صفحة جزء
[ ص: 489 ] ثم هنا مسائل :

الأولى : أقل الجمع ثلاثة ، وحكي عن المالكية ، وابن داود ، وبعض الشافعية ، والنحاة أنه اثنان .

لنا : إجماع أهل اللغة على الفرق بين الجمع والتثنية في التكلم والتصنيف ، وعدم نعت أحدهما وتأكيده بالآخر ; نحو : رجال اثنان ، أو رجلان ثلاثة ، أو الرجال كلاهما ، أو الرجلان كلهم ، وصحة : ليس الرجلان رجالا ، وبالعكس .

قالوا : هذان خصمان اختصموا [ الحج : 19 ] ، وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا [ الحجرات : 9 ] ، نبأ الخصم إذ تسوروا [ ص : 21 ] ، وكان اثنين إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] وحجب الأم إلى السدس بأخوين ، وهما في الآية بلفظ الجمع ، الاثنان فما فوقهما جماعة ، ومعنى الجمع حاصل في التثنية ، وهو الضم .

وأجيب : بأن الخصم والطائفة يقعان على القليل والكثير أو جمع ضمير الطائفتين باعتبار أفرادهما ، و ( قلوبكما ) تثنية معنوية فرارا من اجتماع تثنيتين في كلمة واحدة ، ولولا الإجماع لاعتبر في حجب الأم ثلاثة ، كمذهب ابن عباس ; ولما قال لعثمان : ليس الأخوان إخوة في لسان قومك ، احتج بالإجماع ، وما منع والاثنان جماعة في حصول الفضيلة حكما لا لفظا ، إذ الشارع يبين الأحكام لا اللغات ، والآخر قياس في اللغة أو طرد للاشتقاق ، وهما ممنوعان .


[ ص: 490 ] قوله : " ثم هنا مسائل " ، أي : بعد أن انتهى الكلام في حد العام ، ومراتبه ، وإثباته بالحجة ، ودفع شبه النفاة له على ما مر ، وذلك كالقاعدة الكلية للباب ; فهاهنا مسائل كالجزئيات له :

" الأولى : أقل الجمع ثلاثة " ، عند الأكثرين منهم الأئمة الأربعة إلا مالكا ، " وحكي عن المالكية وابن داود الظاهري وبعض الشافعية والنحاة أنه اثنان " ، وحكاه أيضا في " المحصول " عن القاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق وجمع من الصحابة والتابعين . وحكى الآمدي القول الأول عن ابن عباس وأبي حنيفة والشافعي وبعض أصحابه ومشايخ المعتزلة ، والثاني عن عمر ، وزيد بن ثابت ومالك وداود والقاضي أبي بكر ، والأستاذ أبي إسحاق والغزالي وبعض الشافعية .

" لنا " على الأول وجوه :

أحدها : أن أهل اللغة أجمعوا " على الفرق بين التثنية والجمع في التكلم والتصنيف " .

أما في التكلم ; فلأنهم يقولون : رجلان ورجال ، وأما في التصنيف ; فلأنه ما من كتاب في العربية إلا ويوجد فيه باب التثنية وباب الجمع ، وأن رفع التثنية بالألف والنون ، نحو : الزيدان ، ورفع الجمع بالواو والنون ، نحو : الزيدون ، وحيث أجمعوا على الفرق بين التثنية والجمع ، وعلى الفرق بين [ ص: 491 ] ضمير الاثنين والجمع ، نحو : ضربا وضربوا ، ويضربان ويضربون ، وضاربان ، وضاربون ، دل على أن الاثنين ليسا جمعا ، وهو المطلوب .

فإن قيل : يجوز أنهم فرقوا بينهما فرقا نوعيا بمعنى أن التثنية نوع جمع ، لكنه اختص بما أوجب إفراده بالذكر في التكلم والتصنيف ، كما أن الإنسان نوع من الحيوان ، ويفرد عنه بحده وخواصه ، وهذا سؤال قوي على هذا الدليل .

والجواب عنه بالطريق العام ، هو أن الجواز لا يكفي في الثبوت ، بل لا بد من دليل زائد عليه ، ونحن لا ننازع في جواز أن أقل الجمع اثنان ، لكن في ثبوته ووقوعه ; فأين دليله ؟ وما ذكرتموه من الأدلة على ذلك معارض بجوابه وبأدلتنا ; فيسقط ، ويبقى الأصل ، وهو عدم دعواكم .

الوجه الثاني : لو كان الاثنان أقل الجمع ، لجاز لفت أحدهما بالآخر ، لكن ذلك لا يجوز ; فلا يكون الاثنان أقل الجمع .

أما الملازمة ; فلأن أقل الشيء يصدق عليه اسم ذلك الشيء وحقيقته ، كما أن أقل الماء ماء ، وأن أقل العدد عدد ، وإنما قلنا ذلك ; لأن معنى أقل الشيء أنه شيء في نهاية القلة ، وذلك يقتضي أن الاثنين جمع في نهاية القلة ; فيكون مشاركا لأكثر الجمع في ماهية الجمع ، وذلك يقتضي جواز نعت أحدهما بالآخر باعتبار الماهية المشتركة ، أو يخبر عنه به ، وأما انتفاء اللازم ; فلأنه لا يجوز أن يقال : هؤلاء رجال اثنان ، ولا هذان رجلان ثلاثة ، ولا يقال : الرجال رجلان ، ولا الرجلان رجال ، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم ،

[ ص: 492 ] وذلك يقتضي أن الاثنين ليسا أقل الجمع ; فلا يكون ذلك جمعا .

الوجه الثالث : لو كان الاثنان أقل الجمع ، لجاز تأكيد أحدهما بالآخر ، لكن ذلك لا يجوز ; فلا يكون الاثنان أقل الجمع . وتقرير الملازمة ما سبق في الوجه قبله . وأما انتفاء اللازم ; فلأنه لا يصح أن يقال : قام الرجال كلاهما ، ولا قام الرجلان كلهم ; فدل ذلك على ما ذكرناه .

الوجه الرابع : أنا قدمنا في اللغات أن صحة النفي تدل على انتفاء الحقيقة ، ولا شك في صحة قولنا : ليس الرجلان رجالا ، وبالعكس ، ليس الرجال رجلين ، وذلك يدل على أن الاثنين ليسا جمعا حقيقة ، كما أن الرجال ليس تثنية حقيقية ; فثبت بهذه الوجوه أن الاثنين ليسا جمعا بالحقيقة ، وإنما يطلق عليهما جمعا بطريق المجاز عند من يطلقه .

قوله : " قالوا : هذان خصمان " ، أي : قال المخالفون : الدليل على أن أقل الجمع اثنان وجوه :

أحدها : قوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم [ الحج : 19 ] ، وخصمان مثنى ، والضمير في اختصموا ضمير جمع ، وقد رده إلى خصمان ، والضمير يجب أن يطابق ما يرجع إليه ; فدل على أن خصمان مطابق لضمير الجمع ، وذلك يقتضي كونه جمعا ; فإذن خصمان جمع ، وهو مثنى ; فالمثنى أقل الجمع ; لأن ما قبله إلا الواحد ، وليس بجمع بالإجماع .

الوجه الثاني : قوله عز وجل : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا [ ص: 493 ] [ الحجرات : 9 ] ; فرد إلى المثنى ضمير الجمع ، والتقرير ما سبق .

الوجه الثالث : قوله عز وجل : وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب [ ص : 21 ] ، وكان الخصم المذكور اثنين ، بدليل قوله سبحانه وتعالى بعد : خصمان بغى بعضنا على بعض إلى قوله : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة [ ص : 22 ، 23 ] وقد رد ضمير الجمع إلى الاثنين كما سبق .

الوجه الرابع : قوله عز وجل : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] ; فجمع القلب ، والخطاب لاثنين ; فدل على أنهما جمع .

الوجه الخامس : قوله عز وجل : فإن كان له إخوة فلأمه السدس [ النساء : 11 ] ; فأثبت لأمه السدس مع الأخوة وهم جمع ، والجمهور على أنها تحجب من الثلث إلى السدس بأخوين ; فدل على أنهما جمع .

الوجه السادس : قوله عليه السلام : الاثنان فما فوقهما جماعة .

[ ص: 494 ] وتقريره : الاثنان جماعة فما فوقهما فأخبر عن الاثنين بأنهما جماعة ، وهو نص في المقصود ، وهو صلى الله عليه وسلم ، من أهل اللغة .

الوجه السابع : أن معنى الجمع الضم ، وهو حاصل في التثنية ، إذ التثنية ضم اسم إلى مثله ، والجمع ضم اسم إلى أكثر منه ، وذلك يفيد أن التثنية نوع جمع باعتبار القدر المشترك بينهما ، وهو الضم ، كما أن الإنسان نوع حيوان باعتبار المشترك بينهما ، وهو الحيوانية ; فثبت بهذه الوجوه أن التثنية أقل الجمع .

قوله : " وأجيب " أي : عن هذه الوجوه .

أما عن الثلاثة الأول ; فبأن " الخصم والطائفة يقعان على القليل والكثير " . [ ص: 495 ] يقال : هذا رجل خصم ، ورجلان خصم ، ورجال خصم ; لأنه من باب الوصف بالمصدر ، نحو : رجل ضيف ، ورجال ضيف ، وقال الله عز وجل : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين [ التوبة : 122 ] ، ويكفي في ذلك واحد ; لأن خبره مقبول في التعليم والتحذير . وقال الله عز وجل : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ النور : 2 ] ، والمراد جماعة منهم ، وإذا كان الخصم والطائفة يقعان على القليل والكثير ، لم يبق في الآيات حجة على أن الاثنين أقل الجمع ، لجواز أنهم في جميع الآيات أكثر من اثنين ، أو يقال في الطائفتين : إنه جمع ضميرهما باعتبار أفرادهما ; لأن الطائفة غالبا تطلق على أفراد متعددة ; فجمع الضمير باعتبار أفراد الطائفتين ، وثناهما باعتبار مجموع كل واحدة منهما ، وكذا الكلام في : هذان خصمان اختصموا [ الحج : 19 ] ; لأنها نزلت في علي بن أبي طالب وعمه حمزة وعبيدة بن الحارث حين بارزوا عتبة بن ربيعة وأخاه وابنه الوليد يوم بدر ; فكل خصم من الخصمين في الآية ثلاثة ; فهما جميعا ستة ; فجمع الضمير باعتبار الأفراد ، وهي ستة ، وتثنية الخصم باعتبار الكفر والإيمان اللذين اختصموا فيهما .

وأما عن الرابع ، وهو قوله عز وجل : فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] فمن وجهين :

[ ص: 496 ] أحدهما - وهو الذي في " المختصر " - : أن هذه تثنية معنوية ، أي : هي تثنية في المعنى ، وإن كانت جمعا في اللفظ ، وذلك لأن التثنية على ضربين : لفظية : وهي إلحاق الاسم المفرد ألفا ونونا ليدلا على أن معه مثله ، نحو : زيدان وهندان ومسلمان ومسلمتان ، ومعنوية : وهو ما أضيف من ذلك إلى اثنين ; فيجتمع فيه تثنيتان ; فيستثقل ; فيرد إلى الجمع تخفيفا مثل : قلوبهما ، ورؤوسهما وظهورهما ، وبطونهما ، إذ تثنيته اللفظية : قلباهما ورأساهما ، وظهراهما وبطناهما ، وقد يخرج على أصله كقول الشاعر :


ظهراهما مثل ظهور الترسين .

فجمع بين اللفظية والمعنوية .

والوجه الثاني : ذكره في المعالم وغيره ، وهو أن القلب قد يطلق على [ ص: 497 ] الميل الحاصل في القلب ; فيقال للمنافق : إنه ذو قلبين ، والمؤمن له قلب واحد ، ولسان واحد ، وإذا كان هذا سائغا ، وجب حمل القلوب على الإرادات الحاصلة في القلب بطريق المجاورة ، كما سمي العقل قلبا ; لأنه محله في قوله عز وجل : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب [ ق : 37 ] .

قلت : ويقوي هذا التأويل ما رواه عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى : فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] ، قال : مالت قلوبكما .

قلت : والصغو : الميل ، وهو الإرادة ، وقد يتعدد لتقلب القلب مرة كذا ، ومرة كذا ومنه في الحديث : يا مقلب القلوب . وقول الشاعر :


وما سمي الإنسان إلا لأنسه     ولا القلب إلا أنه يتقلب

وأما عن الخامس : وهو أن الإخوة جمع وقد حجبت الأم إلى السدس [ ص: 498 ] باثنين ; فبأن نقول : لولا الإجماع ، لاعتبر في حجب الأم ثلاثة ، كمذهب ابن عباس رضي الله عنهما ، ولهذا لما قال ابن عباس لعثمان رضي الله عنهم : لم حجبت الأم بالاثنين من الإخوة ، وإنما قال الله تعالى : فإن كان له إخوة فلأمه السدس [ النساء : 11 ] ، وليس الأخوان إخوة في لسانك ولا لسان قومك ؟ فقال له عثمان : لا أنقض أمرا كان قبلي ، وتوارثه الناس ، ومضى في الأمصار . فاحتج عثمان بالإجماع ، وما منع أن الأخوين ليسا إخوة ، ولو كانا إخوة في اللغة ولو لغة قوم من العرب وإن شذوا ، لرد على ابن عباس ، وقال له : بلى ، الأخوان إخوة في لساني أو لسان بني فلان حملا للقرآن على ظاهره ; لأنه الواجب ما أمكن ، فلما عدل عن ذلك إلى الإجماع ، دل على صحة ما قاله ابن عباس من أن الأخوين ليسا إخوة في لغة العرب ، وهو يدل على أن التثنية ليست جمعا وهو المطلوب .

وأما عن السادس ; فبأن المراد بالاثنين جماعة في حصول فضيلة الصلاة جماعة من حيث الحكم الشرعي ، لا من حيث اللفظ اللغوي ; لأن الشارع إنما يبين الأحكام التي بعث لبيانها لا اللغات التي عرفت من غيره .

[ ص: 499 ] وأما عن السابع - وهو قولهم : معنى الجمع الضم ، وهو حاصل في التثنية - فبأن هذا " قياس في اللغة أو طرد للاشتقاق وهما ممنوعان " ، أما كونه قياسا في اللغة ; فلأنكم حكمتم على التثنية بأنها جمع بجامع الضم المشترك بينهما . وأما كونه طردا للاشتقاق ; فلأنكم لما بينتم أن الجمع هو الضم ، طردتم معناه ; فأطلقتم الجمع حيث وجد الضم . وأما كونهما ممنوعين : أما القياس فقد سبق الخلاف فيه ، لكنا رجحنا جوازه في اللغة ; فلا يصح منا هاهنا منعه . ولكن الجواب الصحيح أن يقال : هذا القياس هاهنا فاسد ; لأنه مبني على أن اللغة في تسمية الجمع المتفق عليه هي الضم المطلق ، وهو ممنوع ، بل هي ضم خاص ، وهو ضم شيء إلى أكثر منه . وحينئذ يمتنع قياس التثنية عليه ، أو يبقى قياسا شبهيا ضعيفا لا يعبأ به . وأما طرد الاشتقاق ، فإن الاشتقاق يلاحظ فيه خصوصية المحل ، كما سبق تقريره في القياس اللغوي . وحينئذ يمتنع طرده ، وإلا لصح أن يسمى الجمل ضيغما ، وكل مدبر دبرانا ، وكل مستقر لشيء قارورة ، لوجود الضيغم ، والإدبار والاستقرار وهو باطل .

إذا ثبت هذا ; ففائدة هذه المسألة أن كل حكم علق على جمع ; فإنه لا يحصل إلا بثلاثة منه على المشهور ، مثل أن يقول : لله علي أن أتصدق بدراهم ، أو أصوم أياما ، أو أصلي ركعات ، أو أعتق عبيدا أو إماء ، أو أتوضأ مرات ، أو أتمضمض بغرفات ، أو حلف بالطلاق ليتزوجن زوجات ، أو قالت له زوجته : طلقني على دراهم ، أو اخلعني على ما في يدي من الدراهم ، فلم يكن في يدها شيء ، أو قال لها : أنت طالق طلقات ، أو أقر لغيره بدراهم أو [ ص: 500 ] دنانير مطلقة ، وتعذر البيان من جهة المقر إلى غير ذلك من الأحكام ، يلزمه الإتيان بثلاثة مما ذكر على المشهور ما لم يدل دليل خارج على مقدار من العدد معين ، وقياس قول الخصم يكفيه اثنان . والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية