صفحة جزء
[ ص: 386 ] الخامسة : مقتضى الأمر المطلق الفور في ظاهر المذهب ، وهو قول الحنفية ، وهو على التراخي عند أكثر الشافعية .

وتوقف قوم في الفور والتكرار وضدهما ، للتعارض . لنا : ( وسارعوا ) [ آل عمران : 133 ] ، سابقوا إلى مغفرة [ الحديد : 21 ] ، والأمر للوجوب . ولو أخر العبد أمر سيده المجرد استحق الذم ، وأولى الأزمنة بالامتثال عقيب الأمر احتياطا وتحصيلا له إجماعا ، ولأن التأخير إما لا إلى غاية ; فيفوت المقصود بالكلية ; لأنه إما لا إلى بدل ; فيلحق بالمندوبات . أو إلى بدل ; فهو إما الوصية ، وهي لا تصح في بعض الأفعال ، لعدم دخول النيابة فيها ، أو العزم ، وليس ببدل لوجوبه قبل وقت المبدل ، وعدم جواز البدل حينئذ .

أو إلى غاية مجهولة ; فهو جهالة ، أو معلومة ; فتحكم وترجيح من غير مرجح .

أو إلى وقت يغلب على ظنه إدراكه ; فباطل ، لإتيان الموت بغتة .

قالوا : الأمر يقتضي فعل الماهية المجردة ، ولا يدل على غيرها ، ولأن نسبة الفعل إلى جميع الأزمنة سواء ; فالتخصيص بالفور تحكم ، وتعلق الزمان بالفعل ضروري ، والضرورة تدفع بأي زمن كان ; ولأنه من لوازم الفعل ; فلا يقتضي تعيينه كالمكان والآلة والمحل ، والأدلة متقاربة ، وقول الواقفية ضعيف .


المسألة " الخامسة : الأمر إن اقترنت به قرينة فور أو تراخ ; عمل بمقتضاها في ذلك ، وإن كان مطلقا ، أي : مجردا عن قرينة ; فهو [ ص: 387 ] للفور . وهذا معنى قوله : " مقتضى الأمر المطلق الفور في ظاهر المذهب وهو قول الحنفية " ومالك ، " وهو على التراخي عند أكثر الشافعية " وعند مغاربة المالكية . " وتوقف قوم في الفور والتكرار ، وضدهما " ، مع التراخي والمرة الواحدة ، وهؤلاء الذين يسمون الواقفية ، توقفوا في اقتضاء الأمر الفور والتراخي ، فلم يجزموا بواحد منهما ، لتعارض الأدلة ، وكذلك توقفوا في اقتضائه التكرار والمرة الواحدة . وقد سبقت مسألة التكرار وعدمه .

وقال الآمدي : كل من حمل الأمر المطلق على التكرار ، حمله على الفور ، وذهب الشافعية ، وجماعة من الأشاعرة ، والمعتزلة إلى جواز التأخير عن أول وقت الإمكان ، ومنهم من توقف ، ثم اختلفوا ; فقال بعضهم : المبادر ممتثل قطعا ; لكن هل يأثم بالتأخير ؟ اختلفوا فيه ، والتوقف إنما هو في المؤخر ; هل هو ممتثل أم لا ؟ وقال بعضهم : المبادر أيضا متوقف فيه ; هل هو ممتثل أو لا ؟ وخالف بذلك إجماع السلف . واختار الآمدي أنه بفعله ممتثل ; قدم أو أخر ، ولا إثم عليه .

قلت : ومعنى الفور : هو الشروع في الامتثال عقيب الأمر ، من غير فصل ، مأخوذ من قولهم : فارت القدر ، إذا غلت ، وذهبت مكان كذا ، ثم أتيت فلانا من فوري ، أي : قبل أن أسكن . والتراخي تأخير الامتثال عن انقضاء الأمر ، زمنا يمكن إيقاع الفعل فيه ; فصاعدا .

- قوله : الأمر يقتضي الفور في ظاهر المذهب ; إشارة إلى أن فيه خلافا عن أحمد ; فإنه قد نقل عنه أن الحج على التراخي ، مع أنه مأمور به ، وهو [ ص: 388 ] يدل على الخلاف في هذا الأصل .

قلت : فإن كان الخلاف في هذا الأصل ; استفيد من هذا القول في الحج ; فلا حجة فيه ; لأن القواعد والأصول يجوز تخصيصها بدليل أقوى منها عند المجتهد ، وإن كان قد وجد عنه نص ، بأن الأمر على التراخي ; فذاك .

قوله : " لنا : سارعوا ، سابقوا " ، إلى آخره . هذا دليل القول بالفور ، وهو من وجوه :

أحدها : قوله سبحانه وتعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين [ آل عمران : 133 ] ، وقوله عز وجل : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله [ الحديد : 21 ] .

وجه الاستدلال بهما : أنه سبحانه وتعالى أمر بالمسارعة ، والمسابقة إلى المغفرة ، وامتثال الأمر على الفور مسارعة إلى المغفرة ، أي : إلى سببها ، وهي مأمور بها ، " والأمر للوجوب " ، كما سبق ; فيكون الفور واجبا ، وهو المطلوب .

الوجه الثاني : أن العبد إذا أخر أمر سيده المطلق ، زمنا يمكنه الفعل [ ص: 389 ] فيه ، فلم يفعل ; استحق الذم ، ولولا أن الأمر على الفور ، لما كان كذلك .

الوجه الثالث : أن الأمر وإن أمكن امتثاله ، في أي زمن كان بعد الأمر ، لكن أولى الأزمنة بأن يمتثل الأمر فيه ، الزمن الذي هو عقيب الأمر ، لوجهين :

أحدهما : أنه أحوط ، لاحتمال العقاب على التأخير .

الثاني : أن الفعل عقيب الأمر ، يعد به ممتثلا بالإجماع ، وإذا أخر ، كان مختلفا في امتثاله ، لكن هذان الوجهان ، إنما يدلان على أن المبادرة أولى ، لا أنه واجب ، لكن قد يوجه الوجوب ، بأن في المبادرة دفع ضرر مظنون ; فيكون واجبا ، لما تقرر في خبر الواحد ، والقياس .

الوجه الرابع : أن التأخير لو جاز ، لكان إما لا إلى غاية ، أو إلى غاية .

والأول : وهو التأخير لا إلى غاية ، مفوت للمقصود بالكلية ; لأنه إما أن يؤخره لا إلى بدل ; فيلحق بالمندوبات ، أي : يصير مندوبا ، إذ المندوب هو الذي يجوز تأخيره ، وتركه لا إلى بدل ، بخلاف الواجب ، لا يؤخر إلا إلى بدل ، كما في الموسع ، أو يؤخره إلى بدل ; فذلك البدل إما الوصية بفعله ، أو العزم عليه ، والأول باطل ; لأن الوصية لا تصح في بعض الأفعال ، كالصلاة والصوم ، لعدم دخول النيابة فيهما ، والثاني أيضا باطل ; لأن العزم ليس ببدل عن الفعل ; لأنه يجب قبل دخول وقت المبدل ، كالعزم على الظهر [ ص: 390 ] قبل الزوال هو واجب ، والظهر التي يقدر أنها مبدل ; لا يصح فعلها قبل الزوال ; فثبت أن العزم ليس ببدل عن الفعل ، وإلا لم يتقدم عليه ، إذ شأن البدل أن يكون بعد المبدل ، والعزم في الواجب الموسع ، إنما هو بدل عن التعجيل ، لا عن نفس الواجب كما سبق ، وإذا بطل تأخير الامتثال إلى بدل ، أو لا إلى بدل ، بطل تأخيره لا إلى غاية .

وأما الثاني : وهو التأخير إلى غاية ; فباطل أيضا ; لأن تلك الغاية ; إما مجهولة ، أو معلومة ، أو مغلبة على الظن ، والكل باطل ; فالقول بتأخير الامتثال إلى غاية باطل : أما التأخير إلى غاية مجهولة ; فهو جهالة لا تناط بها الأحكام ; لأنه يفضي إلى تضييعها ، وغرض الشرع حفظها .

وأما التأخير إلى غاية معلومة ; فباطل أيضا ; لأن تخصيص بعض الغايات الزمانية ، بالتأخير إليه ، دون بعض ، تحكم ، وترجيح من غير مرجح ، إذ الأزمنة كلها بالنسبة إلى إيقاع الفعل متساوية ، عدا الزمن الأول ، الذي هو عقيب الأمر ، ولذلك ترجح بقربه من زمن الأمر ; فلو قيل للمكلف : صم أو صل ، أو قال السيد لعبده : سافر إلى بلادي ; فانظر في مصالحها ; فقال : لا أفعل الآن على الفور ، لكني أفعل يوم الجمعة ؟ لقيل له : ولم كان يوم الجمعة أولى بالامتثال من يوم الخميس أو السبت ؟ فإن طلب المرجح تعذر عليه ، وإن قال : المرجح اختياري لذلك ، قيل له : أنت عبد مأمور ، لا اختيار لك .

وأما التأخير إلى غاية مغلبة على الظن ، أي : تأخير الفعل إلى وقت يغلب [ ص: 391 ] على ظنه إدراكه ; فهو باطل أيضا ; لأن الموت يأتي بغتة ; فلا يمكنه الجزم بظن من الظنون ، إذ الموت ربما أسرع إلى الشاب الجذع ، وتأخر عن الشيخ الهرم ، وليس لوقت مجيئه ضابط .

ولقائل أن يقول : قد جوزتم تأخير الواجب الموسع ، مع العزم إلى وقت يغلب على ظن المكلف البقاء إليه ، فلم لا يجوز هاهنا كذلك ؟ .

ويمكن الجواب : بأن الموسع وقعت فيه المسامحة الزمانية ، من جهة الشرع ، بالتوسع ، بخلاف هاهنا ، فإن الكلام في الأمر المطلق ، ولسنا على يقين ، والظن من المتسامح فيه ; فظهر الفرق .

- قوله : " قالوا : " إلى آخره . هذا دليل القائلين بالتراخي ، وهو من وجوه :

أحدها : أن " الأمر يقتضي فعل الماهية المجردة ، ولا يدل على غيرها " من زمان ولا غيره ، وذلك لأن قوله : صل ، إنما يقتضي إيقاع حقيقة الصلاة ، وليس في لفظه ما يدل على فور ولا تراخ ; فوجب أن يجوزا [ ص: 392 ] جميعا ، وإلا كنا قد أوجبنا ما لا دلالة في اللفظ عليه ، وذلك زيادة على المأمور ، والزيادة عليه كالنقص منه في المخالفة ، وهي حرام ; فالزيادة عليه أيضا حرام ; فإيجاب الفور إذن حرام .

الوجه الثاني : أن " نسبة الفعل إلى جميع الأزمنة سواء " ، لعدم دلالة اللفظ على بعضها دون بعض ، ولصحة وقوعه في كل زمن منها ، وإذا استوت نسبة الفعل إلى جميعها ، كان تخصيصه بالفور تحكما ، وترجيحا من غير مرجح .

الوجه الثالث : أن " تعلق الزمان بالفعل " ، أي : احتياج الفعل إلى الزمان ، " ضروري " ، أي : لضرورة أن الفعل يمتنع وقوعه لا في زمان ، وإذا كان تعلق الزمن به لهذه الضرورة ; فهي تندفع بإيقاعه في أي زمن كان ، تقدم أو تأخر ، وذلك يدل على أن الفور لا يتعين ، وأن التأخير جائز .

الوجه الرابع : أن " الزمان من لوازم الفعل " ، أي : لا ينفك عنه ، كما أن المكان ، والآلة ، والمحل من لوازمه أيضا ، ثم إن الأمر المطلق لا يقتضي تعيين مكان ، أو آلة ، أو محل ، دون غيره ; فلذلك لا يقتضي تعيين زمان دون غيره .

ومثال ذلك لو قال : توضأ ، لجاز له أن يتوضأ في أي مكان شاء ، بأي [ ص: 393 ] ماء طهور شاء ، ولم يتعين للوضوء مكان دون غيره ، ولا ماء من المياه الطهور دون غيره .

ولو قال لعبده : اصنع لي سريرا أو بابا ; لم يتعين لعمل الباب مكان دون غيره ، ولا قدوم دون غيره ، ولا خشب دون خشب ، وهو محل الفعل ; فكذلك لا يتعين له زمان دون غيره .

- قوله : " والأدلة متقاربة " ، يعني أدلة الفور والتراخي من الطرفين ، متقاربة في القوة ولكل منها اتجاه ، فإن جاز لنا نصرة المذهب الظاهر - وهو الفور - أجبنا عن أدلة أصحاب التراخي .

أما عن الأول ، وهو أن الأمر يقتضي فعل الماهية لا غير ; فبأن هذا مطالبة بدليل الفور ، وقد بيناه بأدلتنا .

وأما عن الثاني : وهو أن نسبة الفعل إلى الأزمنة سواء ; فالتخصيص بالفور تحكم ; فبأن نقول : نسبة الفعل إلى الأزمنة سواء عقلا أو شرعا ؟ الأول مسلم كما ذكرتم ، والثاني ممنوع ، إذ قد يتعلق قصد الشرع بوقت دون وقت ، لمصلحة علمها ، وحينئذ لا يكون التخصيص تحكما ، كيف وقد بينا مثل ذلك في الشاهد ، وهو جواز عقوبة السيد عبده على تأخير الامتثال .

وأما عن الثالث : وهو أن تعلق الزمان بالفعل ضروري ; فبنحو ما سبق ، وهو أن تعلقه به ضروري عقلا من جهة استحالة وقوعه ، لا في زمان . أما شرعا ; فقد يتعلق به مصلحة ، يختار الشرع إيقاعه في بعض الأزمنة دون [ ص: 394 ] بعض لأجلها ; فلا يكون تعلقه بالفعل حينئذ ضروريا ، بل اختياريا .

وأما عن الرابع ; فبالفرق ، وهو أن عدم تعيين الزمان للفعل يفضي إلى تفويته وإضاعته بالكلية ، كما ذكرناه ، بخلاف عدم تعيين المكان ، والآلة ، والمحل ; فإنه لا يفضي إلى تفويته ، وإذا لم يكن بد من تعيين زمان الفعل ; فالزمن الأول وهو زمن الفور أولى بالتعيين ، لما ذكرناه ، ولأن العبد لو أخر امتثال أمر سيده عن زمن فوره ، جاز له عقوبته ، ولو فعل ما أمر به في غير مكان الأمر ; لم يجز له عقوبته ; فبان الفرق بينهما .

- قوله : " وقول الواقفية ضعيف " ، وذلك لأن حجتهم أن أدلة الفور والتراخي تعارضت من الطرفين ; فوجب الوقف على المرجح .

وبيان ضعفها : أنه ليس مطلق التعارض يبيح الوقف ، بل التعارض بعد البحث والنظر الصحيح ، لا التعارض في بادي الرأي . وقد بينا أن طرف الفور راجح ; فتعين المصير إليه . فلا يتسع لهم أن يقفوا عن متابعة ما ظهر رجحانه ، لكنهم يقولون : لم يظهر لنا الرجحان ; فتوقفنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية