صفحة جزء
[ ص: 346 ] [ ص: 347 ] الأوامر والنواهي

الأوامر والنواهي : الأمر : قيل : هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به ، وهو دور ، وقيل : استدعاء الفعل بالقول على جهة الاستعلاء .

وقد يستدعى الفعل بغير قول فلو أسقط ، أو قيل : بالقول ، أو ما قام مقامه ، لاستقام ، ولم تشترط المعتزلة الاستعلاء ، لقول فرعون لمن دونه : ماذا تأمرون ، وهو محمول على الاستشارة للاتفاق على تحميق العبد الآمر سيده .

وللأمر صيغة تدل بمجردها عليه .

وقيل : لا صيغة للأمر بناء على الكلام النفسي وقد سبق منعه .

وهي حقيقة في الطلب الجازم ، مجاز في غيره مما وردت به كالندب ، والإباحة ، والتعجيز ، والتسخير ، والتسوية ، والإهانة ، والإكرام ، والتهديد ، والدعاء ، والخبر ، نحو : كاتبوهم ، اصطادوا ، كونوا حجارة ، كونوا قردة ، فاصبروا أو لا تصبروا ، ذق إنك ، ادخلوها بسلام ، اعملوا ما شئتم ، اللهم اغفر لي ، إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، والتمني :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

.


[ ص: 348 ] قوله : " الأوامر والنواهي " .

أي : هذا بيان القول فيها : و " الأوامر " : جمع أمر . وقد سبق في بيان علامات الحقيقة ; أنه حقيقة في القول . وإنما قدم القول في الأوامر ; لأنها طلب إيجاد الفعل ، والنواهي طلب الاستمرار على عدم الفعل ; فقدمت الأوامر تقديم الموجود على المعدوم ، وهو التقديم بحسب الشرف ، ولو لحظ التقديم الزماني ، لقدمت النواهي تقديم العدم على الموجود ; لأن العدم أقدم .

قوله : " الأمر : قيل : القول المقتضي طاعة المأمور ، بفعل المأمور به " ; فقوله : " القول " : جنس يتناول الأمر ، والنهي ، وغيرهما ، من أقسام الكلام .

وقوله : " المقتضي طاعة المأمور " : فصل ، خرج به ما ليس كذلك ، كالخبر ، والتمني ، والترجي ، وغيرهما ، لكن بقي النهي داخلا في حد الأمر ; لأنه قول يقتضي طاعة المأمور ; فأخرج النهي بقوله : بفعل المأمور به ; لأن النهي ، وإن كان قولا يقتضي طاعة المأمور ، لكن لا بفعل المأمور به ، بل بالكف عن المنهي عنه ; فمتعلق الطاعة في الأمر الفعل ، وفي النهي الكف .

قوله : " وهو دور " ، أي : هذا التعريف ، دوري يلزم منه الدور ; لأنه تعريف [ ص: 349 ] للأمر بالمأمور ، والمأمور به ; المتوقف معرفتهما على الأمر ; فصار تعريفا للأمر بنفسه ، بواسطة المأمور والمأمور به . وهذا كما سبق في تعريف العلم بمعرفة المعلوم .

قوله : " وقيل : استدعاء الفعل بالقول على جهة الاستعلاء " ، أي : وقيل : الأمر هو استدعاء الفعل ، إلى آخره . هذا تعريف آخر للأمر ; فاستدعاء الفعل : طلبه ، وهو جنس ; لأنه يتناول الأمر ، والشفاعة ، والالتماس ; لأن طلب الفعل إما أن يكون من الأدنى ، وهو سؤال ، أو من المساوي ، وهو شفاعة والتماس ، أو من الأعلى ، وهو الأمر . ويدخل فيه ، أي : في الاستدعاء النهي أيضا ; لأنه استدعاء الترك ; فبقوله : " استدعاء الفعل " خرج النهي .

وقوله : " على جهة الاستعلاء " ، أي : يكون الأمر متكيفا بكيفية الاستعلاء والترفع على المأمور ، كالسيد مع عبده ، والسلطان مع رعيته ، وسيأتي الكلام فيه قريبا إن شاء الله تعالى .

قوله : " وقد يستدعى الفعل بغير قول " ، إلى آخره . هذا بيان لعدم الفائدة في قولهم في هذا التعريف : " استدعاء الفعل بالقول " لأن الفعل قد يستدعى بغير قول ، كالإشارة والرمز ; فيخرج الأمر بذلك عن حد الأمر المذكور ; فلا يكون جامعا ; فلو أسقط لفظ القول منه ، بأن قيل : الأمر استدعاء الفعل على جهة الاستعلاء ، لاستقام الحد ; لأن استدعاء الفعل [ ص: 350 ] أعم من أن يكون بقول أو غيره . وكذلك لو قيل : الأمر : استدعاء الفعل بالقول ، أو ما قام مقامه على جهة الاستعلاء ، لاستقام أيضا لأن ما قام مقام القول ، يتناول الإشارة والرمز ، ونحوهما مما يكون به الأمر .

قلت : وقد يعتذر عن هذا ; بأن التعريف هاهنا للأمر الحقيقي ، وهو إنما يكون بالقول ، بناء على ما سبق من أنه حقيقة في القول . فأما الاستدعاء الحاصل بغير القول الصريح ; فهو أمر مجازي لا حقيقي ; لأن الطلب من لوازم الأمر الحقيقي ، والصيغة من لوازم الطلب ، بناء على أن الكلام حقيقة في العبادات اللسانية ، لا في المعاني النفسانية .

قوله : " ولم تشترط المعتزلة الاستعلاء " إلى آخره ، أي أن الاستعلاء شرط في كون استدعاء الفعل أمرا ، كما سبق ، وعند المعتزلة ليس بشرط ، واحتجوا بقوله تعالى حكاية عن فرعون : قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون [ الشعراء : 34 ، 35 ] ; فجعل القول الصادر منهم إليه أمرا ، مع كونه هو أعلى منهم ; فضلا عن أن يكونوا هم أعلى منه ، ولم يكونوا ليخاطبوه على جهة الاستعلاء ; لأنهم كانوا يعتقدونه إلها وربا ، ولو كان الاستعلاء شرطا في الأمر ، لما صح قوله لهم : فماذا تأمرون .

[ ص: 351 ] قوله : " وهو محمول على الاستشارة " ، إلى آخره ، أي : الأمر في قوله : ( ماذا تأمرون ) محمول على معنى : ماذا تشيرون به علي أن أفعل . ودليل هذا التأويل من وجهين :

أحدهما : المذكور في " المختصر " ، وهو الاتفاق على تحميق العبد الآمر سيده ، أي : أن العقلاء اتفقوا على أن العبد إذا أمر سيده بأن قال : أمرتك أن تفعل ، أو أخرج لفظة لسيده مخرج الاستعلاء ، عد أحمق ، ناقص العقل ، سيئ الأدب ، مذموما . ولولا اشتراط الاستعلاء في الأمر ، لاستوى فيه السيد لعبده ، والعبد لسيده ، ولم يتجه عليه التحميق فيما إذا أمره ; لأنه حينئذ يكون طالبا للفعل منه طلبا مجردا ، كالسائل الملتمس .

فإن قيل : ليس تحميق العبد الآمر سيده من جهة استعلائه عليه ، بل من جهة أن الأمر يقتضي الجزم ، أو يشعر به ; فيكون بذلك كالمتحكم على سيده .

قلنا : لا نسلم أن الأمر يقتضي الجزم ، وإن سلمناه ; فليس كذلك عند جميع الناس ، بل هو عند بعضهم يقتضي الإباحة ، وعند بعضهم الندب ; فقد اختلفوا في اقتضاء الأمر الجزم ، واتفقوا على تحميق العبد المذكور ; فدل ذلك على أن تحميقه ليس لتحكمه بالجزم ، بل لادعائه منصب الاستعلاء على سيده .

[ ص: 352 ] الوجه الثاني : أن عادة الملوك إذا ورد عليهم أمر مهم ، إنما يستشيرون من حضرهم من وزرائهم وندمائهم ، لا أنهم يصيرون لهم رعية يأتمرون بأوامرهم ; فهذا يدل على أن قول فرعون لمن حوله : ماذا تأمرون ؟ ، استشارة لا ائتمار ، على أن الاستدلال هاهنا إنما هو بقول فرعون ، ولم يدل النص على صحة تصرفه ، وهو ليس حجة في نفسه ; فجاز أنه أخطأ في هذا الاستعمال ، أو ورد عليه وارد عظيم من أمر موسى ، صلى الله على نبينا وعليه وسلم ، حتى أخل بشرط الأمر ، وقلب حقيقته ، خصوصا وفي القصة : أن موسى عليه السلام لما دخل عليه ، عاتبه فرعون بما قص الله تعالى في القرآن ، في سورة الشعراء ، ثم قال لأعوانه : خذوه ; فبادرهم موسى بإلقاء عصاه ; فصارت ثعبانا عظيما ; فانهزموا منه مزدحمين ، حتى هلك منهم بالزحام خمسة وعشرون ألفا ، وكان فرعون لا يدخل الخلاء في كل أربعين يوما إلا مرة ; فتردد إلى الخلاء في ذلك اليوم أربعين مرة ; فلعله لما رأى هذا الهول ، اختلط عقله ; فقلب حقيقة الأمر ، وأخل بشرطه وهو الاستعلاء .

ويكون هذا ، كما حكي عن بعض الجبناء ، أن العدو أرهقه ; فقام ليلجم فرسه في رأسه ; فألجمه في ذنبه ، ثم لما ركب ، وراح منهزما ، أدركه العطش ; فمر بقوم ; فقال : أطعموني ماء ; فقال فيه الشاعر يهجوه :

[ ص: 353 ]

وألجم الطرف بعد الرأس في ذنب واستطعم الماء لما جد في الهرب

ومن الدليل على اشتراط الاستعلاء في الأمر ; أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لما قال لبريرة : صالحي مغيثا - يعني زوجها لما أرادت فراقه - قالت : أتأمرني يا رسول الله ؟ قال : لا ، لكني أشفع ، فلو لم يكن الاستعلاء شرطا في الأمر ، لما افترق الأمر والشفاعة .

قوله : " وللأمر صيغة تدل بمجردها عليه " ، إلى آخره ، أي : الأمر له صيغة ، أي : لفظ يدل بمجرده عليه ، أي : بدون القرينة .

والمراد : أن للأمر صيغة موضوعة له ، تدل عليه حقيقة ، كدلالة سائر [ ص: 354 ] الألفاظ الحقيقية على موضوعاتها ، وهذا قول الجمهور .

" وقيل : لا صيغة للأمر ، بناء على الكلام النفسي " ، أي : القائل : إن الأمر لا صيغة له ، بنى ذلك على إثبات كلام النفس ; فإنه معنى لا صيغة ، " وقد سبق منعه " ، أي : منع الكلام النفسي عند ذكر اللغات .

قال الآمدي : هل للأمر النفساني صيغة تدل عليه ؟ نقل عن الأشعري نفيها ، وعن الغير إثباتها ، قال : والحق الإثبات .

قلت : قول الأشعري : ليس للأمر النفسي صيغة تدل عليه ، مع قوله : إن القرآن صيغ وعبارات مخلوقة ، تدل على كلام الله عز وجل ، القائم بنفسه ، تناقض .

والأشهر عنه : أن للكلام والأمر صيغا تدل على معناه ; فلعل ما حكاه الآمدي عنه ، قول مرجوع عنه ، أو أن المراد به غير ما ظهر لي والله سبحانه وتعالى أعلم .

قوله : " وهي " ، أي : صيغة الأمر الدالة عليه " حقيقة في الطلب الجازم " إلى آخره .

معنى هذا الكلام : أن صيغة الأمر - وهي لفظ افعل - نحو : اعلم ، [ ص: 355 ] واضرب ، أطلقت في الاستعمال اللغوي لمعان :

أحدها : الطلب الجازم ، وهو الإيجاب ، نحو : أقيموا الصلاة [ البقرة : 110 ] .

وثانيها : الندب ، نحو قوله عز وجل : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم [ النور : 33 ] ، والكتابة مندوبة عند الأكثرين .

وثالثها : الإباحة ، نحو قوله عز وجل : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] ، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه [ الملك : 15 ] .

ورابعها : التعجيز ، نحو قوله عز وجل : كونوا حجارة أو حديدا [ الإسراء : 50 ] ، أي : فلن تعجزني إعادتكم .

وخامسها : التسخير ، نحو قوله تعالى : فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ البقرة : 65 ] ، أي : تسخرت مواد أجسامهم ، لانقلابها عن الإنسانية إلى القردية بالأمر الإلهي .

وسادسها : التسوية ، نحو قوله تعالى : فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم [ الطور : 16 ] ، أي : الصبر وعدمه .

وسابعها : الإهانة ، نحو قوله عز وجل : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ الدخان : 49 ] على جهة الإهانة له ، وكذلك قوله سبحانه وتعالى : ذوقوا مس سقر [ القمر : 48 ] ، وذوقوا عذاب الحريق [ الأنفال : 50 ] ، و ذوقوا ما كنتم تكسبون [ الزمر : 24 ] .

وثامنها : الإكرام ، نحو قوله عز وجل : ادخلوها بسلام آمنين [ الحجر : 46 ] .

[ ص: 356 ] وتاسعها : التهديد ، نحو قوله تعالى : اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ، ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا [ العنكبوت : 66 ] ; فهذا أمر بلام الأمر ، بدليل قوله عز وجل في موضع آخر : ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون [ النحل : 55 ] .

وعاشرها : الدعاء ، نحو : اللهم اغفر لي ، ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين [ الأعراف : 126 ] .

وحادي عشرها : الخبر ، كقوله : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، قيل : معناه : إذا لم تستح ، صنعت ما شئت ; فقوله : صنعت ، والكلام المشتمل عليها ، كل واحد منهما جملة خبرية ، يصح في جوابها : صدق أو كذب .

وثاني عشرها : التمني ، كقول الشاعر وهو امرؤ القيس :


ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح فيك بأمثل

[ ص: 357 ] والمراد بقوله : انجلي : تمنى انجلاءه عنه لطوله عليه ، بدليل قوله قبله :


وليل كموج البحر أرخى سدوله     علي بأنواع الهموم ليبتلي


فقلت له لما تمطى بصلبه     وأردف أعجازا وناء بكلكل


ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي : لطوله علي ، قلت له : أنا أتمنى انجلاءك عني .

وقد وردت هذه الصيغة لمعان أخر :

نحو الإرشاد إلى مصلحة دنيوية أو غيرها ، نحو : وأشهدوا إذا تبايعتم [ البقرة : 282 ] ، قوا أنفسكم وأهليكم نارا [ التحريم : 6 ] ، يعني بالتأديب والتعليم .

والامتنان ، نحو : كلوا من طيبات ما رزقناكم [ البقرة : 57 ] ، كلوا من رزق ربكم [ سبأ : 15 ] .

والإنذار ، نحو قوله : خذوا حذركم [ النساء : 71 ] .

وإذا ثبت استعمال هذه الصيغة في هذه المعاني ; فهي حقيقة في الطلب [ ص: 358 ] الجازم منها ، مجاز في غيره من المعاني المذكورة . هذا المذكور في " المختصر " .

وذكر الآمدي أنهم اتفقوا على أن صيغة : افعل مجاز فيما سوى الطلب ، والتهديد ، والإباحة ، واختلفوا في أنها مشتركة بين الثلاثة ، أو حقيقة في الإباحة ، مجاز فيما سواها ، أو في الطلب ، مجاز فيما سواه .

قال : وهو المختار ; لأن من قال لغيره : افعل كذا مجردا عن جميع القرائن ، تبادر إلى الفهم منه الطلب ، وذلك دليل الحقيقة .

قلت : وإذا ثبت بهذا أنها حقيقة في الطلب ، ثبت أنها للجزم ، بما سيأتي إن شاء الله تعالى .

قلت : وقولي : " كالندب ، والإباحة ، والتعجيز ، والتسخير ، والتسوية ، والإهانة ، والإكرام ، والتهديد ، والدعاء ، والخبر " ، هذا سرد للمعاني التي استعملت فيها هذه الصيغة .

وقولي : " نحو كاتبوهم ، اصطادوا ، كونوا حجارة ، كونوا قردة ، فاصبروا أو لا تصبروا ، ذق إنك ، ادخلوها بسلام ، اعملوا ما شئتم ، اللهم اغفر لي إذا لم تستح فاصنع ما شئت " هذا سرد لأمثلة تلك المعاني ، على طريق اللف والنشر .

والتمني ذكر مثاله يليه ، وإنما أفردته ; لأن مثاله ليس من الكتاب ولا السنة ، بخلاف بقية أمثلة المعاني .

التالي السابق


الخدمات العلمية