صفحة جزء
[ ص: 233 ] الحادية عشرة : الجمهور يقبل خبر الواحد :

فيما تعم به البلوى ، كرفع اليدين في الصلاة ، ونقض الوضوء بمس الذكر ، ونحوها - خلافا لأكثر الحنفية ; لأن ما تعم به البلوى ، تتوفر الداوعي على نقله ; فيشتهر عادة ; فوروده غير مشتهر ، دليل بطلانه . ولنا : قبول السلف من الصحابة وغيرهم خبر الواحد مطلقا . وما ذكروه يبطل بالوتر ، والقهقهة ، وتثنية الإقامة ، وخروج النجاسة من غير السبيلين ، إذ أثبتوه بالآحاد ، ودعواهم تواتره واشتهاره غير مسموعة ، إذ العبرة بقول أئمة الحديث . ثم ما تعم به البلوى يثبت بالقياس ; فبالخبر الذي هو أصله أولى .

وفيما يسقط بالشبهات ، كالحدود - خلافا للكرخي ; لأنه مظنون ; فينهض شبهة تدرأ الحد ، وهو باطل بالقياس والشهادة ، إذ هما مظنونان ، ويقبلان في الحد .

وفيما يخالف القياس ، خلافا لمالك .

وفيما يخالف الأصول أو معناها ، خلافا لأبي حنيفة .

لنا : تصويب النبي صلى الله عليه وسلم ، معاذا في تقديمه السنة على الاجتهاد ، واتفاق الصحابة على ذلك ، ولأن الخبر قول المعصوم ، بخلاف القياس .

قالوا : القائس على يقين من اجتهاده ، وليس على يقين من صحة الخبر .

قلنا : ولا على يقين من إصابته . ثم احتمال الخطأ في حقيقة الاجتهاد ، لا في حقيقة الخبر ، بل في طريقه ; فكان أولى بالتقديم . وأيضا مقدمات القياس أكثر ; فالخطأ فيها أغلب .

ثم الوضوء بالنبيذ سفرا لا حضرا ، وبطلان الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة دون خارجها ، مخالف للأصول ، وهو آحاد عند أئمة النقل ، وقد قالوا به .


المسألة " الحادية عشرة : الجمهور : يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى " ، أي : فيما يكثر التكليف به " كرفع اليدين في الصلاة ، ونقض الوضوء بمس الذكر ، [ ص: 234 ] ونحوها " من أخبار الآحاد التي يكثر التكليف بمقتضاها " خلافا لأكثر الحنفية " ، قالوا : " لأن ما تعم به البلوى ; تتوفر الدواعي على نقله عادة ; فيشتهر عادة " فإذا ورد غير مشتهر ، بل على ألسنة الآحاد ، دل على بطلانه ، وإنما قلنا : إن الدواعي تتوفر على نقله ; لأنه يجب على النبي صلى الله عليه وسلم ، إشاعته ، وإلا كان إخفاء للشرع ، وكتمانا للعلم ، وإذا شاع ، توفرت الدواعي على نقله ; فوجب اشتهاره عادة .

" ولنا " ، أي : على قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى ، أن السلف من الصحابة وغيرهم ، قبلوا خبر الواحد مطلقا ; فيما تعم به البلوى وغيره ، كقبولهم خبر عائشة رضي الله عنها في الغسل من الجماع بدون الإنزال ، وخبر رافع بن خديج في المخابرة ، وهما مما تعم به البلوى .

قوله : " وما ذكروه " ، إلى آخره . هذا نقض لدليل الخصم .

وتقريره : أن ما ذكرتموه من وجوب اشتهار ما تعم به البلوى عادة يبطل بالوتر ; فإنكم أوجبتم الوتر ، والوضوء بالقهقهة داخل الصلاة ، واختاروا تثنية [ ص: 235 ] الإقامة في الصلاة ، وأوجبوا الوضوء بخروج النجاسة من غير السبيلين ، وكل ذلك مما تعم به البلوى ، بأخبار الآحاد ، وكذلك الغسل من غسل الميت تعم به البلوى ، وإنما ثبت بخبر الواحد .

وقوله : " ودعواهم تواتره واشتهاره غير مسموعة ، إذ العبرة بقول أئمة الحديث " .

هذا جواب عن دعوى يدعيها الحنفية في الأخبار التي أثبتوا بها الأحكام ، وهي أنهم يزعمون أن الأخبار المذكورة تواترت عندهم ، واشتهرت ; فما أثبتنا ما تعم به البلوى إلا بخبر مشهور .

والجواب : أن هذه دعوى غير مسموعة ; لأن العبرة في اشتهار الخبر وعدمه ، وصحته وعدمها ، بقول أئمة الحديث ، لا بقولكم ، والأحاديث المذكورة عند أئمة الحديث آحاد ، ثم ما تعم به البلوى يثبت بالقياس ، والقياس فرع للخبر ، ومستنبط منه ; فلأن يثبت بالخبر الذي هو أصل القياس أولى ، ولهم أن يقولوا : نحن إنما نثبته بالقياس الجلي ، المستنبط من خبر مشهور ; فيكون القياس في معنى أصله ، فإن راعوا هذه القاعدة ، لم يرد عليهم ما ذكرناه من ثبوت ما تعم به البلوى بالقياس ; لأنهم لا يثبتونه بمطلق القياس ، بل بقياس خاص .

فأما قولهم : يجب على النبي صلى الله عليه وسلم ، إشاعة ما تعم به البلوى ; فتتوفر الدواعي على نقله ; فيشتهر عادة .

فجوابه : أنا لا نسلم ذلك ، وإنما كان يجب عليه الإشاعة ، لو لم يكن الظن كافيا في التعبد مطلقا ، لكنه كاف في التعبد ; فلا تجب الإشاعة ولو سلمنا وجوب [ ص: 236 ] إشاعته على النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لكنا لا نسلم أن ذلك يقتضي توفر الدواعي على نقله واشتهاره ، لجواز أن يعلم الناس أن مناط تعبدهم الظن ; فيكتفوا من النقل بما يحصله ، وهو الآحاد .

قوله : " وفيما يسقط بالشبهات " ، أي : ويقبل خبر الواحد فيما يسقط بالشبهات ، كالحدود ، " خلافا للكرخي " ، وأبي عبد الله البصري ، قالا : " لأنه " ، أي : خبر الواحد ، " مظنون " ، أي : إنما يفيد الظن ، " فينهض شبهة تدرأ الحد " ، لقوله عليه السلام : ادرءوا الحدود بالشبهات . وهو ، أي : ما ذكروه ، " باطل بالقياس والشهادة " ; فإنهما إنما يفيدان الظن ، ومع ذلك يقبلان في الحد ، وليس كل شبهة [ ص: 237 ] يدرأ بها الحد ، والحديث مخصوص بصور كثيرة ، لم يؤثر فيها مطلق الشبهة ، ثم ما ذكروه من درء الحد بالشبهة معارض بالحكم بالظاهر ، فإن خبر الواحد ظاهر ، مغلب على الظن ثبوت الحد . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : نحن نحكم بالظاهر . ولو اعتبرت القواطع في الحدود ، لتعطلت ، أو كثر وقوعها ، وطمع مواقعوها .

قوله : " وفيما يخالف القياس " ، أي : ويقبل خبر الواحد فيما يخالف القياس ، " خلافا لمالك ، وفيما يخالف الأصول " ، أو معنى الأصول ، " خلافا لأبي حنيفة " .

واعلم أن الفرق بين المسألتين مما يستشكل ; فيقال : ما الفرق بين ما خالف القياس وبين ما خالف الأصول ؟ والحنفية يمثلونه بخبر المصراة ، وهو أيضا مخالف [ ص: 238 ] للقياس ، إذ القياس ضمان المثلي بمثله ، والتمر ليس مثلا للبن .

والجواب : أن القياس أخص من الأصول ، إذ كل قياس أصل ، وليس كل أصل قياسا ; فما خالف القياس قد خالف أصلا خاصا ، وما خالف الأصول ، يجوز أن يكون مخالفا لقياس ، أو لنص ، أو إجماع ، أو استدلال ، أو استصحاب ، أو استحسان ، أو غير ذلك .

فقد يكون الخبر مخالفا للقياس ، موافقا لبعض الأصول . وقد يكون بالعكس ، كانتقاض الوضوء بالنوم ، موافق للقياس من حيث إنه تعليق للحكم بمظنته ، كسائر الأحكام المعلقة بمظانها ، وهو مخالف لبعض الأصول ، وهو الاستصحاب ، إذ الأصل عدم خروج الحدث ، وقد ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم .

وقد يكون مخالفا لهما جميعا ، كخبر المصراة ، فإن القياس كما دل على ضمان الشيء بمثله ، كذلك النص والإجماع دل على ذلك ، وقد يكون موافقا لهما ، كالآثار في تحريم النبيذ ، موافقة لقياسه على الخمر ، والنص على الإجماع على تحريمها ، والنص على تحريم كل مسكر .

والقسمة رباعية ; لأن الخبر إما أن يوافق القياس والأصول ، أو يخالفهما ، أو يوافق أحدهما دون الآخر ، وأصحابنا لم يتركوا حديث القهقهة لمخالفته القياس ، [ ص: 239 ] بل لعدم صحته عندهم .

قوله : " لنا " ، أي : على تقديم الخبر على القياس ، وإن خالف الأصول ومعناها وجوه :

أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، صوب معاذا في تقديمه السنة على الاجتهاد ، حيث قال له : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله . قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي . فصوبه في ذلك ، وهو يقتضي تقديم الخبر على الاجتهاد والقياس مطلقا ، وإن خالفه ، مع أنه لا يظهر فائدة تقديمه عليه إلا إذا خالفه .

الوجه الثاني : اتفاق الصحابة على ذلك ، أي : على تقديم الخبر على الاجتهاد ; فإنهم إنما كانوا يصيرون إليه عند عدم النصوص ، إذا وجدوها ، تركوه إليها ، كما رجع عمر في غرة الجنين إلى حديث حمل بن مالك ، وكان يفاضل بين دية الأصابع ، ويقسمها على قدر منافعها ; فلما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم : في كل إصبع عشر من الإبل ، رجع إليه ، وكان بمحضر من الصحابة ; فلو وجب تقديم [ ص: 240 ] القياس لما أقروه على تركه .

الوجه الثالث : أن الخبر قول للمعصوم ، بخلاف القياس ; فإنه اجتهاد المجتهد ، وليس بمعصوم ، فإذا تعارض قول المعصوم ، وقول من ليس بمعصوم ، كان قول المعصوم أولى بالتقديم ; لأن الخطأ فيه مأمون .

قوله : " قالوا : القائس على يقين من اجتهاده " ، إلى آخره . هذه معارضة لهذا الوجه الثالث ، وهي أيضا دليل مستقل للخصم .

وتقريره : أن القائس على يقين من اجتهاده ; لأنه يباشر النظر في أصل القياس ، وفرعه ، وعلته ، وحكمه ، وليس على يقين من صحة الخبر ، لتعدد الوسائط بينه وبين الشارع ، واتباع ما هو على يقين منه أولى من اتباع ما ليس على يقين منه .

قوله : " قلنا " . هذا جواب الدليل المذكور .

وتقريره : أن القائس كما أنه ليس على يقين من صحة الخبر ، كذلك هو ليس على يقين من إصابته في القياس ، وكونه على يقين من اجتهاده لا ينفع ; لأن المقصود الإصابة ، وليس على يقين منها . وأما الاجتهاد ; فهو أعم من أن يخطئ أو يصيب ، وإذا استوى الخبر والإصابة في أنه ليس على يقين من واحد منهما ، بقي ما ذكرناه من رجحان الخبر ، بكونه قول المعصوم ، سالما عن المعارض ، وهو أقوى في إفادة الظن من القياس .

[ ص: 241 ] قوله : " ثم احتمال الخطأ " ، إلى آخره ، هذا ترجيح آخر للخبر .

وتقريره : أن الخطأ ; وإن كان متطرقا إلى الاجتهاد والخبر جميعا ، غير أن احتمال الخطأ في حقيقة الاجتهاد ، وهو : تحقيق الجامع في القياس ، وإلحاق الفرع بالأصل بواسطته ، وليس احتمال الخطأ في حقيقة الخبر ; لأنه قول المعصوم ، وإنما احتمال الخطأ في طريق الخبر ، بأن يكون فيه راو ضعيف أو علة ما ، وما كان الخطأ متطرقا إلى أمر خارج عنه ، يكون أولى بالتقديم مما كان الخطأ متطرقا إلى حقيقته .

قوله : " وأيضا مقدمات القياس أكثر ; فالخطأ فيها أغلب " . هذا ترجيح آخر للخبر .

وتقريره : أن القياس يتوقف على مقدمات كثيرة ، أكثر من المقدمات التي يتوقف عليها الخبر ، وذلك أن القياس يتوقف على معرفة الأصل والفرع ، وتحقيق العلة فيهما ، ثم إلحاق الفرع بالأصل ، وكل واحدة من هذه المقدمات يتطرق الخطأ إلى القياس منها .

وأما الخبر ; فإنما يتوقف على مقدمة واحدة ، وهي النظر في السند ، والخطأ فيما كثرت مقدماته أغلب منه فيما قلت مقدماته ; فيكون أولى بالتقديم ، خصوصا إن كان سند الخبر قصيرا ، كثلاثيات البخاري ، ونحوها ، فإن احتمال الخطأ هاهنا يكون نادرا .

قوله : " ثم الوضوء بالنبيذ " ، إلى آخره . هذا نقض على الحنفية .

[ ص: 242 ] وتقريره : أنكم قد أوجبتم الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر ، بشرطه عندكم ، وأبطلتم الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة ، دون خارج الصلاة ، مع أن ذلك مخالف للأصول .

قوله : " وهو آحاد عند أئمة النقل " . هذا جواب عن سؤال مقدر لهم ، وهو أنهم يقولون : محل النزاع إنما هو قبول خبر الواحد فيما يخالف الأصول ، وخبر الوضوء بالنبيذ ، وبطلان الوضوء بالقهقهة ، ليس من أخبار الآحاد عندنا ، بل هو متواتر أو مستفيض ، يصلح أن تترك الأصول لمثله ، بخلاف خبر الواحد .

وجوابه ما ذكرناه ، وهو : أنا لا نسلم أن ذلك متواتر ولا مستفيض ، كما ذكرتم ، بل هو آحاد عند أئمة النقل ، وبعضهم يضعفها ، والاعتبار في النقل بأئمته لا بكم .

وقد ذكر الترمذي أن حديث النبيذ لم يروه إلا أبو زيد ، وهو كوفي مجهول . وأما حديث القهقهة ; فهو من مراسيل أبي العالية ، وفي إسناده ومتنه ما يمنع الاحتجاج به ، ثم هو معارض بأن أكثر الروايات الصحيحة فيه ; أن الأمر إنما كان بإعادة الصلاة دون الوضوء .

تنبيه : هكذا وقع الكلام في هذه المسألة في " المختصر " تبعا لأصله ، وذكر [ ص: 243 ] الآمدي تفصيلا ، وهو : أن خبر الواحد إذا خالف القياس ، فإن كان أحدهما أخص من الآخر ، كان القياس مخصصا للخبر ، كما يأتي في العموم والخصوص إن شاء الله تعالى . ويكون الخبر مخصصا للقياس ، إن قلنا بجواز تخصيص العلة .

وإن لم يكن أحدهما أخص من الآخر ، وتعارضا من كل وجه ، وتعذر الجمع بينهما ; فالخبر مقدم عند الشافعي وأحمد ، وكثير من الفقهاء ، والقياس مقدم عند مالك ، والوقف مذهب القاضي أبي بكر ، قال : والمختار أن علة القياس إن كانت منصوصة ; فخبر الواحد أولى ، إن قلنا إن التنصيص على العلة لا يخرج القياس عن كونه قياسا ; لأن دلالة خبر الواحد إما راجحة على دلالة نص العلة ، أو مساوية لها ، أو مرجوحة بالنسبة إليها ، وبتقدير رجحانها ومساواتها يكون الخبر أولى ، لدلالته على الحكم من غير واسطة ، بخلاف نص العلة ، إذ دلالته بواسطة القياس ، وإنما يترجح دلالة نص العلة إذا كانت راجحة على تقدير واحد ، وإن كانت العلة مستنبطة ; فالخبر أولى مطلقا ، واستدل بخبر معاذ وغيره .

قلت : هذا تفصيل قد ذكرناه مجردا عن مثال ، تكملة لما في " المختصر " ، وأمثلته تطول ، وربما تعددت ، وذو الدربة يفهم مقصودها مجردة عن مثال ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية