صفحة جزء
[ ص: 419 ] العاشرة : تعلق الأمر بالمعدوم بمعنى طلب إيقاع الفعل منه حال عدمه محال باطل بالإجماع ، أما بمعنى تناول الخطاب له بتقدير وجوده فجائز عندنا ، خلافا للمعتزلة وبعض الحنفية .

لنا : تكليف أواخر الأمم الخالية بما كلف به أوائلهم من مقتضى كتبهم المنزلة على أنبيائهم ، وتكليفنا بمقتضى الكتاب والسنة وإنما خوطب بهما غيرنا .

قالوا : يستحيل خطابه ; فكذا تكليفه .

قلنا : لا نسلم استحالة خطابه ، سلمناه ، لكن من غير الله تعالى لتحققه وجود المكلف ، وكمال قدرته على إيجاده ، لا سيما على قول المعتزلة : إن المعدوم شيء ، وإن تأثير القدرة ليست في إيجاد المعدوم ، بل في إظهار الأشياء من رتبة الخفاء إلى رتبة الجلاء ، ولأن الإنسان يخاطب ولدا يتوقعه في كتاب : يا بني ، تعلم العلم ، وافعل كذا وكذا ، ولا يعد سفيها .


المسألة " العاشرة : تعلق الأمر بالمعدوم " ، إلى آخره ، أي : توجه الأمر إلى المعدوم ; إن كان بمعنى طلب إيقاع الفعل منه حال عدمه ; فهو محال ، باطل بالإجماع ; لأن المعدوم لا يفهم الخطاب ; فضلا عن أن يعمل بمقتضاه ، ولأن شروط التكليف كلها منتفية فيه ، وإن كان بمعنى الخطاب له بتقدير وجوده ، ووجود شروط التكليف فيه ; فهو [ ص: 420 ] جائز عندنا ، وعند الأشعرية ، خلافا للمعتزلة ، وبعض الحنفية .

قلت : والأشعرية يفرعون هذا على تحقيق كلام النفس ، بمعنى أن طلب إيقاع الفعل من المعدوم ; إذا وجد ، وتأهل للتكليف ، قام بذات الله عز وجل أزلا .

قلت : وقد أبطلنا كلام النفس فيما سبق ، وبالجملة : فالمسألة ممكنة . سواء قلنا : كلام الله عز وجل معنى مجرد ، أو لفظ ومعنى ، على رأي أهل الأثر .

" لنا " في المسألة : أن تكليف المعدوم كما ذكرناه قد وقع ، والجواز لازم للوقوع ، وإنما قلنا : إنه وقع لوجهين :

أحدهما : أن أواخر الأمم الخالية كلفوا بما كلف به أوائلهم ، من مقتضى كتبهم المنزلة على أنبيائهم ، كالتوراة ، والإنجيل ، وصحف شيت ، وإبراهيم عليهما السلام ، مع أن الآخر لم يكن موجودا عند تكليف الأول ، وهذا يدل على ما قلناه .

ثم إذا صح خطاب المعدوم قبل وجوده بالزمن اليسير ، وهو ما بين أول الأمة وآخرها ; صح قبل وجوده بما لا يتناهى ، وهو تكليفه في الأزل ، بالتفسير الذي قلناه ، إذ لا قائل بالفرق ، ولأن دليل الخصم في المنع يعم الحالين ، فإذا بطل في أحدهما ; بطل في الآخر .

الوجه الثاني : أننا نحن كلفنا بمقتضى الكتاب والسنة ، والمخاطب بهما غيرنا ، قبل وجودنا بسبعمائة سنة ، ويتزايد ذلك بالنسبة إلى من بعدنا .

والتقرير : ما سبق في الوجه قبله ; فدل ذلك على ما قلناه .

- قوله : " قالوا " ، هذا دليل الخصم على المنع .

[ ص: 421 ] وتقريره : أن المعدوم يستحيل خطابه ; فكذا يستحيل تكليفه :

أما استحالة خطابه ; فلأن خطابه يستدعي مخاطبا ومخاطبا ، والمخاطب بفتح الطاء هاهنا منتف ; فاستحال الخطاب لانتفاء ركنه .

وأما استحالة تكليفه ; فلأن الخطاب من لوازمه ، واستحالة اللازم يقتضي استحالة الملزوم .

- قوله : " قلنا : لا نسلم " ، إلى آخره : أي : لا نسلم استحالة خطاب المعدوم بالمعنى الذي فسرناه ، إنما يستحيل بمعنى مشافهته في حال عدمه ، لكنا لا نقول به ، إنما نقول بخطابه ، بمعنى أن الشرع استدعى منه الفعل إذا وجد وكلف ; فخطابه في التحقيق ، إنما هو بعد وجوده ، " سلمناه " ، أي : سلمنا استحالة خطاب المعدوم ، لكن لا مطلقا ، بل هو مستحيل " من غير الله سبحانه وتعالى " ، أما من الله عز وجل ; فلا يستحيل خطابه " لتحققه " ، أي : لتحقق الله عز وجل " وجود المكلف ، وكمال قدرته على إيجاده " ; فهو كالموجود في علمه في الحال ، بخلاف غيره " لا سيما على قول المعتزلة " ، أو جماعة منهم : " إن المعدوم شيء " ، حتى قال بعضهم : هو عرض قائم بجوهر ، " وإن تأثير القدرة الإلهية ليست في إيجاد معدوم ، بل في إظهار الأشياء من رتبة الخفاء إلى رتبة الجلاء " ، أي : إن الأشياء خفية في العدم ; فيظهرها الله عز وجل ويجليها ، كما قال الله عز وجل في الساعة التي نسميها الآن معدومة : إن زلزلة الساعة شيء عظيم [ الحج : 1 ] ; فسماها شيئا ، ثم قال [ ص: 422 ] في موضع آخر : لا يجليها لوقتها إلا هو [ الأعراف : 187 ] ، وفي موضع آخر : إن الساعة آتية أكاد أخفيها [ طه : 15 ] ، بفتح الهمزة عند بعض القراء ، أي : أظهرها ، وإذا كان معنى إيجاد المعدوم عندهم هو إظهار أشياء بعد خفائها ; فما المانع من توجه الخطاب الأزلي إلى تلك الأشياء ، بشرط ظهورها وتأهلها للامتثال ، هذا مما لا مانع منه ، وهو لازم لمن قال به من المعتزلة ، على ما حكيته عنهم في كتاب إبطال التحسين والتقبيح .

قوله : " ولأن الإنسان " ، إلى آخره . هذا دليل آخر عرفي على الجواز ، وهو أن الإنسان يجوز أن يخاطب ولدا يتوقع وجوده ، مثل أن يدركه الموت ، أو غيبة طويلة وله حمل ; فيكتب له كتابا يخاطبه به ، بتقدير ولادته ، يقول فيه : يا بني تعلم العلم ; فإنه يزينك ، واحذر الجهل ; فإنه يشينك ، وحافظ على التقوى ; فإنها تنجيك مما تحذر ، ولا تعذر نفسك في مواقعة الدناءة ; فإنك لا تعذر ، وأشباه ذلك مما يعظ به الوالد ولده " ولا يعد سفيها " بأن يقال له : خاطبت معدوما ; فكذلك المكلف مع الشرع ، والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية