صفحة جزء
[ ص: 220 ] التاسعة : الزيادة من الثقة المنفرد بها مقبولة ، لفظية كانت أو معنوية ، كالحديث التام وأولى . ولإمكان انفراده ، بأن يكون عرض لراوي الناقص شاغل ، أو دخل في أثناء الحديث ، أو ذكرت الزيادة في أحد المجلسين ، فإن علم اتحاد المجلس ، قدم قول الأكثر عند أبي الخطاب ، ثم الأحفظ ، والأضبط ، ثم المثبت ، وقال القاضي : فيه مع التساوي روايتان .


المسألة " التاسعة : الزيادة من الثقة المنفرد بها مقبولة ، لفظية كانت " ، كقوله ربنا لك الحمد ، ربنا ولك الحمد ، فإن الواو زيادة في اللفظ لا في المعنى ، أو معنوية ، أي : تفيد معنى زائدا ، كقوله عليه السلام : إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ، تحالفا وترادا ، فإن الأكثرين لم يذكروا : والسلعة قائمة .

[ ص: 221 ] قوله : " كالحديث التام وأولى " . هذا دليل المسألة ، وهو من وجهين :

أحدهما : القياس على قبول الحديث التام إذا انفرد به الثقة ؛ فالزيادة أولى بالقبول ؛ لأنها غير مستقلة ، بل تابعة لغيرها ، وإذا قبل الحديث المستقل ممن انفرد به ؛ فغير المستقل أولى أن يقبل .

الوجه الثاني : أن انفراد الثقة بالزيادة ممكن ، وقد أخبر به ، وكل ممكن أخبر به الثقة ، وجب قبوله .

ولتوجيه إمكان انفراده بالزيادة طرق :

منها : أن يعرض لراوي الناقص شاغل عن سماع الزيادة ، مثل أن بلغه خبر مزعج ، أو عرض له ألم ، أو حاجة الإنسان ، أو كانت له دابة على باب المجلس ؛ فشردت ؛ فراح يتبعها ؛ فانفرد غيره بالزيادة ، كما روى عمران بن حصين رضي الله عنه ، قال : دخلت على النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وعقلت ناقتي بالباب ؛ فأتى ناس من أهل اليمن ؛ فقالوا : يا رسول الله ، جئنا لنتفقه في الدين ، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان ، قال : كان الله ولم يكن معه شيء وكان عرشه على الماء ، ثم خلق السماوات [ ص: 222 ] والأرض ، وكتب في الذكر كل شيء ، قال عمران : ثم أتاني رجل ؛ فقال : يا عمران أدرك ناقتك ؛ فقد ذهبت ؛ فانطلقت أطلبها ، فإذا السراب يتقطع دونها ، وايم الله ، لوددت أنها ذهبت ، ولم أقم .

ومنها : أن راوي الناقص دخل في أثناء الحديث وقد فاته بعضه ؛ فرواه من سمعه دونه ، كما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه ، قال : كانت علينا رعاية الإبل ؛ فجاءت نوبتي أرعاها ؛ فروحتها بعشي ؛ فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قائما يحدث الناس ؛ فأدركت من قوله : ما من مسلم يتوضأ ؛ فيحسن وضوءه ، ثم يقوم ؛ فيصلي ركعتين ، يقبل عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة ؛ فقلت : ما أجود هذا ، فإذا عمر بن الخطاب بين يدي يقول : التي قبلها أجود ، قال : ما منكم من أحد يتوضأ ؛ فيسبغ الوضوء ، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله . . . الحديث ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء .

ومنها أن الحديث وقع في مجلسين ، وفي أحدهما زيادة ، ولم يحضره أحد الراويين ، وهذا كحديث أبي سعيد رضي الله عنه ، حيث روى حديث الذي يمنيه الله تعالى في الجنة ؛ فيتمنى حتى تنقطع به الأماني ؛ فيقول الله عز وجل : فإن لك ما تمنيت ومثله معه ؛ فقال أبو هريرة رضي الله عنه ، وكان يسمع هذا الحديث من أبي سعيد : فإن لك ما تمنيت وعشرة أمثاله ؛ فقال أبو سعيد : لم أسمع إلا ومثله [ ص: 223 ] معه ؛ فقال أبو هريرة : قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : وعشرة أمثاله ؛ فهذا يحتمل أنهما كانا في مجلس واحد ، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، باللفظين أحدهما بعد الآخر ، بوحي ، أو إلهام ؛ فسمع أبو سعيد : ومثله معه وشغل بعارض عن سماع : وعشرة أمثاله ؛ فسمعها أبو هريرة ، ويحتمل أنه كان في مجلسين ، غاب أبو سعيد عن أحدهما . هكذا في رواية لأحمد ، وفيها : ثم قال أحدهما لصاحبه : حدث بما سمعت ، وأحدث بما سمعت . وله في رواية أخرى عن أبي سعيد : لك هذا وعشرة أمثاله ، كرواية أبي هريرة ، ولعله لما ذكره ، تذكر ؛ فوافق .

ومن هذا الباب ما روى عروة بن الزبير ، قال : قال زيد بن ثابت : يغفر الله لرافع [ ص: 224 ] ابن خديج ، أنا والله أعلم بالحديث منه - يعني حديث المزارعة - إنما أتاه رجلان من الأنصار ، وقد اقتتلا ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كان هذا شأنكم ؛ فلا تكروا المزارع ؛ فسمع - يعني رافعا - قوله : لا تكروا المزارع . يعني : ولم يسمع الشرط .

فإن علم اتحاد المجلس ، أي : أن مجلس الحديث واحد ، ووقعت الزيادة فيه من بعض الرواة ، قدم قول الأكثرين ، سواء كانوا رواة الزيادة أو غيرهم ، تغليبا لجانب الكثرة ؛ لأن الخطأ عنها أبعد ، فإن استووا في الكثرة - أعني رواة الزائد والناقص - قدم الأحفظ والأضبط ؛ لأن الحفظ والضبط مما يصلح الترجيح بهما ، فإن استووا في الكثرة والحفظ والضبط ، مثل أن كانوا عشرة ؛ فروى الزيادة منهم خمسة ، ولم يتعرض لها الباقون ، أو نفوها ، قدم قول المثبت ، لما ذكرنا في تقديم الجرح على التعديل .

وقال القاضي أبو يعلى : فيه مع التساوي روايتان ، أي : إذا تساووا في الكثرة والحفظ والضبط ، واختلفوا في الزيادة ؛ ففيه قولان :

أحدهما : يقدم قول المثبت ، لإخباره بزيادة علم .

والثاني : قول النافي ؛ لأن الأصل عدم الزيادة .

قلت : الزيادة إما أن تنافي المزيد عليه ، أو لا تنافيه ، فإن نافته ، احتيج إلى الترجيح ، لتعذر الجمع ، كما في " الصحيحين " من حديث ابن عمر رضي الله عنهما [ ص: 225 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم : من أعتق شركا له في عبد ، وكان له من المال ، ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل ; فهو عتيق ، وإلا فقد عتق منه ما عتق . مع ما في الصحيح أيضا من حديث أبي هريرة : من أعتق شقصا في مملوك ، فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال ، قوم قيمة عدل ، ثم يستسعى في نصيب الذي لم يعتق ، غير مشقوق عليه . فإن زيادة الاستسعاء تنافي قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما : وإلا فقد عتق منه ما عتق . وهكذا مذهب الفقهاء ، بعضهم ينفي الاستسعاء ، وبعضهم يثبته .

[ ص: 226 ] وإن لم تناف الزيادة المزيد عليه ، لم يحتج إلى الترجيح بل يعمل بالزيادة إذا ثبتت ، كما في المطلق والمقيد . وكقول أنس رضي الله عنه : رضخ يهودي رأس جارية ; فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأسه بين حجرين . رواه بعضهم هكذا مطلقا ، وبعضهم يقول : فأخذ اليهودي ; فاعترف ; فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأسه . وهي رواية " الصحيحين " ، والترمذي ، وغيرهم .

فائدة : قد تكون الزيادة في الحديث رافعة للإشكال ، مزيلة للإجمال والاحتمال ، وقد تكون دالة على إرادة القدر المشترك ، لا على خصوصية الزيادة أو ضدها .

مثال الأول : قوله عليه السلام : إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث . فاحتمل هذا اللفظ أنه لم يحمل الخبث ، أي : يدفعه عن نفسه لقوته ، كما يقال : فلان لا يحمل الضيم ، وهو تأويل الجمهور في أن القلتين لا تنجس ما لم تتغير ، وهو ظاهر اللفظ ، واحتمل أنه لا يحمل الخبث ، أي : يضعف عن حمله لضعفه ، كما يقال : المريض لا يحمل الحركة والضرب ; فجاء في لفظ أحمد وابن ماجه : إذا [ ص: 227 ] بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء ; فكان هذا رافعا لذلك الإجمال .

ومثال الثاني : ما ورد في حديث الولوغ : إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم ; فاغسلوه سبعا إحداهن بالتراب . وفي لفظ : أولاهن . وفي لفظ آخر : آخراهن بالتراب . فالتقييد بالأولى والأخرى تضاد يمتنع الجمع فيه ; فكان ذلك دليلا على إرادة القدر المشترك ، وهو غسل واحد بتراب أيتهن كانت .

وقد تكون الزيادة دالة على أمور أخر ، تعرف بالنظر في الحديث ، واعتباره بقوانين أصول الفقه ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية