صفحة جزء
[ ص: 501 ] الثانية : الاعتبار فيما ورد على سبب خاص بعمومه خلافا للمالكية وبعض الشافعية .

لنا : الحجة في لفظ الشارع لا في سببه ، وأكثر أحكام الشرع العامة وردت لأسباب خاصة ، كالظهار في أوس بن الصامت ، واللعان في شأن هلال بن أمية .

قالوا : لولا اختصاص الحكم بالسبب ، لجاز إخراجه بالتخصيص ، ولما نقله الراوي لعدم فائدته . ولما أخر بيان الحكم إلى وقوعه ، ولأنه جواب سؤال ; فتجب مطابقته له .

قلنا : السبب أخص بالحكم من غيره ; فلا يلزم جواز تخصيصه ، وفائدة نقل السبب بيان أخصيته بالحكم ، ومعرفة تاريخه بمعرفة تاريخه ، وتوسعة علم الشريعة . والتأسي بوقائع السلف ، وتأثير نقله شبهة في وقوع مثل هذا الخلاف . وهو رحمة واسعة ، وتخفيف . إلى غير ذلك . وتأخير بيان الحكم إلى وقوع السبب من متعلقات العلم الأزلي ; فلا يعلل ، كتخصيص وقت إيجاد العالم به ، وإلا انتقض بالأحكام الابتدائية الخالية عن أسباب لما اختصت بوقت دون ما قبله وبعده .

والواجب تناول الجواب محل السؤال ، والسبب ، لا المطابقة المدعاة إذ لا يبعد أن يقصد الشارع بالزيادة عن محل السبب تمهيد الحكم في المستقبل أو تقريره . كما إذا قيل : زنى أو سرق فلان ; فقال : من زنى فارجموه ، ومن سرق فاقطعوه .


المسألة " الثانية : الاعتبار فيما ورد على سبب خاص بعمومه لا بخصوص السبب خلافا لمالك وبعض الشافعية " .

وذكر القرافي في " التنقيح " أن العموم إذا كان مستقلا دون سببه ; فهو على [ ص: 502 ] عمومه عند أكثر المالكية ، خلافا للشافعي والمزني ، وعن مالك : فيه روايتان .

وقال في الشرح : فيه ثلاثة مذاهب :

يختص بسببه .

لا يختص بسببه .

الثالث : الفرق بين المستقل وغيره ; فالمستقل لا يختص بسببه كقصة عويمر حيث قذف امرأته ; فنزلت : والذين يرمون أزواجهم [ النور : 6 ] الآية ، وغير المستقل يختص ، كقوله عليه السلام : أينقص الرطب إذا جف ؟ ، قالوا : نعم : قال : فلا إذن . فقوله : لا إذن . كلام غير مستقل ; فيجب ضمه إلى السؤال ، ويصير تقديره : لا يباع الرطب بالتمر ; لأنه ينقص إذا جف . هكذا فهمت من سياق كلامه ، وإن كان الكلام في النسخة التي نقلت منها مضطربا . وذكر الآمدي تفصيلا كثيرا .

ولنرجع إلى ذكر الأدلة .

قوله : " لنا " ، أي : على أن اللفظ العام الوارد على سبب خاص لا يختص به مطلقا وجهان :

[ ص: 503 ] أحدهما : أن الحجة في لفظ الشارع لا في سببه ، وإذا كان الأمر كذلك ، وجب مراعاة اللفظ عموما وخصوصا كما لو ورد ابتداء على غير سبب ; فلو سألت امرأة زوجها الطلاق ; فقال : كل نسائي طوالق ، عمهن الطلاق مع خصوص السبب . ولو سأله جميع نسائه الطلاق ; فقال : فلانة طالق ، اختص الطلاق بها وإن عم السبب ، وكذا لو قيل : سرق زيد ; فقال : من سرق فاقطعوه ، عم القطع مع خصوص سببه ، ولو قيل : سرق هؤلاء الجماعة ; فقال : اقطعوا سارق نصاب من حرز ، لاختص القطع به مع أن سببه أعم ; فدوران الحكم مع اللفظ عموما وخصوصا يدل على ما ذكرناه .

الوجه الثاني : أن " أكثر أحكام الشرع العامة وردت لأسباب خاصة كورود حكم الظهار في أوس بن الصامت ، وحكم اللعان في شأن [ ص: 504 ] هلال بن أمية " ; فلو كان السبب الخاص يقتضي اختصاص العام به ، لما عمت هذه الأحكام ، لكنه باطل بالإجماع .

فإن قيل : لعل هذه الأحكام عمت بدليل منفصل لا يقتضي العموم .

قلنا : الأصل عدم ذلك الدليل ، واللفظ العام صالح للتعميم ; فتجب إضافته إليه .

قوله : " قالوا " ، إلى آخره . هذه حجة الخصم على اختصاص العام بسببه وهي من وجوه :

أحدها : لولا اختصاص الحكم بسببه الخاص ، لجاز إخراجه ، أي : إخراج السبب بالتخصيص ، لكن لا يجوز إخراجه بالتخصيص ، وذلك يدل على اختصاص الحكم به .

الوجه الثاني : لولا اختصاص الحكم بسببه ، لما نقل الراوي السبب ; لأن نقله على هذا التقدير يكون عديم الفائدة ، إذ لا فرق بين نقله وعدم نقله [ ص: 505 ] في عموم الحكم ، لكن لما نقل الرواة أسباب الأحكام ، وحافظوا على نقلها ، دل ذلك على اختصاص الحكم بالسبب .

الوجه الثالث : لولا اختصاص الحكم بسببه ، لما أخر بيان الحكم إلى وقوع السبب ، بل كان يكون تقديم بيان الحكم قبل وقوع سببه أولى ، ليصادف السبب عند وقوعه حكما مبينا مستقرا ، لكن التقدير أن بيان الحكم تأخر إلى حين وقوع سببه ; فدل على اختصاصه به .

الوجه الرابع : أن الحكم الوارد على سبب جواب له ، وجواب السؤال يجب أن يكون مطابقا له ، وإنما يكون ذلك باختصاص الحكم بمحل السبب .

قوله : " قلنا " ، إلى آخره . هذا جواب الأسئلة المذكورة .

أما عن الأول ، وهو قولهم : لولا اختصاص الحكم بسببه ، لجاز إخراجه بالتخصيص ; فبوجهين :

أحدهما : في " المختصر " ، وهو أن " السبب أخص بالحكم من غيره " ، لاقتضائه له " فلا يلزم جواز تخصيصه " ، مثال ذلك أن هلال بن أمية لما قذف امرأته ، كان قذفه لها سببا لنزول آية اللعان ، وله بها اختصاص السبب بالمسبب ; فلو قيل : لا تلاعن أنت وليلاعن غيرك من الناس ; لتعطلت قضيته مع أنها سبب ورود الحكم ، وفي هذا الجواب نظر .

والمختار في الجواب : الوجه الثاني : وهو التزام جواز تخصيص محل [ ص: 506 ] السبب إذا قام دليله ، إذ التخصيص إنما يكون بدليل ، ولو قام الدليل الشرعي على أن اللعان غير مشروع في حق هلال بن أمية ، وحكم الظهار غير مشروع في حق أوس بن الصامت ، لجاز ، ولم يلزم منه محال عقلا ولا شرعا ، وتعطل قضيتهما غير لازم ، لجواز أن يحكم الشرع فيهما بحكم غير اللعان والظهار ، بحسب ما يرد به أمر الشرع . ولو سلمنا تعطل قضيتهما من حكم ، لم يمتنع لجواز ردهما في ذلك إلى ما قبل الشرع من عدم الحكم حتى يرد الشرع بحكم ، لكن يلزم على هذا تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز .

وأما عن الثاني - وهو قولهم : لولا اختصاص الحكم بسببه ، لما نقله الراوي ، لعدم فائدته - ; فبأن نقول : لا نسلم أن نقل السبب لا فائدة له ، بل له فوائد :

منها : بيان أخصية السبب بالحكم ، أي : أن السبب أخص بالحكم من غيره من صوره ; فيمتنع تخصيصه على ما سبق فيه .

ومنها : معرفة تاريخ الحكم بمعرفة سببه ، مثل أن يقال : قذف هلال بن أمية امرأته في سنة كذا ; فنزلت آية اللعان ; فيعرف تاريخها بذلك ، وفي معرفة التاريخ فائدة معرفة الناسخ من المنسوخ كما سبق .

ومنها : توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها ; فيكثر ثواب المصنفين ، كالذين صنفوا أسباب نزول القرآن ، والمجتهدين بسعة محل اجتهادهم .

[ ص: 507 ] ومنها : التأسي بوقائع السلف وما جرى لهم ; فيخف حكم المكاره على الناس ، كمن زنت زوجته فلاعنها ; فهو يتأسى بما جرى لهلال بن أمية . وعويمر العجلاني في ذلك ، ويقول : هؤلاء خير مني ، وقد جرى لهم هذا ; فلي أسوة بهم .

ومنها : أن نقل السبب يؤثر شبهة في وقوع مثل هذا الخلاف في هذه المسألة ; فإنه لو لم ينقل السبب ، لما اتسع للخصم أن يدعي اختصاص الحكم ، وهو ، يعني الخلاف في المسائل العملية ، رحمة واسعة وتخفيف ، لما قررناه في القواعد الصغرى . إلى غير ذلك من الفوائد التي يمكن استخراجها من نقل السبب ، وإذا كان لنقله هذه الفوائد ، لم يصح قولكم : إن نقله عديم الفائدة ، لولا اختصاصه بسببه حتى يلزم من نقله اختصاص الحكم به .

وأما عن الثالث ، وهو قولهم : لولا اختصاص الحكم بسببه ، لما تأخر بيان الحكم إلى وقوعه ; فبأن نقول : تأخير بيان الحكم إلى وقوع السبب من متعلقات العلم الأزلي ، أي : مما تعلق به العلم الأزلي ، وتعلق الأزلي بالشيء لا يعلل ، كتخصيص وقت إيجاد العالم به ; فلا يقال : لم تأخر بيان اللعان إلى وقت قذف هذا الرجل امرأته ، ولم يرد قبل ذلك أو بعده ، [ ص: 508 ] كما لا يقال : لم أوجد الله عز وجل هذا العالم في هذا الوقت الذي أوجده فيه دون ما قبله أو بعده ؟

وكذلك ما تعلق بتخصيص الإرادة الأزلية ، نحو : لم خلق الله هذا طويلا وهذا قصيرا ، وكان هذا الجبل هاهنا ولم يكن هاهنا ؟ . وأشباه ذلك لا يجوز ; لأنه تحكم على الله عز وجل وصفاته ، واعتراض غير جائز .

قوله : " وإلا انتقض بالأحكام الابتدائية الخالية عن أسباب " ، أي : لو جاز أن يقال : لم اختص ورود هذا الحكم بوقت وقوع هذا السبب دون ما قبله وبعده ؟ لجاز أن يقال في الحكم الوارد ابتداء لا على سبب : لم ورد الآن دون ما قبله ؟ فكأن يقال : لم فرضت الصلاة سنة دون ما قبلها وبعدها ، وكذلك في الصوم والحج وغير ذلك من الأحكام ، لكن هذا لا يجوز ; فكذلك السؤال عن الحكم السببي لم اختص بوقت سببه لا يجوز .

وأما عن الرابع ، وهو أن الحكم جواب سؤال فتجب مطابقته له ; فبأن نقول : إن عنيتم بمطابقة الحكم سببه أن لا يكون أعم منه ولا أخص ; فلا نسلم ذلك ، وإن عنيتم بالمطابقة أن يكون الجواب متناولا محل السؤال والسبب ; فهو صحيح ، لكنه لا ينافي كون الجواب أعم من سببه ، إذ لا يبعد أن يقصد الشارع بالزيادة عن محل السبب تمهيد الحكم وتقريره في المستقبل ، كما إذا قيل : " زنى فلان أو سرق فلان ; فقال : من زنى ; فارجموه ، ومن سرق فاقطعوه " ، فإن فلانا قد دخل في عموم من ، وتناوله الجواب ، ولم يناف ذلك تقرير حكم القطع في حق غيره ، والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية