صفحة جزء
[ ص: 251 ] القول في النسخ

وهو لغة : الرفع والإزالة ، يقال : نسخت الشمس الظل ، والريح الأثر ، وقد يراد به ما يشبه النقل ، نحو نسخت الكتاب ، واختلف في أيهما هو حقيقة ، والأظهر أنه في الرفع .

وشرعا : قالت المعتزلة : هو الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم ، زائل على وجه ، لولاه لكان ثابتا ، وهو حد للناسخ لا للنسخ ، لكنه يفهم منه .

وقيل : هو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم ، بخطاب متراخ عنه .

فالرفع : إزالة الحكم على وجه ، لولاه لبقي ثابتا ، كرفع الإجارة بالفسخ ; فإنه يغاير زوالها بانقضاء مدتها . وبالخطاب المتقدم : احتراز من زوال حكم النفي الأصلي ، إذ ليس بنسخ . وبخطاب : احتراز من زوال الحكم بالموت والجنون ; فليس بنسخ . واشتراط التراخي احتراز من زوال الحكم بمتصل ، كالشرط ، والاستثناء ، ونحوه ; فإنه بيان لا نسخ .

والأجود أن يقال : رفع الحكم الثابت بطريق شرعي ، بمثله ، متراخ عنه . ليدخل ما ثبت بالخطاب ، أو ما قام مقامه من إشارة ، أو إقرار ; فيهما .


" القول في النسخ : وهو لغة " - أي : في اللغة - الرفع والإزالة ، يقال : نسخت الشمس الظل ، ونسخت الريح الأثر ، أي : رفعته وأزالته ; لأن الشمس إذا قابلت موضع الظل ، ارتفع وزال ، والريح إذا مرت على آثار المشي ، ارتفعت وزالت .

قوله : " وقد يراد به " ، أي : بالنسخ ، ما يشبه النقل نحو : نسخت الكتاب ، فإن نسخ الكتاب ليس نقلا لما في المنسوخ منه حقيقة ، لبقائه بعد النسخ ، [ ص: 252 ] وإنما هو مشبه للنقل ، من جهة أن ما في الأصل صار مثله في الفرع ، لفظا ومعنى .

ومن هذا الباب تناسخ المواريث ، وهو انتقال حالها بانتقالها من قوم إلى قوم ، مع بقاء المواريث في نفسها .

قوله : " واختلف في أيهما هو حقيقة " ، أي : اختلف في النسخ ، في أي المعنيين هو حقيقة ، هل هو حقيقة في الرفع والإزالة ، أو في النقل وما يشبهه ؟ وفيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه حقيقة فيهما بالاشتراك ، وهو قول القاضي أبي بكر والغزالي وغيرهما .

والثاني : أنه حقيقة في الرفع والإزالة ، مجاز في النقل ، وهو قول أبي الحسين البصري وغيره .

والثالث : عكس هذا ، وهو أنه حقيقة في النقل ، مجاز في الإزالة ، وهو اختيار القفال . ذكر هذه الأقوال وأصحابها الآمدي .

قوله : " والأظهر أنه في الرفع " ، أي : الأظهر من هذه الأقوال أن النسخ حقيقة في الرفع ، مجاز في النقل ، وإنما قلنا ذلك ; لأن التعارض في الأقوال الثلاثة ، قد وقع بين الاشتراك على القول الأول ، وبين المجاز على القولين الآخرين . والأظهر أن المجاز أولى من الاشتراك ; فيبقى الأمر دائرا بين القولين الأخيرين ، وهو أن النسخ حقيقة في الرفع ، مجاز في النقل ، أو في العكس ، والأول أظهر على ما في " المختصر " ، ووجهه أن الرفع أخص من النقل ; فيكون أولى بحقيقة النسخ .

[ ص: 253 ] أما أن الرفع أخص من النقل ; فلأن الرفع يستلزم النقل ، والنقل لا يستلزم الرفع ; فيكون الرفع أخص ، واعتبر ذلك بالجواهر المحسوسة ; فإنك إذا رفعت حجرا من مكان ، استلزم ذلك نقله عن ذلك المكان ، وقد يمكن أن يزول عن مكانه من غير رفع ، بأن يعدمه الله سبحانه وتعالى ، ويقول له : كن عدما ; فيكون ، مع أنه لا رفع هناك ، ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه لا رفع هناك ، بل هناك رفع إلهي غير محسوس .

وأما أنه إذا كان الرفع أخص ، كان أولى بحقيقة اللفظ ; فلأن الأخص أبين وأدل وأوضح ; فيكون بالحقيقة أولى ; لأن الحقيقة تدل بدون قرينة ، وذلك لوضوحها ، بكونها موضوعة لمعناها ; فحصل بذلك التناسب في الوضوح بين الأخص والحقيقة ; فكان بها أولى .

وقد يعارض هذا بأن الأعم أكثر فائدة ; فيكون أولى ; بأن يكون حقيقة في اللفظ .

أما أن الأعم أكثر فائدة ; فلأنه يشمل من الأفراد أكثر مما يشمله الأخص ، كالحيوان الذي يشمل من الأفراد أكثر مما يشمله الإنسان ; فيكون أكثر فائدة بالضرورة .

وأما أنه إذا كان أكثر فائدة ، كان أولى بحقيقة اللفظ ; فلأن الألفاظ وضعت لإفادة المعاني ; فكلما كانت إفادتها للمعاني أكثر ، كانت بالحقيقة أولى .

فإذا عرفت ما على المختار في " المختصر " من التوجيه والاعتراض ; فالتحقيق هاهنا أن يقال :

الإزالة والنقل ; إما أن يكونا متساويين في العموم والخصوص ; فلا إشكال ; لأنهما حينئذ مترادفان ; فيصح أن يقال : النسخ : الإزالة ، والنسخ : النقل . أو يكونا متفاوتين في العموم والخصوص ; فتكون الإزالة أولى بحقيقة النسخ من النقل ; لأنه [ ص: 254 ] أوفق لكلام أهل اللغة ; إذ كان ترجيحا بالحقيقة من حيث عموم اللفظ وخصوصه ، وقد وقع فيه التعارض كما بيناه آنفا ; فيرجع إلى الترجيح اللغوي ، وهو موافق لما ذكرناه ، من أن النسخ حقيقة في الإزالة .

قال الجوهري : نسخت الشمس الظل ، وانتسخته : أزالته ، ونسخت الريح آثار الديار : غيرتها ، ونسخت الكتاب وانتسخته واستنسخته : كله بمعنى ، ونسخ الآية بالآية : إزالة مثل حكمها ; فالثانية ناسخة ، والأولى منسوخة ، والتناسخ في الميراث : أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم لم يقسم . هذا الذي ذكره في هذه المادة ، وقد صرح فيه بلفظ الإزالة .

قلت : وإن جعل النسخ حقيقة في القدر المشترك بين الرفع والإزالة والنقل وما يشبهه ، وهو التغيير ، كان أولى . وقد صرح الجوهري بلفظ التغيير فيما ذكرناه .

وقد أطلت الكلام في هذا ، وهو من رياضيات هذا العلم ، لا من ضرورياته ، كما سبق في مبدأ اللغات .

قوله : " وشرعا " ، أي : والنسخ في الشرع ، قال المعتزلة : هو الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه ، لولاه لكان ثابتا .

قوله : " وهو حد للناسخ ، لا للنسخ " ، أي : تعريف النسخ بالخطاب الدال ، إلى آخره ، غير مطابق ; لأن الخطاب ناسخ ، لا نسخ ، ولأن النسخ مصدر : نسخ [ ص: 255 ] ينسخ نسخا ، والخطاب ليس المراد به مصدر خاطب خطابا ، حتى يكون تعريف مصدر بمصدر ، وهو مطابق في اللفظ ، إنما المراد بالخطاب القول الدال ، كما سبق تحقيقه عند تعريف الحكم .

قوله : " لكنه يفهم منه " ، أي : تعريف النسخ يفهم من قولهم : الخطاب الدال ; لأن الناسخ يستلزم النسخ ، أو يدل عليه دلالة الفاعل على الفعل ، أو المؤثر على الأثر .

وتحقيق هذا المكان : أن النسخ من الألفاظ الإضافية ، التي يدل اللفظ منها على متعلقات له ; فلا بد فيه من ناسخ ، ومنسوخ ، ومنسوخ له ، ومنسوخ به ، ونسخ ; فيجب الكشف عن حقائق هذه الأمور ، ليتميز بعضها من بعض .

فالناسخ في الحقيقة : هو الله سبحانه وتعالى ; لأنه الرافع للأحكام ، والمزيل لها ، ويطلق الناسخ مجازا على اللفظ الذي يزيل اعتبار لفظ غيره ، وعلى الحكم الذي يرتفع به غيره ، كما يقال : هذه الآية نسخت تلك ، وهذا الحكم نسخ ذلك الحكم ، كما يقال : وجوب التوجه إلى الكعبة نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس .

والمنسوخ هو الحكم المرتفع بغيره كالتوجه إلى بيت المقدس .

والمنسوخ له علة النسخ ، وهو المصلحة أو الحكمة المقتضية له ، أو إرادة الله سبحانه وتعالى لتلك الحكمة ، فإن إرادة الله سبحانه وتعالى علة بعيدة ، والحكمة المقتضية للنسخ علة قريبة .

والمنسوخ به هو اللفظ ، والحكم الرافع لغيره ، كقوله تعالى : فول وجهك [ ص: 256 ] شطر المسجد الحرام [ البقرة : 144 ] ، الدال على التوجه إلى الكعبة ، وهذا المنسوخ به ، هو الذي سبق أنه يسمى ناسخا مجازا .

والنسخ نسبة بين هذه المسميات ، وهو استعمال الناسخ المنسوخ به ، في إزالة حكم المنسوخ .

فإذا عرفت هذا ، عرفت أن تعريف النسخ بالخطاب الدال تعريف للنسخ بالناسخ ، ولكنه يفهم منه ، لدلالته عليه كما ذكرنا .

قوله : " وقيل " ، أي ، في تعريف النسخ : " هو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم ، بخطاب متراخ عنه " . هذا تعريف آخر للنسخ ، مطابق في اللفظ والمعنى ; لأن الرافع مصدر ، كما أن النسخ مصدر وليس هذا تعريفا للنسخ بالناسخ .

وقوله : " بخطاب متقدم " ، هو متعلق بالثابت .

وقوله : " بخطاب متراخ عنه " ، متعلق برفع الحكم .

وتقريره النسخ : هو أن يرفع بخطاب متراخ ، حكم ثبت بخطاب متقدم .

ثم فسر الرفع بأنه إزالة الحكم على وجه ، لولاه لبقي ثابتا ، كرفع الإجارة بالفسخ ; فإنه يغاير زوالها بانقضاء مدتها ; لأن فسخها قطع لدوامها ، لسبب خفي عن المتعاقدين عند ابتداء العقد ، وانقضاء مدتها هو ارتفاع حكمها لسبب علماه عند ابتداء العقد ، وهو انقضاء الأجل ; فمن استأجر أرضا سنة ، علم عند ابتداء العقد أن عند انتهاء السنة ، يرتفع حكم الإجارة ، ولو انقطع ماء الأرض ، أو بانت مستحقة في أثناء السنة ; فللمستأجر الفسخ ، مع عدم علمه عند ابتداء العقد [ ص: 257 ] بانقطاع ماء الأرض ، واستحقاقها ; فكذلك نسخ الحكم ، هو قطع لدوامه ، لا بيان انتهاء مدته في علم الله تعالى ، إذ ذلك لا يسمى نسخا ، كما أن انقضاء مدة الإجارة لا يسمى فسخا .

وأورد على هذا أن النسخ لو كان قطعا لدوام الحكم ، للزم منه تغير العلم الأزلي ، وهو محال .

وبيانه أن النسخ لا يكون قطعا لدوام الحكم ; إلا إذا كان الحكم مستمرا في علم الله سبحانه وتعالى ، كما لا يكون فسخ الإجارة قطعا لدوامها ، إلا إذا كانت مستمرة بحكم العقد إلى آخر المدة ، ولو كان الحكم مستمرا في علم الله تعالى ، ثم انقطع قبل غايته بالنسخ ، لزم تغير العلم الأزلي ; لأنه سبحانه وتعالى يكون قد علمه مستمرا ، وما استمر ، بل انقطع بالنسخ ; فيلزم منه وقوع خلاف العلم الأزلي ، وهو محال .

ولهذا فر الأستاذ أبو إسحاق ، وإمام الحرمين ، وجماعة ، إلى أن قالوا : النسخ بيان انتهاء مدة الحكم .

واختاره الإمام فخر الدين في " المعالم " ، وحكاه عن أكثر العلماء ، واختاره القرافي . وهؤلاء يجعلون النسخ تخصيصا زمانيا ، أي : أن الخطاب الثاني بين أن الأزمنة بعده لم يكن ثبوت الحكم فيها مرادا من الخطاب الأول ، كما أن التخصيص في الأعيان كذلك ، وربما وقع التعرض لما يتعلق بهذا في أثناء الكلام إن شاء الله تعالى .

قوله : " وبالخطاب المتقدم احتراز " ، إلى آخره هذا بيان احترازات وقعت في الحد المذكور :

[ ص: 258 ] أحدها : قولنا : رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم : احتراز من زوال حكم النفي الأصلي ; فإنه ليس بنسخ ، كما نقول : الأصل براءة الذمة ; فهذا حكم ثبت بالنفي الأصلي ، فإذا أثبتنا في الذمة حقا بشاهدين ، أو غير ذلك من البينات الشرعية ; فقد رفعنا حكم براءة الذمة ، وشغلناها بالحق ، مع أن هذا ليس بنسخ ; لأن الحكم المرفوع هاهنا ليس ثابتا بخطاب متقدم ، بل بالنفي الأصلي . ومعنى النفي الأصلي : هو البقاء على حكم العدم في المحدثات قبل وجودها .

الاحتراز الثاني : قولنا : رفع الحكم بخطاب : احتراز من زوال الحكم بالموت والجنون ، فإن من مات ، أو جن ، انقطعت عنه أحكام التكليف ، وليس ذلك بنسخ ; لأن انقطاع الأحكام عنهما لم يكن بخطاب ، وكذلك ارتفاع حكم الصوم بمجيء الليل ، وحكم الفطر بمجيء النهار ليس نسخا ; لأنه لم يكن بالخطاب ، بل بانتهاء غاية الحكم ، وانقضاء وقته ، ويلزم من عرف النسخ بانتهاء مدة الحكم ، أن يجعل دخول الليل نسخا للصوم ; لأن بدخوله بان انتهاء مدة الصوم ، لكن لم يسم الأصوليون ذلك نسخا .

الاحتراز الثالث : اشتراط التراخي في الخطاب الرافع ، حيث قلنا : رفع الحكم بخطاب متراخ : احتراز من زوال الحكم بخطاب متصل ، كالشرط والاستثناء ، نحو : أنت طالق إن دخلت الدار ، فإن قوله " إن دخلت الدار " قد رفع حكم عموم وقوع الطلاق ، الذي دل عليه : أنت طالق . وقوله : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة ، هذا الاستثناء رفع عموم الطلاق الثلاث ، حتى رده إلى اثنتين . وقوله [ ص: 259 ] تعالى : فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ; فالغاية المذكورة رفعت عموم التحريم ; فهذا كله وأمثاله ليس بنسخ ; لأنه وإن كان رفعا لحكم بخطاب ، لكن ذلك الخطاب غير متراخ ; فهو تخصيص لا نسخ ، وهو معنى قولنا : فإنه بيان لا نسخ ; لأن التخصيص بيان ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

قوله : " والأجود " ، أي : في تعريف النسخ ، " أن يقال : رفع الحكم الثابت بطريق شرعي ، بمثله متراخ عنه " ، وإنما كان هذا أجود ، لما ذكرنا من أنه يتناول ما ثبت بالخطاب ، أو ما قام مقامه من إشارة أو إقرار فيهما ، أي : في المنسوخ والناسخ ، فإن كل واحد منهما ثبت تارة بالخطاب ، وتارة بما قام مقام الخطاب ، ورفع ذلك ، والرفع به يسمى نسخا ، ولو اقتصرنا على قولنا : رفع الحكم بالخطاب ، كما سبق في التعريف الأول ، لخرج منه ما ثبت بغير الخطاب ، كالإشارة ، والفعل ، والإقرار ، أعني : التقرير الذي هو أحد أقسام السنة ، كما سبق فيها ; فلا يكون الحد جامعا .

قوله : " بطريق شرعي بمثله " ، أي : بطريق شرعي مثله ، والقول في تعلق الجار والمجرور ههنا ، كالقول فيه في التعريف السابق ، وهو أن " بطريق شرعي " يتعلق بالثابت ، وبمثله يتعلق " برفع " .

فالتقدير : أن النسخ : هو أن يرفع بطريق شرعي ، حكم ثبت بطريق شرعي .

واختار لفظ الطريق الإمام فخر الدين في " المحصول " ; لأنه أعم من الخطاب كما بينا .

وأما اشتراط التراخي في النسخ ; ففائدته الاحتراز من تهافت الكلام وتناقضه في قوله القائل : افعل ، لا تفعل . وصل ، لا تصل . وقال الآمدي : المختار في النسخ [ ص: 260 ] أنه خطاب الشارع ، المانع من استمرار ما ثبت من حكم خطاب شرعي سابق .

قلت : ويرد عليه ما سبق ، من عدم الجمع باستعمال خصوص لفظ الخطاب ، دون عموم لفظ الطريق .

التالي السابق


الخدمات العلمية