صفحة جزء
[ ص: 315 ] السادسة : يجوز نسخ كل من الكتاب ومتواتر السنة وآحادها بمثله ، ونسخ السنة بالكتاب ، خلافا للشافعي .

لنا : لا يمتنع لذاته ، ولا لغيره ، وقد وقع ، إذ التوجه إلى بيت المقدس ، وتحريم المباشرة ليالي رمضان ، وجواز تأخير صلاة الخوف ، ثبتت بالسنة ، ونسخت بالقرآن .

احتج بأن السنة مبينة للكتاب ; فكيف يبطل مبينه ، ولأن الناسخ يضاد المنسوخ ، والقرآن لا يضاد السنة ، ومنع الوقوع المذكور .

وأجيب بأن بعض السنة مبين له ، وبعضها منسوخ به .


المسألة " السادسة : يجوز نسخ كل من الكتاب ، ومتواتر السنة ، وآحادها بمثله " ، أي : يجوز نسخ الكتاب بالكتاب ، ومتواتر السنة بمتواترها ، وآحادها بآحادها . وهذا اتفاق لا اختلاف فيه ; لأن ذلك متماثل ; فجاز أن يرفع بعضه بعضا .

فإن قيل : المثلان يستويان من كل وجه ، ويسد أحدهما مسد الآخر ، وحينئذ يكون ارتفاع أحدهما بالآخر ترجيحا من غير مرجح ، إذ ليس أحدهما أولى بأن يرتفع بالآخر من العكس .

فالجواب : أن هذا السؤال قد سبق على حد النسخ ، بأنه رفع الحكم ، وسبق الجواب عنه ، بأن الناسخ أولى بأن يكون رافعا بقوته ، بكونه واردا .

قوله : " ونسخ السنة " ، أي : ويجوز نسخ السنة " بالكتاب خلافا للشافعي " .

قال الآمدي : وهو جائز عقلا ، وواقع سمعا عند الأكثر ، من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء ، وممتنع في أحد قولي الشافعي .

[ ص: 316 ] قوله : " لنا : لا يمتنع لذاته " ، إلى آخره ، أي : لنا على جوازه وجهان :

أحدهما : أنه لا يمتنع لذاته ، أي : لكونه نسخ السنة بالقرآن ، ولا لغيره ; لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته ، ولا لغيره . وقد سبق تقرير هذه الملازمة قريبا ، وإذا لم يمتنع لذاته ، ولا لغيره ، كان جائزا .

الوجه الثاني : أنه قد وقع ، والوقوع يدل على الجواز ، وبيان وقوعه بصور :

إحداهن : التوجه إلى بيت المقدس ، ثبت بالسنة ، ونسخ بقوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام [ البقرة : 144 ] .

الصورة الثانية : تحريم الأكل والمباشرة بعد النوم في ليالي رمضان ، ثبت بالسنة ونسخ بقوله عز وجل : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا إلى قوله : الفجر [ البقرة : 187 ] .

الصورة الثالثة : تأخير صلاة الخوف إلى حال الأمن ، ثبت بالسنة ، ونسخ بقوله عز وجل : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة [ النساء : 102 ] ، وقوله عز وجل : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا [ البقرة : 239 ] .

وذكر الآمدي صورة أخرى ، وهي صلح النبي صلى الله عليه وسلم ، لأهل مكة يوم الحديبية ، على أن يرد إليهم من جاءه من عندهم ، ثم نسخ ذلك في النساء بقوله تعالى : فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ الممتحنة : 10 ] ; فهذه أحكام ثبتت بالسنة ، ونسخت بالكتاب ، وذلك دليل الجواز .

قوله : " احتج " ، يعني الشافعي ، " على ما ذهب إليه بوجهين " :

أحدهما : لو جاز نسخ السنة بالكتاب ، لكان الكتاب مبطلا لمبينه ، لكن ذلك باطل ; فالقول بنسخ السنة بالكتاب باطل .

أما الملازمة ; فلأن السنة مبينة للكتاب ، لقوله عز وجل : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] ، والناسخ يبطل المنسوخ ; فالكتاب لو نسخ السنة ، لأبطلها ، وهي مبينة له ; فيكون مبطلا لمبينه .

[ ص: 317 ] وأما أن إبطال القرآن لمبينه باطل ; فلأنه إذا بطل مبينه ، بقي بغير مبين ; فيرجع إلى الإجمال الموجب للتوقف فيه ، وتعطيل ألفاظه عن الاستعمال . وأيضا السنة مبينة للقرآن ; فلو بينها القرآن بنسخه لها ، لزم الدور ، إذ يصير كل منهما مبينا للآخر .

الوجه الثاني : أن الناسخ يضاد المنسوخ ، والقرآن لا يضاد السنة ، وإلا لما كانت بيانا له ; فالقرآن لا يكون ناسخا للسنة .

قوله : " ومنع الوقوع المذكور " ، أي : الشافعي منع وقوع نسخ السنة بالكتاب في الصور المذكورة ، وبيان المنع من وجهين :

أحدهما أن الأحكام المذكورة ، يجوز أنها ثبتت بقرآن نسخ رسمه ، وبقي حكمه ، كما سبق في آية الرجم ، ثم نسخت تلك الأحكام بالقرآن ; فما نسخ القرآن إلا قرآن مثله .

الثاني : بتقدير أن تلك الأحكام ثبتت بالسنة ، يجوز أنها نسخت بسنة وافقت القرآن في حكمه ; فما نسخت السنة إلا بسنة مثلها .

قوله : " وأجيب بأن بعض السنة مبين له ، وبعضها منسوخ به " . هذا جواب عن الوجهين للشافعي .

أما توجيهه عن الأول ، وهو قوله : كيف يبطل القرآن مبينه ؟ فمن جهة أنه ليس كل القرآن محتاجا إلى بيان ، بل فيه كثير مما هو بين بنفسه ; فحينئذ ، مبين السنة يبين مجمل القرآن ، ومبين القرآن ينسخ بعض السنة ; فلا يكون القرآن مبطلا لمبينه .

وأما توجيهه عن الثاني ; فنقول : القرآن لا يضاد السنة في الكل ، أو في البعض ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، وحينئذ ذلك البعض المضاد للقرآن من السنة منسوخ به ، وحينئذ لا دور ولا محذور .

[ ص: 318 ] وأما الجواب عن المنع ; فقوله : الأحكام المذكورة ثبتت بقرآن نسخ رسمه ، وبقي حكمه ، ثم نسخت بالقرآن .

قلنا : الأصل عدم قرآن نسخ رسمه ، ثبتت به تلك الأحكام ، واحتماله لا يكفي ، وما وجد من أفعال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وأقواله ، وتقريراته في ذلك ، كصلاته إلى بيت المقدس ، صالح لإثبات تلك الأحكام ; فوجب أن تضاف إليه .

وقوله : يجوز أن الأحكام المذكورة نسخت بسنة وافقت القرآن .

قلنا : ليس النزاع في الجواز ، بل في الوقوع ، ولم يقم دليل وجود سنة ناسخة كما ذكرتم ، والقرآن في ذلك موجود صالح للنسخ ; فوجب إضافة الحكم إليه .

نعم ذكر القرافي في منع كون التوجه إلى بيت المقدس ثبت بالسنة كلاما جيدا .

وتقريره : أن القاعدة : أن كل ما كان ثابتا بمجمل فهو مراد من ذلك المجمل ، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى بيت المقدس ، هو بيان لقوله عز وجل : أقيموا الصلاة [ البقرة : 110 ] ، كما كان قوله عليه السلام : فيما سقت السماء العشر بيانا لمجمل قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] ، وآتوا الزكاة [ البقرة : 110 ] ، وهو مراد من الآية : وإذا ثبت أن التوجه إلى بيت المقدس مراد من القرآن ; فهو ثابت بالقرآن بواسطة البيان .

قلت : وهذا يتجه أن يقال في تأخير صلاة الخوف عن وقت القتال ; لأنه من [ ص: 319 ] لوازم بيان قوله عز وجل : أقيموا الصلاة ; لأن المراد بإقامتها إكمالها وإتمامها ، وهو متعذر حال القتال ; فكان تأخيرها إلى وقت الأمن من لوازم إقامتها ، وكذلك صلحه عليه السلام للكفار ، على رد من جاءه منهم مسلما ، هو بيان لقوله عز وجل : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين [ التحريم : 9 ] ، وجهادهم مفوض إلى اجتهاد النبي ، صلى الله عليه وسلم ، على حسب ما يرى من المصلحة . وقد رأى من المصلحة صلحهم على ذلك .

قلت : ثم يتفرع لنا على هذا تحقيق ، وهو أن الحكم ، هل يضاف ثبوته إلى البيان ، أو إلى المبين ؟

فإن أضيف إلى البيان ، اتجه ما قلناه من وقوع نسخ السنة بالكتاب ; لأن تلك الأحكام المذكورة ثبتت بالسنة التي هي بيان للقرآن ، ثم نسخت بالكتاب ; فقد نسخت السنة بالكتاب .

وإن أضيف إلى المبين ; فقد اتجه ما قاله الشافعي من منع الوقوع ; لأن الأحكام المذكورة إنما ثبتت بالقرآن المجمل الذي بينته السنة ، ثم نسخت بالقرآن ; فما نسخ القرآن إلا قرآن مثله .

والتحقيق أن ثبوت الحكم يضاف إلى البيان والمبين جميعا ، ولعل هذا هو مأخذ النزاع في هذه الأحكام .

وبعد هذا كله ; فجانب القائلين بجواز نسخ السنة بالكتاب مترجح بما ذكرناه من الدليل عليه .

وأما الوقوع ; فبنسخ تحريم المباشرة ليالي رمضان بعد النوم ، إذ لا يتجه فيه أن يقال : كان ثابتا بقرآن مجمل بينته السنة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية