صفحة جزء
[ ص: 423 ] خاتمة : الأمر بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه صحيح عندنا ، خلافا للمعتزلة والإمام ، وفيه التفات إلى النسخ قبل التمكن ، وأن فيه فائدة كما سبق .

لنا : تكليف مفيد ; فيصح ، كما لو وجد شرط وقوعه . وبيان فائدته عزم المكلف على الامتثال فيطيع ، أو الامتناع فيعصي ، ولأن الإنسان في كل سنة مكلف بصوم رمضان مع جواز موته قبله .

قالوا : استدعاء الفعل في وقت يستدعي صحة وقوعه فيه ، وهو بدون شرطه محال .

قلنا : ممنوع ، بل إنما يستدعي العزم على الامتثال . سلمناه ، لكن لا مطلقا ، بل بشرط وجود شرطه .


قوله : " خاتمة " أي : لباب الأوامر .

قوله : " الأمر بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه صحيح عندنا ، خلافا للمعتزلة ، والإمام " ، وهو إمام الحرمين .

وهذا إنما هو فيما إذا كان الآمر عالما بانتفاء شرط الوقوع ، كالبارئ عز وجل مع عبده ; فيما إذا أمر بصوم رمضان مثلا ، وهو يعلم أنه يموت في شعبان ، أما إذا كان الآمر والمأمور جاهلين بذلك ، كالسيد مع عبده ; فلا بد من علم المكلف بتحقق الشرط .

وقسمة المسألة رباعية ، وهو أن الآمر والمأمور ; إما أن يكونا عالمين بانتفاء شرط التكليف ; فلا يصح ، لانتفاء فائدته في حق المكلف ، أو جاهلين بانتفائه ; فيصح لحصول فائدته في حق المكلف ، وصحة الطلب من الآمر ، إذ ما يعلم انتفاء شرطه ، لا يصح طلبه ممن يجوز جهله به ، أو الآمر عالم بانتفاء الشرط ; فيصح ، إذا كان هو البارئ جل جلاله ، أو المأمور عالم به دون [ ص: 424 ] الآمر ; فلا يصح لانتفاء فائدته من جهة المكلف ، وعدم صحة طلبه من جهة الآمر .

- قوله : " وفيه " : أي : في هذا الحكم " التفات إلى النسخ قبل التمكن ، وأن فيه فائدة كما سبق " ، هناك ، أي : هذا يشبه ذاك ، بل ذلك ، أعني النسخ قبل التمكن من الامتثال ، من فروع هذا الأصل ; لأن حقيقته أنه أمر بما علم الله عز وجل انتفاء شرط وقوعه ، فإن الله تعالى أمر الخليل بذبح ولده ، مع علمه أنه لا يمكنه من ذبحه ، والتمكن من ذبحه شرط له ، وقد علم الله عز وجل انتفاءه .

قوله : " لنا : تكليف مفيد " ، إلى آخره . هذا دليل الجواز . وتقريره من وجهين :

أحدهما : أن التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه تكليف مفيد ، وكل تكليف مفيد ; فهو صحيح ; فهذا تكليف صحيح ، كما لو وجد شرط وقوعه .

أما أنه مفيد ; فلأن المكلف إما أن يعزم على الامتثال ; فيكون مطيعا ، أو على الامتناع ; فيكون عاصيا بالعزم . وفائدة التكليف : إظهار المطيع من العاصي ، كما قال الله عز وجل : ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] ، ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين [ ص: 425 ] [ محمد : 31 ] ، ونحو ذلك كثير .

وبالجملة ففائدة التكليف الامتحان .

وأما أن كل تكليف مفيد ; فهو صحيح ; فلوجود فائدته التي جعل لأجلها ، وقد سبق أن صحة الشيء ترتب آثاره عليه ، وحصول مقاصده منه ، وحينئذ لا فرق بينهما إذا وجد شرط التكليف ; فامتثل هذا المكلف ، أو امتنع وبين ما نحن فيه ، لوجود فائدة التكليف في الصورتين .

الوجه الثاني : أن ذلك واقع كثيرا ، والجواز من لوازم الوقوع . وبيان وقوعه أن كل واحد من المكلفين ، في كل سنة ، مكلف بصوم رمضان ، وغيره من العبادات اليومية ، وغيرها ، مع جواز موته قبله ، وكثير من الناس يموت قبل وقت الفعل ; فهذا أمر قد علم الآمر انتفاء شرط وقوعه ، وقد أجمع المسلمون على صحته .

- قوله : " قالوا " ، إلى آخره . هذا دليل الخصم على امتناع هذا التكليف .

وتقريره أن استدعاء الفعل في وقت من الأوقات ، يستدعي صحة وقوعه في ذلك الوقت ، لكن وقوعه فيه بدون شرط محال ; فلو صح هذا التكليف ، لكان تكليفا بالفعل في وقت بدون شرطه ; فيكون تكليفا بالمحال ، والتكليف بالمحال غير جائز ، وإن سلمنا جوازه ، لا نسلم وقوعه .

قوله : " قلنا : ممنوع " ، أي : لا نسلم أن التكليف بفعل في وقت يستدعي وقوعه ، حتى يلزم ما ذكرتم ، " وإنما يستدعي العزم على الامتثال " [ ص: 426 ] تحصيلا لفائدة التكليف ، وحينئذ : لا تنافي بين العزم على الامتثال ، وبين انتفاء شرط الفعل قبل وقته " سلمناه " أي : سلمنا أن استدعاء الفعل في وقت يستدعي وقوعه فيه ، لكن " لا مطلقا ، بل بشرط وجود شرطه " في ذلك الوقت ، أما أنه يستدعي وقوعه في ذلك الوقت بدون شرطه ، فممنوع ، وإلا ، لزم أن التكليف بفعل في وقت يستدعي المحال ، وهو باطل باتفاق ، والله تعالى أعلم بالصواب .

ومن فروع هذا الأصل : أن من أفسد صوم يوم من رمضان بما يوجب الكفارة ، ثم مات ، أو جن ، لم تسقط عنه الكفارة ; لأنه قد بان عصيانه ، بإقدامه على الإفساد ; فحصلت فائدة التكليف ; فلا يقدح فيه انتفاء شرط صحة صوم اليوم ، بموته قبل إكماله ، وكذلك من مرض أو سافر في يوم قد وطئ فيه ، لم تسقط عنه الكفارة ; لأن عصيانه استقر قبل وجود المبيح للإفطار .

ومنها : أن المرأة يجب عليها الشروع في صوم يوم ، علم الله سبحانه وتعالى أن تحيض فيه ; لأن حقيقة الصوم بكماله ، وإن فاتت بطرآن الحيض ، لكن طاعتها بالعزم على امتثال الأمر بالصوم ، بتقدير عدم الحيض ، أو معصيتها بعدم العزم ، لم تفت .

ومنها : قال الآمدي : لو علق وقوع الطلاق على شروعه في صوم رمضان ، ومات بعد الشروع فيه في أثناء اليوم ، وقع الطلاق .

قلت : وفي كون هذا من فروع الأصل المذكور نظر ; لأن هذا من باب وجود المشروط ، لوجود شرطه اللغوي ، فإذا علق الطلاق على الشروع ، ثم [ ص: 427 ] شرع ، فقد وجد الشرط ; فوقع الطلاق لوجود شرطه ، وإنما تكون هذه الصورة من فروع الأصل المذكور ، بتقدير أن يقول : إن صمت يوما كاملا من رمضان ; فأنت طالق ; فمات في أثناء اليوم الأول ; فيقع الطلاق ، لكنه في هذه الصورة لا يقع لتخلف الشرط ; فإنه لم يصم يوما كاملا ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية