مقصد ، والقاعدة أن المقاصد إذا حصلت بدون الوسائل ، سقطت ؛ لأنها ليست مقصودة لنفسها ، ومعرفة صحة الخبر حاصلة بالإجازة والمناولة ؛ لأن المخبر عدل جازم بالإذن في الرواية ، والظاهر أنه ما أذن إلا فيما هو عالم بصحته وروايته له .

وقد صنف الخطيب البغدادي جزءا في الإجازة للمعدوم وذكر حججه وأقوال [ ص: 210 ] الناس فيه ؛ فالإجازة للموجود أولى .

فائدة : جرت عادة المستجيزين في إجازاتهم أن يقولوا : المسئول من إنعام المشايخ ، أن يجيزوا لفلان وفلان وفلان ما صح عندهم من مسموعاتهم ، إلى آخر الإجازة . فالضمير في عندهم متردد بين أنه للمشايخ ، أو للجماعة المستجيزين ، وهو لهم دون المشايخ ؛ لأن المشايخ قد صح عندهم ما أجازوه ، وإنما المراد : ما صح عند المستجيزين أنه رواية المشايخ ، جاز لهم أن يرووه . وقد نبهت على هذا بقولي : " أو ما صح عندك من مسموعاتي " .

قوله : " ولو قال : خذ هذا الكتاب ، أو : هو سماعي ، ولم يقل : اروه عني ، لم تجز روايته " ، لما سبق من أن جواز الرواية ، إنما يستفاد من الإذن فيها ، وهو مفقود ههنا ؛ لأنه إنما أباح له أخذ الكتاب ، أو أخبره أنه سماعه ، وبالقياس على ما لو قال الشاهد : عندي شهادة بكذا ، ولم يقل له : اشهد بها ؛ فإنه لا يشهد بها ما لم يأذن له .

قوله : " لجواز معرفته بخلل مانع " . هذا تعليل لعدم جواز الرواية بمجرد قوله : خذ هذا الكتاب ، أي : لا يروي عنه بمجرد ذلك ، لجواز معرفة الشيخ في رواية الكتاب بخلل مانع منها .

قوله : " وقد يتساهل الإنسان في الكلام " . هو جواب سؤال مقدر ، وهو أن يقال : لو علم أن في روايته خللا ، لما قال له : خذ هذا الكتاب ، أو هو سماعي ؛ لأنه تغرير [ ص: 211 ] للسامع بالرواية عنه ؛ فيكون غشا في الدين .

والجواب : أن الإنسان قد يتساهل في الكلام ، وعند العمل والجزم والتحقيق يتوقف ، وحينئذ لا يمتنع أن يقول له : خذ هذا الكتاب ليستفيد به نظرا ، أو هو سماعي ، ترغيبا له في الرواية عنه لغيره ، أو لذلك الكتاب بعينه ، بشرط أن يتحقق حال روايته له فيما بعد .

قوله : " ولا يروي عنه " ، أي : عن شيخه ، أو عن غيره ، " ما وجده بخطه " ، أي : بخط الشيخ ، بأن يقول : أخبرنا أو حدثنا ؛ لأنه كذب ، لكنه يقول : وجدت بخط فلان كذا وكذا ، " وتسمى الوجادة " ، وهي فعالة ، من وجد الشيء يجده وجدانا : إذا صادفه ، ولقيه .

قوله : " أما إن قال : هذه نسخة صحيحة بكتاب البخاري " ، إلى آخره .

أي : إن قال العدل : هذه نسخة صحيحة بكتاب البخاري ، أو مسلم ، أو الترمذي ، أو غيرها من دواوين السنة ، ولم يقل : اروها عني ، لم يجز للسامع روايتها عنه مطلقا ، أي : سواء كان مجتهدا ، أو مقلدا ، لعدم الإذن له في الرواية .

فأما العمل ، فإن كان مقلدا ، لم يجز له العمل بما فيها ؛ لأن فرضه تقليد المجتهد ، لقصوره عن معرفة الحكم مع تعارض الأدلة ، وإن كان مجتهدا ؛ ففيه [ ص: 212 ] قولان :

أحدهما : لا يجوز له العمل به ، لعدم سماعه له .

والثاني : له العمل به ، ويلزمه فيما يجب العمل به ؛ لأن المحذور في العمل بالحديث ؛ إما من جهة ضعفه ، أو من جهة الخطأ في دلالته ، وكلاهما منتف ههنا .

أما الضعف فقد انتفى بقول العدل العارف : هذه نسخة صحيحة .

وأما الخطأ في الدلالة فمنتف لأن المجتهد عارف بتنزيل الأدلة منازلها ، وكيفية التصرف فيها ، ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحملون كتب الأحكام ، كصحف الصدقات وغيرها إلى البلاد ؛ فكان الناس يعملون بما فيها ، اعتمادا على فهمهم لمضمونها ، وشهادة حاملها بصحتها عن أمر الشرع .

التالي السابق


الخدمات العلمية