صفحة جزء
[ ص: 370 ] الثانية : صيغة الأمر الواردة بعد الحظر للإباحة ، وهو ظاهر قول الشافعي ، ولما هي له قبل الحظر عند الأكثرين .

وقيل : إن ورد بصيغة افعل فكالأول للعرف ، وإلا فكالثاني ، نحو : أنتم مأمورون بكذا ، لعدمه فيه ، والحق اقتضاؤها الإباحة عرفا لا لغة .

لنا : فهم الإباحة من قول السيد لعبده : كل هذا الطعام بعد منعه منه ، وهو في الشرع غالبا كذلك ، نحو : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) [ المائدة : 2 ] ، ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا ) [ الجمعة : 10 ] ، ( فإذا تطهرن فأتوهن ) [ البقرة : 222 ] ، ونحوها ، واستفادة وجوب قتال المشركين ، من : فقاتلوا أئمة الكفر [ التوبة : 12 ] ونحوها ، لا من فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين [ التوبة : 5 ] .

وفي اقتضاء النهي بعد الأمر التحريم أو الكراهة خلاف ، ويحتمل التفصيل المذكور أيضا ، والأشبه التحريم إذ هذا رفع للإذن بكليته ، وما قبله رفع للمنع ; فيبقى الإذن ، والله سبحانه أعلم .


المسألة " الثانية : صيغة الأمر الواردة بعد الحظر للإباحة ، وهو ظاهر قول الشافعي ، ولما هي له قبل الحظر " ، يعني من إيجاب أو إباحة " عند الأكثرين من الفقهاء والمتكلمين " ، أي : إن كانت قبل الحظر للوجوب ; فهي له بعد الحظر وإن كانت للإباحة فكذلك بعده .

" وقيل : إن ورد " ، يعني الأمر بعد الحظر ، " بصيغة افعل فكالأول " ، أي : يكون للإباحة " للعرف " ، أي : لأن العرف يقتضي ذلك ، لما سيأتي إن شاء الله عز وجل . " وإلا " ، أي : وإن لم يرد بعد الحظر بصيغة افعل " فكالثاني " ، [ ص: 371 ] أي : فهو كالثاني ، أي : يكون لما كان له قبل الحظر ، من وجوب ، أو إباحة " نحو : أنتم مأمورون بكذا " ، إذ هذا لفظه لفظ الخبر ، لا الأمر ، " لعدمه " أي : لعدم العرف فيه بخلاف الوارد بصيغة الأمر . هذا نقل " المختصر " وأصله .

وقال القرافي : إذا ورد الأمر بعد الحظر ، اقتضى الوجوب عند الباجي ، ومتقدمي أصحاب مالك ، وأصحاب الشافعي ، والإمام فخر الدين ، وهو للإباحة عند جماعة من أصحابنا ، وأصحاب الشافعي .

وحكى الآمدي الوجوب ، والإباحة ، والوقف ، واختاره .

قوله : " والحق اقتضاؤها الإباحة عرفا ، لا لغة " . هذا تفصيل اخترته ، وهو أن الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة ، من حيث العرف ، لا اللغة ، إذ هو من حيث اللغة يقتضي الوجوب ، كما سبق . وهذا جمع بين القولين .

قوله : " لنا : فهم الإباحة من قول السيد " . هذا دليل الإباحة .

وتقريره : أن السيد إذا منع عبده من طعام ، ثم قال له : كله ; فإنه يفهم منه الإباحة ; فدل على أن ذلك مقتضاه لغة ، أو عرفا ، أي ذلك كان ، حصل المقصود .

قوله : " وهو في الشرع غالبا كذلك " : هذا استدلال بالوقوع ، أي : والأمر الوارد في الشرع بعد الحظر غالبا ، أي : في غالب موارده كذلك ، أي : للإباحة ; فقد تطابق الدليل والوقوع ، وذلك نحو قوله عز وجل : وإذا حللتم فاصطادوا بعد [ ص: 372 ] قوله : غير محلي الصيد وأنتم حرم [ المائدة : 1 ] ; ففهم منه إباحة الصيد ، وقوله سبحانه وتعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض [ الجمعة : 10 ] ، اقتضى إباحة الانتشار بعد المنع منه ، وقوله عز وجل : فإذا تطهرن فأتوهن [ البقرة : 222 ] ، اقتضى إباحة الوطء بعد قوله : ولا تقربوهن حتى يطهرن ، ونحو ذلك من موارد هذه الصيغة بعد الحظر ، هو للإباحة ; فلتكن هي مقتضاه .

- قوله : " واستفادة وجوب قتال المشركين من : فقاتلوا أئمة الكفر ، ونحوها ، لا من : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين

هذا جواب سؤال مقدر ، وهو أن يقال : استفدنا من قوله عز وجل : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين [ التوبة : 5 ] ، وجوب قتلهم بعد أن كان ممنوعا منه ، بحكم العهد ; فليكن ذلك مقتضاه ، ويترجح هذا بأنه موافق للأصل في الأمر ، وهو الوجوب كما سبق .

والجواب ما ذكر ، وهو أن وجوب قتل المشركين بعد منعه ، لم نستفده من قوله عز وجل : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ، بل من قوله عز وجل : فقاتلوا أئمة الكفر [ التوبة : 12 ] ، ونحوها من الآيات ، المتضمنة للأمر بالقتال والقتل ، نحو : واقتلوهم حيث ثقفتموهم [ البقرة : 191 ] ، ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين [ التحريم : 9 ] ، ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار [ التوبة : 123 ] ، وهو كثير ، ولو تركنا وظاهر قوله عز وجل : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين من حيث العرف ، لما فهمنا إلا إباحة قتالهم ، وإنما جاء الوجوب من دليل خارج .

وحاصل الأمر : أن هذه الصيغة من حيث اللغة تقتضي الوجوب ، أما من حيث العرف ; فتقتضي الإباحة ، فإن دلت على وجوب ، كوجوب قتال [ ص: 373 ] المشركين من الآية المذكورة ، أو على ندب ، كقوله سبحانه وتعالى : فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله [ النساء : 103 ] ، فإن ذكر الله سبحانه مندوب على جميع الأحوال ; فذلك دليل آخر .

- قوله : " وفي اقتضاء النهي بعد الأمر ، التحريم أو الكراهة ، خلاف " . هذه عكس التي قبلها ; لأن تلك في ورود صيغة الأمر بعد الحظر ، وهذه في ورود النهي بعد الأمر ، كما إذا قال : صل ، ثم قال : لا تصل ، هل يقتضي التحريم عملا بمقتضى النهي ، أو الكراهة ، كما اقتضى الأمر بعد الحظر الإباحة ؟ فيه خلاف .

قوله : " ويحتمل التفصيل المذكور أيضا " ، أي : يحتمل أن يفصل هنا ، كما فصل في الأمر الوارد بعد الحظر ; فيقال هاهنا : إن النهي بعد الأمر يقتضي الكراهة عرفا ، والتحريم لغة ، كما قلنا هناك : إن الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة عرفا والوجوب لغة ; وذلك لأن الحظر هناك لما كان قرينة في حمل الأمر الوارد بعده على الإباحة ، كذلك الأمر هنا قرينة في حمل النهي الوارد بعده على الكراهة .

- قوله : " والأشبه التحريم " إلى آخره ، أي : الأشبه في النظر ، أن النهي بعد الأمر يقتضي التحريم ، بخلاف الأمر بعد الحظر ، حيث لم يقتض الوجوب عرفا .

وتقرير الفرق : أنه مثلا إذا قال له : صم ، ثم قال له : لا تصم ; فقد رفع بهذا النهي الإذن له أولا في الصوم بكليته . وإذا قال له : لا تصد ، ثم قال له : صد ; فهاهنا لم يرفع الإذن في الصيد بكليته ، بل رفع المنع منه ; فبقي الإذن فيه ، وهو الإباحة ، والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية