صفحة جزء
[ ص: 428 ] النهي

النهي : اقتضاء كف على جهة الاستعلاء ، وقد اتضح في الأوامر أكثر أحكامه ، إذ لكل حكم منه وازن من الأمر على العكس ، وهو عن السبب المفيد حكما يقتضي فساده مطلقا إلا لدليل ، وقيل : النهي عنه لعينه ، لا لغيره ، لجواز الجهتين ، وقيل : في العبادات دون المعاملات ونحوها ، لجواز : لا تفعل ، فإن فعلت ، ترتب الحكم ، نحو : لا تطأ جارية ولدك ، فإن فعلت صارت أم ولد لك ، ولا تطلق في الحيض فإن فعلت وقع ، ولا تغسل الثوب بماء مغصوب ويطهر إن فعلت ، والفرق من وجهين .

أحدهما : أن العبادة قربة ، وارتكاب النهي معصية ; فيتناقضان بخلاف المعاملات .

الثاني : أن فساد المعاملات بالنهي يضر بالناس لقطع معايشهم أو تقليلها ; فصحت رعاية لمصلحتهم ، وعليهم إثم ارتكاب النهي ، بخلاف العبادات ; فإنها حق الله تعالى ; فتعطيلها لا يضر به ، بل من أوقعها بسبب صحيح ، أطاع ، ومن لا ، عصى ، وأمر الجميع إليه في الآخرة .

وحكي عن أبي حنيفة في آخرين : أن النهي يقتضي الصحة ، لدلالته على تصور المنهي عنه ، فإن أراد الصحة العقلية ، أي : الإمكان الذي هو شرط الوجود ; فنعم ، وإن أراد الشرعية ; فتناقض : إذ معناه النهي الشرعي ، يقتضي صحة المنهي عنه شرعا وهو محال .

وقيل : لا يقتضي فسادا ، ولا صحة ، إذ النهي خطاب تكليفي ، والصحة والفساد إخباري وضعي ، وليس بينهما رابط عقلي ، وإنما تأثير فعل المنهي عنه في الإثم به .

ولنا : على فساده مطلقا قوله صلى الله عليه وسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد [ ص: 429 ] ، أي : مردود الذات ، وإجماع الصحابة على استفادة فساد الأحكام من النهي عن أسبابها ، ولأن النهي دليل تعلق المفسدة به في نظر الشارع ، إذ هو حكيم لا ينهى عن مصلحة وإعدام المفسدة مناسب ، ولأن النهي يقتضي اجتنابه ، وتصحيح حكمه يقتضي قربانه ; فيتناقضان ، والشارع بريء من التناقض .

والمختار أن النهي عن الشيء لذاته ، أو وصف لازم له مبطل ، ولخارج عنه غير مبطل ، وفيه لوصف غير لازم تردد ، والأولى الصحة .


قوله : " النهي : اقتضاء كف على جهة الاستعلاء " ، لما فرغ الكلام على الأمر ; شرع في الكلام على أحكام النهي .

فقوله : " النهي : اقتضاء " ، أي : طلب ، وهو جنس له ; لأنه يعم طلب الفعل ، وطلب الكف عن الفعل .

فبقوله : " اقتضاء كف " ، خرج عنه الأمر ; لأنه اقتضاء فعل .

[ ص: 430 ] وقوله : " على جهة الاستعلاء " ; فائدته ما سبق في الأمر ، وهو الاحتراز من السؤال ، نحو : لا تعذبنا ، ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به [ البقرة : 286 ] ، ومن الالتماس ، نحو قول المساوي لمساويه : لا تضرب فلانا ، لا تؤذه ، على جهة الشفاعة ; فطلب الفعل أو الكف عنه ، بصيغة افعل أو لا تفعل إن كانا من أدنى ; فهو دعاء ، أو من مساو ; فهو شفاعة والتماس ، أو من أعلى على جهة الاستعلاء ; فهو أمر أو نهي ، وقد سبق هذا .

قوله : " وقد اتضح في الأوامر أكثر أحكامه " ، أي : أكثر أحكام النهي " إذ لكل حكم منه " ، أي : من النهي ، " وزان من الأمر " ، أي : حكم موازنة " على العكس " .

مثاله : في حدهما : أن الأمر اقتضاء فعل ، والنهي اقتضاء كف عن فعل ، والأمر ظاهر في الوجوب ، مع احتمال الندب . والنهي ظاهر في التحريم ، مع احتمال الكراهة ، وصيغة الأمر : افعل ، وصيغة النهي : لا تفعل ، والنهي يلزمه التكرار ، والفور والأمر يلزمانه ، على خلاف فيه ، والأمر يقتضي صحة المأمور به ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه ، وكما يخرج المكلف عن عهدة المأمور به بفعله ، كذلك يخرج عن عهدة المنهي عنه بتركه ; فهذا معنى الموازنة بين الأمر والنهي .

قوله : " وهو " ، يعني النهي " عن السبب المفيد حكما يقتضي فساده مطلقا " ، أي : إذا ورد النهي عن السبب الذي يفيد حكما ، اقتضى فساده مطلقا ، يعني سواء كان النهي عنه لعينه ، أو لغيره ، في العبادات ، أو في [ ص: 431 ] المعاملات ، وذلك كالنهي عن بيع الغرر ، وعن البيع وقت النداء ، وفي المسجد ، وكبيع المزابنة ، وكالنهي عن نكاح المتعة ، والشغار ، ونكاح الإماء لمن لا يبحن له ; فإنه يقتضي الفساد في ذلك كله ، على خلاف في بعضه ، " إلا لدليل " يدل على أنه لا يقتضي الفساد ، بل الإثم بفعل لسبب أو كراهته ، وذلك كبيع الحاضر للبادي ، وتلقي الركبان ، أو النجش ، ونحوها ، فإن النهي ورد عنها ، لكن دل الدليل على أن النهي المذكور لا [ ص: 432 ] يقتضي فسادها على الأظهر . نعم يحرم تعاطيها ، أو يكره لأجل النهي .

- قوله : " وقيل : النهي عنه لعينه ، لا لغيره ، لجواز الجهتين " ، أي : وقيل : النهي عن الشيء لعينه يقتضي فساده ، والنهي عنه لغيره لا يقتضي فساده ، لجواز أن يكون للشيء الواحد جهتان ، هو مقصود من إحداهما ، مكروه من الأخرى ، كما قيل في الصلاة في الدار المغصوبة ; فلو نهى عن الصلاة لعينها ، أي : لكونها صلاة ، اقتضى فسادها مطلقا ، وإذا نهى عنها لما لابسها من معصية الغصب ، لم يقتض فسادها ، وكذلك الكفر ، لما كان منهيا عنه لكونه كفرا ، اقتضى النهي فساده ، بمعنى أنه باطل في نفسه ، لا يترتب عليه أثر من آثاره ، بل آثاره وأحكامه الواقعة فيه مما ينافي حكم الإسلام ، باطلة في نفسها ، وإنما يقر أهلها على بعضها ، حيث يقرون عليها بدليل شرعي ، كأنكحة الكفار وعقودهم ، لا لكونها صحيحة ، بخلاف النهي عن بيع النجش والتلقي ، فإن النهي عنه لا لكونه بيعا ، بل لأمر خارج عنه ، وهو ما تعلق به من المفسدة ، والفرق بينهما : أن النهي يصلح أن يكون مؤثرا في فساد المنهي عنه بالجملة ، لكن إذا تعلق بالشيء لعينه ، كان أمس به وأخص ; فقوي على التأثير ، بخلاف ما إذا نهي عنه لغيره ، فإن تعلقه به ضعيف ، والأصل يقتضي صحة أفعال العقلاء ; فلا يقوى هذا السبب الضعيف على رفع هذا الأصل القوي ، وأيضا النهي عنه لعينه ، يدل على أن ذاته منشأ [ ص: 433 ] المفسدة المطلوب إعدامها ; فتكون مفسدته ذاتية ; فيقوى مقتضى إعدامها ، والمنهي عنه لغيره يدل على أن مفسدته عرضية ، منشؤها أمر خارج عنه ; فيضعف المقتضي لإعدامها .

- قوله : " وقيل : في العبادات ، دون المعاملات ، ونحوها " من العقود . هذا قول آخر ، بالفرق بين العبادات والمعاملات ; لأنه يجوز أن يقول الشارع : لا تفعل ، فإن فعلت ، ترتب الحكم نحو : لا تطأ جارية ولدك ، فإن فعلت ، صارت أم ولد لك ، ولا تطلق في الحيض ، فإن فعلت ، وقع ، ولا تغسل الثوب بماء مغصوب ، فإن فعلت ، طهر ، بخلاف العبادات .

والفرق بينهما من وجهين :

" أحدهما : أن العبادة قربة ، وارتكاب النهي معصية ; فيتناقضان " ، إذ المعاصي لا يتقرب بها كما سبق " بخلاف المعاملات " ; فإنها ليست قربا ; فلا يناقضها ارتكاب النهي ، كقوله : لا تبع وقت النداء ، ولا تنجش ، ولا تتلق الركبان ، فإن فعلت ، أثمت وأفدت الملك ، ولأن العبادة مأمور بها ، والمنهي عنه غير مأمور به ; فالمنهي عنه ليس بعبادة ، وهو إنما أمر بالعبادة ، فلم يأت بالمأمور به ; فيبقى في عهدة الأمر ، ولا يعني بالفساد إلا هذا ، وهو أن فعله للعبادة لم يخرجه عن عهدة الأمر .

الوجه الثاني : أن فساد المعاملات بالنهي ، يضر بالناس ، وفساد العبادات لا يضر بهم .

بيان الأول : أن فساد المعاملات ، يفضي إلى " قطع معايش الناس أو [ ص: 434 ] تقليلها " فراعى الشرع مصلحتهم بتصحيحها ، وعليهم إثم ارتكاب النهي ، والصحة مع الإثم لا يتنافيان .

وبيان الثاني : هو أن العبادات حق الله عز وجل ; فتعطيلها بإفسادها بالنهي عنها لا يضر به ، بل من أوقعها بسبب صحيح ، أطاع ، ومن لم يوقعها بسبب صحيح ، عصى ، وأمر الجميع إليه في الآخرة ، أعني المطيع والعاصي ، أي : له أن يعاقب من شاء منهما ، ويثيب من شاء منهما ، بحسب سوابقهم عنده ، إذ ذلك وقت ظهور سر الله فيهم ، ونحن كلامنا في ظاهر التكليف ، وهو ما قلناه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

قوله : " وحكي عن أبي حنيفة في آخرين " ، منهم محمد بن الحسن : " أن النهي يقتضي الصحة ، لدلالته على تصور المنهي عنه " ، يعني أنهم قالوا : لما استحال أن يقال للأعمى : لا تبصر ، وللزمن : لا تطر ، والأخرس : لا تنطق ، علمنا أن استحالة النهي عنه لعدم تصوره ، وذلك دليل على أن صحة النهي تعتمد تصور المنهي عنه ; فحيث ورد النهي ، دل على وجود ما يعتمده ، وهو تصور المنهي عنه ; فيكون صحيحا ; فلذلك صححوا التصرف بالوطء وغيره ; فيما اشتراه شراء فاسدا ، وصححوا بيع درهم بدرهمين ، ويثبت الملك في أحدهما ، ويجب رد الآخر ; لأن النهي دل على الصحة ، والصحة ترتب الآثار والتمكن من التصرفات .

[ ص: 435 ] قوله : " فإن أراد " ، إلى آخره . هذا استفسار لأبي حنيفة ومن تابعه .

وتقريره : أن النهي يقتضي " الصحة العقلية " وهي " الإمكان ، الذي هو شرط الوجود " ، أي : كون المنهي عنه ممكن الوجود لا ممتنعه ; فنعم يصح ما قلتموه ، وإن أردتم الصحة الشرعية ، أي : المستفاد من الشرع ، وهي ترتب آثار الشيء شرعا عليه ; فذلك تناقض ، إذ يصير معناه على هذا التقدير : النهي شرعا يقتضي صحة المنهي عنه شرعا ، وهو محال ، إذ يلزم منه صحة كل ما نهى الشرع عنه ، وقد أبطلوا هم منه أشياء ، كبيع الحمل في البطن ونحوه ، ولأن النهي يقتضي - في وضع اللغة ، وعرف الشرع - إعدام المنهي عنه ; لأن كل عاقل ، بل وغير عاقل ، إذا أراد عدم فعل ما ، قال لمن خشي صدوره منه : لا تفعله ، ولا يقول ذلك إذا أراد إيجاد ذلك الفعل ; فدل على أن مقتضى النهي إعدام المنهي عنه ، وحينئذ ترتب آثاره مع إعدامه تناقض محال .

وتحقيق هذا المقام : أن الصحة إما عقلية ، وهي إمكان الشيء ، وقبوله للعدم والوجود ، كما سبق ، أو عادية ، كالمشي أماما ، ويمينا ، وشمالا ، دون الصعود في الهواء ، أو شرعية ، وهي الإذن في الشيء ; فيتناول الأحكام الشرعية إلا التحريم ، إذ لا إذن فيه ، وحينئذ دليل الحنفية إنما يدل على اقتضاء النهي الصحة العقلية أو العادية ، وذلك متفق عليه .

أما الشرعية ; فلا نزاع بين الناس ، أنه ليس فيها منهي عنه ، وحينئذ دليلهم [ ص: 436 ] لا يمس محل النزاع ، ويرجع الخلاف لفظيا عند التحقيق ، وإن كانوا هم تجاوزوا اللفظ إلى المعنى بغير حجة ، إذ يصير تقدير قولهم : النهي يقتضي إمكان وجود المنهي عنه ، وهو صحيح ، وتقدير قولنا : النهي لا يقتضي إذن الشرع في المنهي عنه ، أو يقتضي عدم الإذن فيه ، وهو صحيح بما برهنا عليه ، والله عز وجل أعلم بالصواب .

قوله : " وقيل : لا يقتضي " ، يعني النهي ; " فسادا ولا صحة " ، وهو قول بعض الفقهاء وعامة المتكلمين ; " لأن النهي خطاب تكليفي " ، أي : من قبيل خطاب التكليف اللفظي ، " والصحة والفساد " من قبيل خطاب الوضع والإخبار كما سبق ، وليس بين القبيلين ، أعني الخطاب التكليفي والوضعي ، رابط عقلي حتى يقتضي أحدهما الآخر ، " وإنما تأثير فعل المنهي عنه في الإثم به " لا في صحته ، كما يقول أبو حنيفة ، ولا في فساده كما يقول غيره ، فإن اقترن بالإثم بفعل المنهي عنه صحة أو فساد ; فذلك لدليل خارج .

قوله : " ولنا على فساده " ، أي : على فساد المنهي عنه مطلقا ، سواء كان لعينه أو لغيره ، في العبادات وغيرها وجوه :

أحدها : ما روت عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ، أي : مردود الذات ، هذا مقتضاه ، وما كان [ ص: 437 ] مردود الذات ، كان وجوده وعدمه سواء ، لكن رد ذاته بعد وجودها في الوجود بالفعل محال ; فيبقى مردودا فيما عداها من آثاره ومتعلقاته ، ليصح كون عدمه ووجوده سواء ، وذلك معنى كونه فاسدا .

- الوجه الثاني : أن الصحابة أجمعوا " على استفادة فساد الأحكام من النهي عن أسبابها " ، كاستفادتهم فساد الربا من قوله عليه السلام : لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل . واستدل ابن عمر على فساد نكاح المشركات بقوله عز وجل : ولا تنكحوا المشركات [ البقرة : 221 ] ، وعلى فساد نكاح المحرم بقوله عليه السلام : المحرم لا ينكح ولا ينكح . وغير ذلك من القضايا المنهي عنها ، وإجماعهم حجة .

والدليل على أن ذلك إجماع هو أن الاستدلال المذكور إما أن يكون صدر عن كل واحد منهم ، أو عن بعضهم ، فإن كان الأول ; فهو إجماع نطقي فعلي ، وإن كان الثاني ; فالنكير على المستدل لم ينقل ، والعادة تقتضي نقل مثله ; فكان ذلك إجماعا سكوتيا ، وهذه المسألة ظنية تثبت بمثله وبدونه .

[ ص: 438 ] - الوجه الثالث : أن النهي يدل على تعلق المفسدة بالمنهي عنه في نظر الشارع ، وإعدام المفسدة مناسب عقلا وشرعا ، أما الأول ; فلأن الشارع حكيم لا ينهى عن مصلحة ، وإذا انتفى نهيه عن المصلحة ، لم يبق إلا أن نهيه عن مفسدة ، إذ لا واسطة بين المصلحة والمفسدة ، وأما الثاني ; فلأن المفسدة ضرر على الناس في المعاملات ، وشين يجب أن تنزه عنه العبادات ، وإعدام الضرر مناسب عقلا وشرعا عملا بقوله عليه السلام : لا ضرر ولا ضرار .

- الوجه الرابع : أن النهي يقتضي اجتناب المنهي عنه بوضع اللغة ، وعرف الاستعمال كما سبق تقريره ، وتصحيح حكمه يقتضي ملابسته وقربانه ، واجتنابه وقربانه متناقضان ، والشرع بريء من التناقض ومما يفضي إليه ، ويلزم ذلك أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه . [ ص: 439 ] قوله : " والمختار أن النهي عن الشيء لذاته " ، إلى آخره . هذا تفصيل في المسألة أقرب إلى التحقيق من الإطلاقات الواقعة فيها ، وهو أن النهي عن الفعل إما أن يكون لذاته ، أو لوصف لازم له ، لا ينفك عنه ، أو لأمر خارج عنه لا يتعلق به أصلا ، أو لوصف يتعلق به ، لكنه عارض فيه ، غير لازم له .

- فإن كان المنهي عنه لذاته كالكفر والكذب والظلم والجور ، ونحوها من المستقبح لذاته عقلا ، عند من يرى ذلك ، أو فرضنا أن الشرع قال : نهيت عن عقد الربا ، أو نكاح الشغار والمتعة لذاته ; كان هذا النهي مبطلا ، أي : دالا على بطلان المنهي عنه .

وكذلك إن كان النهي عن الفعل لوصف لازم له ، كالنهي عن نكاح الكافر المسلمة ، وعن بيع العبد المسلم من كافر ، فإن ذلك يلزم منه إثبات القيام والاستيلاء والسبيل للكافر على المسلم ; فيبطل لهذا الوصف اللازم له .

وإن كان النهي عن الفعل لأمر خارج عنه لا تعلق له به عقلا ، كما لو نهي عن الصلاة في دار ; لأن فيها صنما مدفونا أو كافرا مسجونا ، أو شرعا كما لو نهي عن بيع الجوز والبيض خشية أن يقامر به ، أو عن بيع السلاح من المسلمين خشية أن يقطعوا به الطريق ، أو عن بيع الرقيق مطلقا خشية الفجور به ، أو عن غرس العنب أو بيعه خشية أن يعصر خمرا ونحوه ، لم يكن ذلك النهي مبطلا ولا مانعا ; لأن هذه المفاسد وإن تعلقت بهذه الأفعال تعلقا عقليا ، بمعنى أن تلك الأفعال تصلح أن تكون سببا لتلك المفاسد ، لكنها غير متعلقة بها شرعا لأن الشرع لم يعهد منه الالتفات في المنع إلى هذا التعلق العقلي البعيد .

[ ص: 440 ] - وإن كان النهي عن الفعل لوصف له ، لكنه غير لازم ; ففيه تردد ، إذ بالنظر إلى كونه وصفا للفعل يقتضي البطلان ، كما لو نهي عنه لذاته ، أو لوصف لازم ، وبالنظر إلى كونه غير لازم لا يقتضي البطلان ، كما لو نهي عنه لأمر خارج ، وهو أولى تغليبا لجانب العرضية على جانب الوصفية ، إذ بكونه عارضا يضعف كونه وصفا ; فلا يلحق بالوصف اللازم ; لأن لزومه يؤكد وصفيته ويقويها ، كما قال النحاة في التأنيث اللازم حيث أقاموه مقام شيئين في منع الصرف نظرا إلى التأنيث ولزوم التأنيث .

ومما يصلح مثالا لهذا القسم النهي عن البيع وما في معناه من العقود وقت النداء ، وإنما نهي عنه ، لكونه بالجملة متصفا بكونه مفوتا للجمعة ، أو مفضيا إلى التفويت بالتشاغل بالبيع ، لكن هذا الوصف غير لازم للبيع لجواز أن يعقد مائة عقد ما بين النداء إلى الصلاة ، ثم يدركها ; فلا تفوت ; فالأولى في هذا العقد الصحة لوجوه :

أحدها : ضعف المانع لصحته ، وهو هذا الوصف الضعيف العرضي .

الثاني : معارضته بأن الأصل صحة تصرفات المكلفين ، خصوصا في معاملاتهم التي راعى الشرع مصالحهم فيها ; فلا يترك هذا الأصل إلا لدليل قوي سالم عن معارض ، وكلاهما منتف في وصف التفويت المذكور ، إذ هو [ ص: 441 ] ضعيف لعرضيته ، وعدم لزومه معارض بما ذكرناه .

الثالث : أن ضعف المانع ، وقوة المعارض المذكورين ، تعاضدا على تخصيص النص المقتضي للمنع ، وهو قوله عز وجل : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] ، إذ ذلك يدل على أن المنهي عنه بيع خاص ، وهو المفوت للصلاة ، مثل أن يشرع في مساومة بيع تتطاول مدته عند تكبير الإمام للجمعة ، أو قريبا منه ، وصحة البيع عند النداء تكره ولا تفسد عند أبي حنيفة وغيره ، وهو وجه مخرج عندنا ، وهو قوي لما ذكرنا .

والصحيح من مذهب أحمد أنه لا يصح لظاهر النهي ، وما ذكرناه في تضعيف اقتضائه البطلان وارد عليه ، والله تعالى أعلم بالصواب .

تكملة لمسألة النهي :

قال الآمدي : مذهب أكثر الفقهاء من الشافعية والحنفية ، والمالكية ، والحنابلة وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين أن النهي عن عين التصرف المفيد لحكمه يدل على فساده ، لكن من جهة اللغة أو الشرع ؟ اختلفوا فيه . ومذهب القفال ، والغزالي ، وأبي عبد الله ، وأبي الحسين البصريين ، وأبي الحسن الكرخي ، والقاضي عبد الجبار : أنه لا يدل على فساده . قال : والمختار أنه لا يدل على فساده من جهة اللغة بل من جهة المعنى .

- أما الأول : فلأنه لو قال : نهيتك عن ذبح شاة الغير بغير إذنه . لعينه أو لعين الذبح ، لكن إن فعلت ، حلت الذبيحة ، لم يكن متناقضا لغة .

[ ص: 442 ] وأما الثاني : فلأن النهي لا بد وأن يكون لمقصود ، سواء ظهرت الحكمة فيه ، أو خفيت ، للإجماع على امتناع خلو أحكام الشرع عن حكمة . ثم مقصود النهي إما راجح على مقصود الصحة ، أو مساو له ، أو مرجوح ، لا جائز أن يكون مرجوحا ; لأن النهي طلب ، والطلب يعتمد الرجحان ; فلا يجوز أن يكون مقصوده مرجوحا ، ولا جائز أن يكون مساويا لذلك بعينه ; لأنه ترجيح من غير مرجح ; فتعين الأول ، وهو أن مقصود النهي راجح ; فيكون مقصود الصحة مرجوحا ، والمرجوح مع الراجح غير معتبر ; فمقصود الصحة مع مقصود النهي غير معتبر ; فيكون مقصود النهي هو المعتبر ، وهو المراد باقتضائه الفساد . هذا ما ذكره الآمدي ذكرت بعضه بلفظه ، وبعضه بمعناه ، تحصيلا للإيضاح ، والله تعالى أعلم بالصواب .

فائدة : ذكر في " المختصر " في مقتضى النهي أقوال :

أحدها : الفساد مطلقا إلا لدليل .

الثاني : الفرق بين ما إذا نهي عنه لعينه أو لغيره .

الثالث : الفرق بين العبادات والمعاملات .

الرابع : أنه يقتضي الصحة عند أبي حنيفة .

الخامس : لا يقتضي صحة ولا فسادا .

السادس : التفصيل الذي ذكرناه .

السابع : التفصيل الذي ذكره الآمدي .

وقد سبق توجيه هذه الأقوال .

فوائد مشتركة بين الأمر والنهي :

- إحداهن : قد سبق في مقتضى الأمر المجرد أقوال :

أحدها : الوجوب .

وثانيها : الندب .

[ ص: 443 ] وثالثها : الإباحة .

ورابعها : الوقف .

وفيه ثلاثة أقوال أخر :

أحدها : أنه للقدر المشترك بين الوجوب والندب .

وقد سبق الفرق بين هذا القول وبين كون الأمر للندب .

الثاني : أن لفظ الأمر مشترك بين الوجوب والندب ; لأنه استعمل فيهما ، والأصل في الإطلاق الحقيقة وعدم المجاز لما سبق .

الثالث : أنه لأحدهما لا بعينه ، أي : لا يعلم هل هو للوجوب أو للندب ; لأنه استعمل فيهما ، والأصل عدم الاشتراك والمجاز ، ولا دليل على أنه أخص بأحدهما فيتوقف فيه ، ويجعل من باب المجمل .

فصارت الأقوال في مقتضى الأمر سبعة .

- وقد ذكر الأصوليون في مقتضى النهي نظائر هذه الأقوال في الأمر :

أحدها : أن النهي للتحريم .

وثانيها : أنه للكراهة .

وثالثها : أنه للإباحة .

ورابعها : أنه للوقف .

وخامسها : أنه للقدر المشترك بين التحريم والكراهة ، وهو مطلق الترك .

والفرق بين هذا وبين القول بأنه للكراهة أن جواز الفعل هاهنا مستفاد من الأصل ، وفيما إذا جعل للكراهة ، يكون جواز الفعل مستفادا من اللفظ ، كما سبق في نظيره في الأمر .

وسادسها : أن لفظ النهي مشترك بين التحريم والكراهة .

[ ص: 444 ] وسابعها : أنه لأحدهما لا بعينه ; فيكون مجملا فيهما .

وحكى القرافي عن القاضي عبد الوهاب أن من العلماء من فرق بين الأمر والنهي ; فحمل الأمر على الندب ، والنهي على التحريم ; لأن معتمد الأمر تحصيل المصلحة ، ومعتمد النهي نفي المفسدة ، وعناية الحكماء بنفي المفاسد أشد من عنايتهم بتحصيل المصالح .

- قلت : الأصل في هذا أن كل واحد بطبعه وعقله يؤثر دفع الضرر عن نفسه على تحصيل النفع لها إذا لم يجد بدا من أحدهما ; لأن دفع الضرر كرأس المال ، وتحصيل النفع كالربح ، والأول أهم من الثاني ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

الفائدة الثانية : اختلفوا في الأمر والنهي جميعا ، هل يقتضيان التكرار أم لا ، وقد سبق توجيه الخلاف في الأمر ; فمن يراه للتكرار ، جعل الأوامر المصرحة أو القاطعة بالتكرار في الصلاة والزكاة والصيام والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الكتاب والسنة ، نحو قوله عز وجل : حافظوا على الصلوات [ البقرة : 238 ] ، والذين هم على صلاتهم يحافظون [ المعارج : 34 ] ، وقوله عليه السلام : خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة . الحديث ، ونحوه من النصوص القاطعة بتكرار [ ص: 445 ] الزكاة والصوم وغيرهما تأكيدا لقوله عز وجل : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 110 ] ، كتب عليكم الصيام [ البقرة : 183 ] ; لأن هذا وحده استقل بإفادة التكرار ، فلم تبق لغيره إلا فائدة التأكيد .

ومن لا يرى الأمر للتكرار ، يقول : مقتضى الأمر في جميع هذه المأمورات وغيرها الخروج من عهدتها بفعلها مرة واحدة ، وإنما ثبت تكرار ما وجب تكراره منها بأدلة تفصيلية منفصلة أفادت التكرار زيادة على مقتضى الأمر .

وعلى هذا يترجح القول بعدم التكرار ; لأن النصوص المذكورة بتقديره تكون مؤسسة ، وعلى القول الأول تكون مؤكدة ، والتأسيس أولى من التأكيد .

ويتجه الجواب عن هذا بأن يقال : النصوص المذكورة ليست للتأسيس ولا للتأكيد ، بل هي للتبيين فإن الكتاب يبين بعضه بعضا ، والسنة مبينة للكتاب ; فالنصوص المفيدة للتكرار مبينة للنصوص المطلقة . وقد سبق أن القاعدة أن مدلول البيان بالفعل موجود في المبين بالقوة ; فقول الشارع : صلوا في كل يوم ، وزكوا ، وصوموا في كل سنة ، مبين لقوله : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، كتب عليكم الصيام ; فتكون هذه النصوص مشتملة على اقتضاء التكرار ، لكن اشتمالا خفيا ظهر بالبيان . وعلى هذا يتجه القول باقتضاء الأمر التكرار .

وأما النهي ; فالمشهور من مذاهب العلماء أنه يقتضي التكرار ، لاقتضائه [ ص: 446 ] الكف أبدا على تكرر الأزمنة ، وقد سبق تقريره في الفرق بينه وبين الأمر في ذلك ، وزعم بعضهم أنه لا يقتضي التكرار ، ويلزم هذا القائل على مذهبه أن لا يوجد عاص أصلا ; لأن المنهي عن فعل يخرج عن عهدة النهي بتركه مرة في زمن ما ، كما يخرج عن عهدة الأمر بفعل المأمور مرة في زمن ما عند من لا يوجب التكرار فيه ، وترك المنهي عنه مرة في زمن ما لا ينفك عنه أحد في العادة ; إما اضطرارا في حال النوم والمرض والتشاغل بالمباحات والواجبات ، أو اختيارا ، إذ يستحيل في العادة أن أحدا يلازم فعل المنهي عنه بحيث لا يفتر منه زمنا من الأزمان حتى يموت ، وحينئذ يلزم أن من ترك الزنى مرة واحدة بنوم ، أو صلاة ، أو أكل ، أو ملل ، أو عجز ، أو استحياء ، أو اختيارا محضا ، وفعله في بقية أزمانه أن يكون مطيعا خارجا عن عهدة النهي ، وهذا باطل بإجماع .

قلت : وقد يجاب عن هذا بوجهين :

أحدهما : أن يقال : هذا هو مقتضى النهي ولازمه على هذا المذهب ، لكن انتفى ذلك وثبت تكرار ترك المنهي عنه بالأدلة المنفصلة كالإجماع وغيره ، ونحن كلامنا فيما يقتضيه النهي لغة ، لا فيما استقرت عليه الأحكام شرعا .

قلت : وهذا جواب سديد صحيح .

الوجه الثاني : وهو يتخرج على قاعدة ; وهو أن الاقتضاء إما أن يكون عاما في عام نحو : أكرم الناس في جميع الأيام ، أو مطلقا في مطلق ، نحو : أكرم رجلا في يوم ما ، أو عاما في مطلق ، نحو : أكرم الناس كلهم في يوم ما ، أو مطلقا في عام ، نحو : أكرم رجلا في جميع الأيام .

[ ص: 447 ] إذا تقرر هذا ; فالقائل : إن النهي يقتضي التكرار يقول : هو من باب اقتضاء العام في العام ، وهو اقتضاء جميع التروك في جميع الأزمان ، والقائل بأنه لا يقتضي التكرار يقول : هو من باب اقتضاء المطلق في العام ، والمطلوب ترك واحد في جميع الأزمان ; فمتى لابس المنهي عنه في زمن من الأزمان ، تحقق العصيان ، وهذا معنى جواب ابن عبد السلام .

قلت : فمأخذ الخلاف إذن أن الكف عن المنهي عنه في الأزمان ، هل هو ترك واحد نظرا إلى جنس الكف واتحاده ، أو تروك كثيرة نظرا إلى أشخاص الأزمان وتعددها ، وعلى هذا ; فالنافي لاقتضاء النهي التكرار قد قال به في المعنى ، إذ لا معنى للتكرار إلا الترك في جميع الأزمان سواء جعله تركا واحدا باعتبار ماهيته البسيطة ، أو تروكا باعتبار أزمنته المتعددة ، والله تعالى أعلم بالصواب .

الفائدة الثالثة : ما علق عليه الأمر من شرط ، كقوله : إذا زالت الشمس فصلوا ، أو صفة ، كقوله عز وجل : الزانية والزاني فاجلدوا [ النور : 2 ] ، إن ثبت أنه علة للفعل ; فلا خلاف في تكرره بتكرره ، وإن لم يكن علة ، فإن قيل : الأمر المطلق للتكرار ; فهاهنا أولى ، وإن قيل : ليس للتكرار ، اختلفوا هاهنا . واختار الآمدي عدمه .

وأما النهي المعلق بما يتكرر ; فمن قال : مطلق النهي يقتضي التكرار ، أثبت التكرار هاهنا بطريق الأولى ، ومن قال : لا يقتضي التكرار ، اختلفوا : هل يقتضيه أم لا ؟ والأظهر أنه يقتضيه ، بخلاف الأمر ، والفرق بينهما ما عرف قبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية