صفحة جزء
[ ص: 291 ] الرابعة : الزيادة على النص ، إن لم تتعلق بحكمه أصلا ; فليست نسخا إجماعا ، كزيادة إيجاب الصوم بعد الصلاة ، وإن تعلقت ; فهي إما جزء له ، كزيادة ركعة في الصبح ، أو عشرين سوطا في حد القذف . أو شرط ، كالنية للطهارة ، أو لا واحد منهما ، كزيادة التغريب على الجلد . وليس شيء من ذلك نسخا عندنا ، خلافا للحنفية .

لنا : النسخ رفع الحكم الثابت بالخطاب ، وهو باق ، زيد عليه شيء آخر .

قالوا : الزيادة إما في الحكم ، أو سببه ، وأيا كان ، يلزم النسخ ; لأنهما كانا قبل الزيادة مستقلين بالحكمية والسببية ، واستقلالهما حكم قد زال بالزيادة ، كالجلد مثلا ، كان مستقلا بعقوبة الزاني ، أي : هو الحد التام ، وبعد زيادة التغريب ، صار جزء الحد .

قلنا : المقصود من الزيادة تعبد المكلف بالإتيان بها ، لا رفع استقلال ما كان قبلها ، لكنه حصل ضرورة وتبعا ، بالاقتضاء ، وحينئذ نقول : المنسوخ مقصود بالرفع ، والاستقلال غير مقصود به ; فلا يكون منسوخا ; فلا يكون رفعه نسخا . لا يقال : رفع الاستقلال من لوازم الزيادة ; فيلزم من قصدها قصده ; لأنا نقول : لا نسلم ، إذ قد يتصور الملزوم ممن هو غافل عن اللازم ، والله أعلم .


المسألة " الرابعة : الزيادة على النص " ; إما أن لا تتعلق بحكم النص أصلا ، أو تتعلق به ، فإن لم تتعلق به ; فليست نسخا له إجماعا ، وذلك كزيادة إيجاب الصوم ، بعد الصلاة ; فإنه ليس نسخا لإيجاب الصلاة بالإجماع ، وإن تعلقت الزيادة بحكم النص المزيد عليه ; فتلك الزيادة إما جزء له ، أو شرط ، أو لا جزء ولا شرط .

[ ص: 292 ] مثال كونها جزءا له : زيادة ركعة في الصبح ، أو عشرين سوطا في حد القذف ; فتصير الصبح ثلاث ركعات ، والركعة الثالثة جزء منها ، وحد القذف مئة سوط ، والعشرون الزائدة جزء منها .

ومثال كونها شرطا : نية الطهارة ، هي شرط لها ، وقد زيدت بالحديث ، والاستدلال على باقي آية الوضوء من أفعاله ، بناء على أن النية ليست مستفادة من الآية ، على خلاف فيه .

ومثال كون الزيادة لا جزءا ولا شرطا : التغريب على الجلد في زنى البكر ، إذ الجلد لا يتوقف على التغريب توقف الكل على جزئه ، ولا توقف المشروط على شرطه ، وليس شيء من ذلك نسخا عندنا ، خلافا للحنفية .

حكى الآمدي عن القاضي عبد الجبار ، والغزالي ، في المثالين الأولين ، أنهما وافقا الحنفية في أنه نسخ .

قوله : " لنا : النسخ : رفع الحكم " ، إلى آخره . هذا دليل عدم كون الزيادة على النص نسخا .

وتقريره : أن النسخ رفع الحكم الثابت بالخطاب ، والحكم هاهنا باق ، لم يرتفع ، وإنما زيد عليه شيء آخر ، والزيادة عليه لا تقتضي رفعه ; فثبت أن الزيادة ليست نسخا .

قوله : " قالوا " ، هذا دليل الخصم على أن الزيادة نسخ .

وتقريره : أن الزيادة : إما أن تكون في الحكم أو سببه ، وكل واحد منهما يلزم منه النسخ .

أما أن الزيادة إما في الحكم ، أو في سببه ; فمعناه : ما سبق من أن الزيادة ; إما جزء للحكم ، كركعة في الصلاة ; فهو زيادة في الحكم ، أو غير جزء له ; فهو زيادة في سبب الحكم ; لأن سبب الحكم ما يتوصل به إليه ، شرطا كالنية في الطهارة ، [ ص: 293 ] أو غير شرط .

وأما أن كل واحد من الزيادة في الحكم ، أو سببه ، يلزم منه النسخ ; فلأن الحكم أو سببه قبل الزيادة فيهما كانا مستقلين بالحكمية والسببية ، أي : بكون الحكم حكما تاما ، والسبب سببا تاما ، واستقلالهما بكونهما تمام الحكم والسبب ، حكم قد ارتفع بالزيادة ، وذلك كالجلد مثلا ، كان مستقلا بعقوبة الزاني ، بمعنى أنه هو حده التام ، وبعد زيادة التغريب لم يبق مستقلا بتمام الحد ، بل صار جزء الحد ، والتغريب جزؤه الآخر ، وكذلك الركعتان في الصبح ، كانتا مستقلتين بأداء الواجب ، وبعد تقرير زيادة الثالثة زال ذلك الاستقلال ، وصارت الركعتان جزء الواجب ، لا كله ، وإذا كان حكم الاستقلال يرتفع بالزيادة ; فقد حصلت حقيقة النسخ ، وهي رفع الحكم بالزيادة ; فيكون نسخا .

قوله : " قلنا : المقصود من الزيادة " ، إلى آخره . هذا جواب دليلهم المذكور .

وتقريره : أن المقصود من الزيادة على النص ، إنما هو تعبد المكلف بالإتيان بها ، لا رفع استقلال ما كان قبلها بالحكم ، لكن رفع الاستقلال حصل ضرورة ، وتبعا لورود الزيادة ، بالاقتضاء الضروري العقلي ، لا أنه كان مقصودا بها ; فالمقصود بزيادة ركعة في الصبح : هو التعبد بفعلها ، لا رفع استقلال الركعتين بأداء الواجب ، والمقصود بزيادة التغريب وعشرين سوطا في الحد : الإتيان بهما ، لا رفع استقلال المئة في الزنى ، والثمانين في القذف ، بكمال العقوبة ، وإنما حصل ذلك ضرورة أن ما توقف على ثلاث ، لا يحصل باثنتين ، وما توقف على مئة ، لا يحصل بثمانين ، كما أن ما علق على شرطين ، لا يوجد بأحدهما ; فرفع الاستقلال المذكور ، هو بالاقتضاء العقلي الضروري ، لا بالقصد الشرعي ، والمنسوخ يجب أن يكون رفعه [ ص: 294 ] مقصودا : لأن النسخ فعل من الشارع ، والفاعل يجب أن يكون عالما بما فعل ، قاصدا له .

وحينئذ نقول : المنسوخ مقصود بالرفع ، والاستقلال غير مقصود بالرفع ، ولا يكون منسوخا ; فلا يكون رفعه نسخا .

قوله : " لا يقال " ، إلى آخره ، هذا تقدير يقع من الخصم لهذا الجواب .

وتقريره : أن رفع استقلال المزيد عليه بالحكمية ، من لوازم الزيادة عليه ; فيلزم من قصدها قصده ، أي : يلزم من قصد الزيادة على النص قصد رفع استقلال حكمه ، بكونه حكما تاما .

أما أن رفع الاستقلال من لوازم الزيادة ; فلأن لازم الشيء ما لا ينفك عن ذلك الشيء . وقد بينا أن ارتفاع استقلال المزيد عليه بالحكم ، لا ينفك عن الزيادة عليه ; فيكون لازما لها .

ومثاله : أن ارتفاع استقلال الركعتين بأداء الواجب ، لا ينفك عن زيادة الركعة الثالثة .

وأما أنه يلزم من قصد الزيادة قصد رفع الاستقلال ; فلأنا قد بينا أنه من لوازمها ، وقصد الملزوم يستلزم قصد اللازم ; لأن الذهن ينتقل عن الملزوم إلى اللازم ، انتقالا عقليا ضروريا ; فيلزم من قصد الملزوم المنتقل عنه قصد اللازم المنتقل إليه .

قوله : " لأنا نقول " ، أي : الجواب عن هذا المنع : أنا لا نسلم أنه يلزم من قصد الزيادة قصد رفع الاستقلال ، وإن كان من لوازمها ; لأنه قد يتصور الملزوم من هو [ ص: 295 ] غافل عن اللازم ، وإذا جازت الغفلة عن اللازم ، استحال قصده ، إذ قصد الشيء مع الغفلة عن تصوره محال .

قلت : فحاصل الكلام في المسألة : أن المنسوخ هل يشترط أن يكون مقصودا بالرفع أم لا ، فإن اشترط أن يكون مقصودا بالرفع ، لم يكن رفع استقلال المزيد عليه بالحكم نسخا ; لأنه ليس مقصودا بالرفع ، ولا يلزمه ذلك ، بل هو حاصل بالاقتضاء الضروري .

وإن لم يشترط ذلك ، بل يكفي في المنسوخ أن يكون مرتفعا بالقصد ، أو الاقتضاء الضروري ، كان رفع الاستقلال نسخا ، والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية