صفحة جزء
[ ص: 228 ] العاشرة : الجمهور على قبول مرسل الصحابي ، وخالف قوم ، إلا أن يعلم بنصه أو عادته أنه لا يروي إلا عن صحابي ، لجواز أن يروي عن غير صحابي .

لنا : إجماعهم على قبول أحاديثهم ، مع علمهم أن بعضهم يروي بواسطة بعض ، كحديثي أبي هريرة وابن عباس ، وقال البراء بن عازب : ما كل ما حدثناكم به سمعناه من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، غير أنا لا نكذب . والصحابي لا يروي إلا عن صحابي ، أو معلوم العدالة غيره ; فلا محذور .

أما مرسل غير الصحابي ، كقول من لم يعاصر النبي صلى الله عليه وسلم : قال النبي صلى الله عليه وسلم . ومن لم يعاصر أبا هريرة : قال أبو هريرة ; ففيه قولان : القبول : وهو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، واختاره القاضي وجماعة من المتكلمين . والمنع : وهو قول الشافعي ، وبعض المحدثين .

والخلاف هنا مبني على الخلاف في رواية المجهول ، إذ الساقط من السند مجهول ، وقد تقدم الكلام فيه .


المسألة " العاشرة : الجمهور على قبول مرسل الصحابي " ، وهو ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بواسطة راو آخر لم يسمه ، " وخالف قوم " ; فقالوا : لا يقبل " إلا أن يعلم بنصه أو عادته ، أنه لا يروي إلا عن صحابي " ، أما إن لم يعلم ذلك منه ، لم يقبل ما أرسله ، لجواز أنه رواه عن غير صحابي .

" لنا " على قبوله مطلقا : " إجماعهم على قبول أحاديثهم " ، أي : إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، على قبول بعضهم حديث بعض ، مع علمهم أن بعضهم يروي بواسطة بعض ، كحديثي أبي هريرة ، وابن عباس السابقين في مراتب ألفاظ الصحابي ، وهو حديث : من أصبح جنبا فلا صوم له . حيث رواه أبو هريرة عن الفضل بن عباس ، وحديث ابن عباس : إنما الربا في النسيئة . حيث رواه عن أسامة بن زيد .

[ ص: 229 ] وقال البراء : ما كل ما حدثناكم به سمعناه من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، غير أنا لا نكذب . يعني بل بعضنا يروي بواسطة بعض ; لأن الصحابي لا يروي إلا عن صحابي ، وهو معلوم العدالة كما سبق ، أو عن معلوم العدالة غير صحابي ; لأن الصحابة رضي الله عنهم أحوط للدين من أن يرووا أحكامه عمن لا يعول عليه ، وحينئذ لا محذور في مراسيلهم ; لأن الواسطة عدل بكل حال . هذه أدلة " المختصر " في المسألة :

وهنا دليلان آخران :

أحدهما : في " الروضة " ، وهو أن الأمة أجمعت على قبول رواية ابن عباس ، ونظرائه من أصاغر الصحابة ، مع إكثارهم ، وإنما أكثر روايتهم عن أكابر الصحابة .

كان ابن عباس يتردد إلى أبواب أكابر الصحابة ، يأخذ العلم عنهم ، ثم هو تارة يسميهم ، وتارة يرسل الرواية عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ; فقد صار مرسل الصحابة مقبولا بالإجماع . ولا جرم ، كان المخالف فيه شاذا .

الثاني : ما صح عن عمر رضي الله عنه أنه كان وجار له يتناوبان مجلس النبي ، [ ص: 230 ] صلى الله عليه وسلم ، هذا يوما ، وهذا يوما ، ثم يخبر الحاضر منهما الغائب بما يكون في يومه . وهذا يدل على أن بعضهم كان يروي عن بعض ، وبواسطته ، وقد سبق هذا في عموم الدليل الأول .

" أما مرسل غير الصحابي ، كقول من لم يعاصر النبي صلى الله عليه وسلم : قال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ومن لم يعاصر أبا هريرة : قال أبو هريرة " ; ففيه قولان :

أحدهما : " القبول ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ، واختاره القاضي " أبو يعلى ، " وجماعة من المتكلمين " ، وجمهور المعتزلة .

والثاني : " المنع ، وهو قول الشافعي ، وبعض المحدثين " ، وأهل الظاهر ، وهذا نقل مطلق عن الشافعي ، والنقل المفصل عنه أن الحديث إن كان من مراسيل الصحابة ، أو كان قد أسنده غير من أرسله ، أو أرسله راو آخر من غير طريق الأول - بمعنى اختلفت طرق إرساله - فيتعاضد بعضها ببعض ، أو يكون المرسل قد عرف من حاله أنه لا يروي عن غير عدل ، أو عضده قول صحابي ، أو قول أكثر أهل العلم ; فهو حجة ، وافقه على ذلك أكثر أصحابه ، والقاضي أبو بكر .

[ ص: 231 ] وقال عيسى بن أبان : تقبل مراسيل الصحابة ، والتابعين ، وتابعيهم ، ومن هو من أئمة النقل ، دون غيرهم .

قال الآمدي : والمختار قبول مراسيل العدل مطلقا .

قلت : التفصيل أحوط ، والقبول مطلقا أسهل ، وأكثر للأحكام .

قوله : " والخلاف هنا " ، أي : في مرسل غير الصحابي " مبني على الخلاف في رواية المجهول " ; لأن المرسل هو الحديث الذي سقط من سنده راو ; فذلك الساقط من السند مجهول ، وجهالته هي التي أوجبت رده عند الخصم . وقد تقدم الكلام في رواية المجهول ، وبينا في صدر المسألة ، أن الأشبه بظاهر الآية قبولها ، بناء على أن شرط القبول عدم العلم بالفسق ، وإن كنا عند تقرير الأدلة التفصيلية رجحنا المنع .

ومما يقوى به قبول المرسل مطلقا ، هو أن العدل إذا قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ; فالظاهر منه أنه لم يقل ذلك إلا بعد علمه ، أو ظنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ، وذلك يستلزم عدالة الواسطة . ولو لم يكن الظاهر منه ذلك ، لكان غاشا للمسلمين ، ملبسا في الدين ، وذلك ينافي العدالة . لكنا فرضناه عدلا ، هذا خلف ، بل المرسل ربما كان أقوى من المسند ، استدلالا بقول إبراهيم النخعي : إذا رويت لكم عن عبد الله ، وأسندت ; فقد حدثني واحد عنه ، وإذا أرسلت ; فقد حدثني جماعة [ ص: 232 ] عنه .

وعورض هذا بما سبق من أن الراوي قد يروي عن من لو سئل عن حاله ، لضعفه ، أو سكت عنه ، فإذا احتمل أن الواسطة في المرسل كذلك ، سقط الاحتجاج به حتى يعلم .

ورد هذا بأن ما ذكرتموه فيما إذا كان المروي عنه معينا ، ولم يجزم الراوي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال كذا ، بل قال : قال فلان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذا ; فالعهدة هاهنا على المروي عنه ، وعلى من بلغه الحديث البحث عنه .

أما إذا لم يذكر المروي عنه ، وجزم الراوي بإضافة الحديث إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ; فلا يتأتى ما ذكرتموه ، بل يجب أن يكون عالما أو ظانا ثبوت الحديث كما قررناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية