صفحة جزء
[ ص: 320 ] أما نسخ القرآن بمتواتر السنة ; فظاهر كلام أحمد - رحمه الله - والقاضي منعه ، وأجازه أبو الخطاب وبعض الشافعية ، وهو المختار .

لنا : لا استحالة ذاتية ، ولا خارجية ، ولأن تواتر السنة قاطع ، وهو من عند الله تعالى في الحقيقة ; فهو كالقرآن .

قالوا : نأت بخير منها أو مثلها ، والسنة لا تساوي القرآن ، وقد قال عليه السلام : القرآن ينسخ حديثي ، وحديثي لا ينسخ القرآن ، ولأن السنة لا تنسخ لفظ القرآن ; فكذا حكمه .

وأجيب : بأن نأت بخير منها في الحكم ومصلحته ، والسنة تساوي القرآن في ذلك ، وتزيد عليه ، إذ المصلحة الثابتة بالسنة قد تكون أعظم من الثابتة بالقرآن . أو على التقديم والتأخير ; فلا دلالة في الآية أصلا . والحديث لا يخفى مثله ، لكونه أصلا ; فلو ثبت لاشتهر ، ولما خولف . ولفظ القرآن معجز ; فلا تقوم السنة مقامه ، بخلاف حكمه .


قوله : " أما نسخ القرآن بمتواتر السنة ; فظاهر كلام أحمد والقاضي منعه ، وأجازه أبو الخطاب ، وبعض الشافعية ، وهو المختار " .

وقال الشيخ أبو محمد في " الروضة " : قال أحمد : لا ينسخ القرآن إلا قرآن مثله يجيء بعده . قال القاضي : ظاهره أنه منع منه عقلا وشرعا .

قلت : احتجاج القاضي بعموم نفي أحمد ، وهو إنما يدل على المنع منه شرعا ، لا عقلا .

قلت : حكى الآمدي المنع في المسألة عن الشافعي وأكثر أصحابه ، وأكثر الظاهرية ، وعن أحمد في أحد قوليه . وحكي الجواز عن مالك ، والحنفية ، وابن سريج ، وأكثر الأشاعرة والمعتزلة .

[ ص: 321 ] قال القرافي : هو جائز عند أكثر أصحابنا .

قوله : " لنا : لا استحالة " ، إلى آخره . هذا دليل الجواز ، وهو من وجهين :

أحدهما : أنه لو استحال ، لاستحال لذاته ، أو لأمر خارج عن ذاته ، لكنه لا يستحيل لذاته ، ولا لأمر خارج ; فلا يكون مستحيلا مطلقا ; فيكون جائزا مطلقا . وتقرير هذا الدليل : كتقرير قولنا في المسألة قبلها : " لنا : لا يمتنع لذاته ولا لغيره " ، وقد سبق .

الوجه الثاني : أن متواتر السنة قاطع ، أي : يحصل القطع بثبوته ، لما مر من أن المتواتر يفيد العلم الضروري ، وهو - يعني متواتر السنة - من عند الله تعالى في الحقيقة ، لقوله عز وجل : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ النجم : 3 - 4 ] . وقال عليه السلام : أوتيت القرآن ومثله معه ، وقال : إن جبريل عليه السلام يأتيني بالسنة كما يأتيني بالقرآن ، وإذا كان متواتر السنة قاطعا ، وهو من عند الله تعالى ، صار كالقرآن في نسخ القرآن به .

قوله : " قالوا : نأت بخير منها " إلى آخره هذه حجة المانعين وهي من وجوه :

أحدها : قوله تعالى : " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ ص: 322 ] [ البقرة : 106 ] ; فحصر الله تعالى الناسخ في كونه خيرا من المنسوخ ، أو مثله ، والسنة لا تساوي القرآن ; فضلا عن أن تكون خيرا منه ; فلا تكون ناسخة له .

الوجه الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : القرآن ينسخ حديثي ، وحديثي لا ينسخ القرآن . قال الشيخ أبو محمد : رواه الدارقطني من حديث جابر ، وهو نص في المسألة .

الوجه الثالث : أن السنة لا تنسخ لفظ القرآن ; فكذلك لا تنسخ حكمه ، لاشتراك لفظ القرآن وحكمه في القوة والتعظيم ، وصيانته عن أن يرفع بما هو دونه . والجواب عن الأول : أن المراد بالآية : نأت بخير منها في الحكم ومصلحته ، والسنة تساوي القرآن في ذلك ، إذ المصلحة الثابتة بالسنة قد تكون أضعاف المصلحة الثابتة بالقرآن ; إما في عظم الأجر ، بناء على نسخ الأخف بالأثقل ، أو في تخفيف التكليف ، بناء على نسخ الأثقل بالأخف .

قوله : " أو على التقديم والتأخير " . هذا جواب آخر عن الآية ، وهو أن فيها تقديما وتأخيرا ، تقديره : ما ننسخ من آية نأت منها بخير ; فلا يكون فيها دلالة على محل النزاع أصلا ، إذ لا دلالة فيها على إثبات الناسخ أصلا ، كما سبق في النسخ إلى غير بدل .

وأما الحديث ; فلا تقوم الحجة بمثله ههنا ; لأنه أصل كبير ، ومثله لا يخفى في العادة ، لتوفر الدواعي على نقل ما كان كذلك عادة . فلو ثبت ، لاشتهر ، ثم لم يخالفه أحد من العلماء لشهرته ودلالته .

[ ص: 323 ] سلمنا صحته ، لكنه ليس نصا في محل النزاع ، بل هو ظاهر ; لأن لفظه عام ، ودلالة العام ظاهرة ، لا قاطعة ; فيحمل على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ، يبقى المتواتر لا دليل على المنع فيه من ذلك .

وأما قولهم : السنة لا تنسخ لفظ القرآن ; فكذا حكمه .

فجوابه بالفرق ، وهو أن لفظ القرآن معجز ، والسنة لا تقوم مقامه في الإعجاز ، بخلاف حكمه ، فإن المراد منه تكليف الخلق به ، والسنة تقوم مقامه في ذلك ، والله تعالى أعلم .

قلت : تلخيص مأخذ النزاع في المسألة أن بين القرآن ومتواتر السنة جامعا وفارقا .

فالجامع بينهما : ما ذكرناه من إفادة العلم ، وكونهما من عند الله تعالى .

والفارق : إعجاز لفظ القرآن ، والتعبد بتلاوته ، بخلاف السنة ; فمن لاحظ الجامع ، أجاز النسخ ، ومن لاحظ الفارق ، منعه .

فرع : كما اختلفوا في جواز نسخ القرآن بمتواتر السنة ، كذلك اختلفوا في وقوعه شرعا ، على نحو اختلافهم في جوازه ; فممن أثبته بعض المالكية ، ومنعه الشافعي .

احتج المثبتون : بأن الوصية للوالدين والأقربين ثبتت بالقرآن ، ونسخت بقوله عليه السلام : لا وصية لوارث . وإمساك الزواني في البيوت ، ثبت بالقرآن ، ونسخ بقوله عليه السلام : قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام ، والثيب بالثيب الرجم .

[ ص: 324 ] واحتج المانعون : بأن القول بالوقوع يستدعي دليلا ، والأصل عدمه ، وما ذكرتموه من الصورتين المذكورتين لا حجة فيهما على الوقوع ، بل النص النبوي فيهما بيان لا نسخ . فآية الوصية نسخت بآية الميراث ، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم ، نسخها ببيانه ، والإيضاح عنه ، ولهذا يقول : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث . فكان هذا بيانا وإخبارا عن زوال وجوب الوصية للوارث ، لا نسخا .

وأما الآية الأخرى ; فالسبيل مذكور فيها ، والأمر فيها مغيي إلى حين جعل السبيل ، فلما جاء وقته ، بينه النبي صلى الله عليه وسلم . ولهذا قال : خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا . فأضاف جعل السبيل إلى الله تعالى ، لا إلى نفسه ، ولو سلمنا أن إمساكهن في البيوت منسوخ ، لكان إضافة نسخه إلى قوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور : 2 ] ، وإلى آية الرجم التي نسخ لفظها دون حكمها أولى ، ثم لا نسلم أن الخبرين المذكورين تواترا ; فمثال الخصم غير صحيح ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية