صفحة جزء
[ ص: 261 ] وأورد على تعريفه بالرفع : أن الحكم ; إما ثابت ; فلا يرتفع ، أو غير ثابت ; فلا يحتاج إلى الرفع ، ولأن خطاب الله تعالى قديم ; فلا يرتفع . ولأنه إن كان حسنا ; فرفعه قبيح ، ويوجب انقلاب الحسن قبيحا ، وإلا فابتداء شرعه أقبح . ولأنه يفضي إلى أن يكون المنسوخ مرادا غير مراد ; فيتناقض . ولأنه يوهم البداء ، وهو على الله تعالى محال .

وأجيب عن الأول : بأنه ثابت ، وارتفاعه بالناسخ مع إرادة الشارع ، أو بانتهاء مدته ، غير ممتنع قطعا . وعن الثاني : بأنه ساقط عنا ، على ما ذكرناه في تعريف الحكم . وعلى القول بتعريفه بالخطاب القديم : إن المرتفع التعلق . أو : إن ما كان الإتيان به لازما للمكلف ، زال . وعن الثالث : أنه من فروع التحسين والتقبيح العقليين ، وهو ممنوع ، بل حسنه شرعي ; فيجوز وجوده في وقت دون وقت ; فإذن انقلابه قبيحا ملتزم . والتناقض مندفع بأن الإرادة تعلقت بوجوده قبل النسخ ، وبعدمه بعده . والبداء غير لازم ، للقطع بكمال علم الله تعالى ، بل علم المصلحة فيه تارة ; فأثبته ، والمفسدة تارة ; فنفاه ، رعاية للأصلح ، تفضلا منه لا وجوبا ، أو امتحانا للمكلفين بامتثال الأوامر والنواهي .


قوله : " وأورد على تعريفه بالرفع " ، إلى آخره . معناه أن تعريف النسخ بأنه رفع الحكم ، يرد عليه إشكالات :

أحدها : أن الحكم قبل النسخ إما ثابت ، أو غير ثابت ، فإن كان ثابتا ، لم يمكن رفعه بالناسخ ; لأنه ليس ارتفاع الحكم الثابت بالحكم الطارئ ، بأولى من اندفاع الطارئ بالثابت ، بل هذا أولى ، لاستقرار الثابت وتمكنه ; فيكون الناسخ الطارئ دخيلا عليه ، بمثابة الغريب إذا دخل غير وطنه ; فهو أضعف من صاحب الوطن ، وإن كان غير ثابت ، لم يحتج إلى الرفع ، بل هو مرتفع بنفسه .

الثاني : أن خطاب الله سبحانه وتعالى قديم ، والقديم لا يصح رفعه ; لأن الرفع [ ص: 262 ] نقل ، وإزالة ، وتغيير كما سبق ، وكل ذلك محال على القديم .

الثالث : أن الحكم المنسوخ ; إما أن يكون حسنا أو قبيحا ، فإن كان حسنا ، امتنع رفعه ، لوجهين :

أحدهما : أن رفع الحسن قبيح .

الثاني : أن رفعه يوجب انقلاب الحسن قبيحا ، إذ لولا قبحه لما رفع .

والتقدير : أنه قبل رفعه حسن ; فلزم من ذلك انقلاب الحسن قبل النسخ قبيحا بعده ، لكن هذا قلب للحقائق ، وهو محال ، وإن كان قبيحا ; فابتداء شرعه أقبح من رفع الحسن ; لأن رفع الحسن هو تفويت خير ، وشرع القبيح إيقاع شر ، وهو أقبح ; لأن إيقاع الشر مضر ، وتفويت الخير قد لا يضر .

الرابع : أن رفع الحكم يفضي إلى أن يكون الحكم مرادا لله عز وجل ، غير مراد له ، وذلك تناقض .

وبيان ذلك : أنه من حيث أثبته ، قد أمر به وأراده ، ومن حيث رفعه ، قد نهى عنه ولم يرده ; فلزم أن يكون مرادا ، غير مراد .

الخامس : أن النسخ يدل على البداء ، وهو أن الشارع بدا له ما كان خفي عنه ، حتى نهى عما أمر به ، أو أمر بما نهى عنه ، لكن البداء على الشارع محال .

قوله : " وأجيب عن الأول " ، إلى آخره ، هذه أجوبة الإشكالات المذكورة .

فالجواب عن الأول - وهو قولهم : الحكم إما ثابت ; فلا يرتفع ، أو غير ثابت ، [ ص: 263 ] فلا يحتاج إلى الرفع - هو أن يقال : الحكم ثابت ، لكن ارتفاعه غير ممتنع قطعا ; إما بانتهاء مدته ، كما اختاره الإمام وأصحابه ، أو بالناسخ مع إرادة الشارع ، وإنما قلنا : إنه غير ممتنع قطعا ; لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته ، ولا لغيره .

قولهم : ليس ارتفاع الثابت بالطارئ أولى من اندفاع الطارئ بالثابت .

قلنا : بل هذا أولى لقوة الوارد ، ولهذا يتأثر الماء بورود النجاسة عليه ، دون وروده عليها .

والجواب " عن الثاني " - وهو قولهم : خطاب الله تعالى قديم فلا يرتفع - : هو أنه ساقط عنا ، على ما ذكرناه في تعريف الحكم ، بأنه مقتضى الخطاب ، لا نفس الخطاب ; فالمرتفع بالنسخ مقتضى الخطاب القديم ، لا نفس الخطاب القديم .

قوله : " وعلى القول بتعريفه بالخطاب القديم " . إلى آخره ، أي : وإن عرفنا الحكم بالخطاب القديم ; فالجواب عما ذكرتموه من وجهين :

أحدهما : أن المرتفع بالنسخ تعلق الخطاب بالمكلف ، لا نفس الخطاب ، كما يزول تعلق الخطاب به ، لطريان العجز والجنون ، ثم يعود التعلق بعود القدرة والعقل ، والخطاب في نفسه لا يتغير .

الوجه الثاني : أن نقول : معنى ارتفاع الحكم : هو أن ما كان الإتيان به لازما للمكلف زال ، وذلك ليس بمحال ، ولا مستلزم لارتفاع الخطاب القديم ، وهذا الوجه والذي قبله متقاربان ، أو سيان .

والجواب " عن الثالث " - وهو قولهم : إن كان الحكم حسنا ; فرفعه قبيح ، وإلا ; فابتداء شرعه أقبح - : هو " أنه من فروع التحسين والتقبيح العقليين ، وهو ممنوع " [ ص: 264 ] كما سبق تقريره ، " بل حسنه " ، أي : حسن الحكم ، " شرعي " ، أي : ثابت بالشرع كما سبق تقريره أيضا ، " فيجوز وجوده في وقت دون وقت " باعتبار ورود أمر الشرع به ، ونهيه عنه ، " فإذن انقلابه قبيحا ملتزم " ، أي : فإن كان حسن الحكم شرعيا كما ذكرنا ; فنحن نلتزم جواز انقلابه قبيحا ، إذ معناه - على قولنا - أن الشرع أمر بهذا الحكم ، ثم نهى عنه ، ولا معنى لحسنه وقبحه عندنا إلا هذا ، ولا مجال فيه ; فمعنى انقلاب الحسن قبيحا : هو صيرورة المأمور به منهيا عنه لمصلحة .

والجواب عن الرابع - وهو قولهم : يفضي إلى أن يكون المنسوخ مرادا ، غير مراد ; فيتناقض ، بأن التناقض مندفع ، وذلك لأن الإرادة تعلقت بوجوده قبل النسخ ، وبعدمه بعده ، والتناقض إنما يكون مع اتحاد وقت التعلق . أما إرادة وجود الشيء وعدمه في وقتين ; فلا تناقض فيه .

والجواب عن الخامس - وهو لزوم البداء - فإنه غير لازم للقطع ، أي : لأنا نقطع بكمال علم الله تعالى ، والبداء ينافي كمال العلم ; لأنه يستلزم الجهل المحض ; لأنه ظهور الشيء بعد أن كان خفيا .

وهو مصدر بدا يبدو بداء . قال الجوهري : بدا له في هذا الأمر بداء ممدود ، أي : نشأ له فيه رأي ، وإذا ثبت استحالة البداء على الله سبحانه وتعالى ; فتوجيه النسخ : هو أن الله سبحانه وتعالى علم المصلحة في الحكم تارة ; فأثبته بالشرع ، وعلم المفسدة فيه تارة ; فنفاه بالنسخ ، ولذلك فائدتان :

[ ص: 265 ] إحداهما : رعاية الأصلح للمكلفين ، تفضلا من الله عز وجل لا وجوبا .

الفائدة الثانية : امتحان المكلفين بامتثالهم الأوامر والنواهي ، خصوصا في أمرهم بما كانوا منهيين عنه ، ونهيهم عما كانوا مأمورين به ، فإن الانقياد له أدل على الإيمان والطاعة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية