صفحة جزء
[ ص: 509 ] الثالثة : نحو : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن المزابنة وقضى بالشفعة ، يعم ، خلافا لقوم .

لنا : إجماع الصحابة وغيرهم من السلف على التمسك في الوقائع بعموم مثله أمرا ونهيا وترخيصا . وهم أهل اللغة .

قالوا : قضايا أعيان فلا تعم ، ثم يحتمل أنه خاص فوهم الراوي ، والحجة في المحكي ، لا في لفظ الحاكي .

قلنا : قضايا الأعيان تعم بما ذكرناه ، وبحكمي على الواحد ، والأصل عدم الوهم . والحجة في عموم اللفظ كما سبق . ولا احتمال للإجماع المذكور ، ولأصالة عدمه .


المسألة " الثالثة : نحو : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن المزابنة وقضى بالشفعة يعم خلافا لقوم " ، أي : قول الراوي : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن كذا ، وقضى بكذا ، يقتضي العموم ، أي : يصح التمسك به في العموم في أمثال تلك القضية المحكية ، نحو : نهى عن بيع الغرر ، وقضى بالشفعة ، وحكم بالشاهد واليمين ، خلافا لقوم منهم إمام الحرمين ، والإمام فخر [ ص: 510 ] الدين ، وأكثر الأصوليين ; فيما حكاه الآمدي ، واختار هو صحة الاحتجاج به على العموم .

قوله : " لنا " ، أي : على صحة التمسك بها في العموم أن الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من السلف أجمعوا على التمسك في الوقائع بعموم مثل هذا اللفظ في الأمر والنهي والترخيص ، نحو : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بوضع الجوائح ، ورجع ابن عمر إلى حديث رافع بن خديج رضي الله عنهما : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن المخابرة ، وأخذوا بحديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن المزابنة والمحاقلة ، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه . وبحديث زيد : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في العرايا . وأشباه ذلك كثير ، وإجماعهم [ ص: 511 ] على ذلك دليل على صحة التمسك به في العموم .

قوله : " قالوا : قضايا أعيان " ، إلى آخره . هذا دليل من منع العموم في هذه الصيغ ، وتقريره : أن هذه قضايا أعيان ، أي : قضايا وأحكام وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم ، في محال معينة ; فحكاها الرواة عنه ; فلا عموم في لفظها ، ولا في معناها ; فلا تقتضي العموم ، ثم إن الخطاب ، أو الحكم في تلك الوقائع يحتمل أنه كان خاصا بشخص ; فوهم الراوي ; فظن أنه عام ، كما قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ، جعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادتين ، ولم يجز التمسك به في العموم ، وإذا احتمل ما ذكرناه ، لم يصح التمسك به في العموم مع تعارض الاحتمال ، ولأن الحجة ليست في لفظ الحاكي وهو الراوي ، إنما الحجة في المحكي ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فعله ، نحو : أمر وقضى وحكم ، وذلك لا عموم فيه ; لأن الإخبار عن ذلك يصدق بوقوعه مرة واحدة ، أي : يصح فيمن أمر مرة واحدة أن يقال : أمر ، وفيمن حكم مرة واحدة ، أو قضى مرة واحدة أن يقال : حكم ، وقضى ، وحينئذ لا يبقى على العموم دليل .

قوله : " قلنا " ، إلى آخره . هذا جواب دليلهم . وتقريره أن يقال : [ ص: 512 ] قولكم : قضايا أعيان ; فلا تعم ، " قلنا : قضايا الأعيان تعم بما ذكرناه " ، من إجماع السلف على التمسك بها في العموم ، وبقوله عليه السلام : حكمي على الواحد حكمي على الجماعة .

وقولكم : يحتمل أن الخطاب خاص ; فوهم الراوي ; فظنه عاما .

قلنا : الأصل عدم الوهم ، والظاهر من الصحابي العدل العارف بدلالات الألفاظ أنه لا ينقل ما يشعر بالعموم إلا وهو عالم بوجوده ، وإلا كان مدلسا ملبسا في الدين ، وهو بعيد عنه جدا وبهذا يسقط قولهم : الحجة في المحكي لا في لفظ الحاكي ، بل الحجة في عموم لفظ الحاكي كما سبق في المسألة قبلها من أن العبرة بعموم اللفظ .

قلت : لكن للخصم أن يقول : عموم اللفظ معتبر إذا كان لفظ الشارع ، وهاهنا ليس كذلك ، بل هو لفظ الحاكي عن الشارع ، وهو فرق صحيح ; فالأولى ما ذكرناه آنفا من أن عموم لفظ الحاكي معتبر ; لأن الظاهر أنه فهم العموم ، وإلا كان ملبسا .

قوله : " ولا احتمال " أي : ليس هاهنا احتمال لا في فهم الراوي العموم من الخطاب الخاص ولا في لفظه لوجهين :

أحدهما : الإجماع المذكور من السلف على التمسك به في العموم ، وذلك ينفي الاحتمال ، أو ينفي كونه معتبرا ، وإلا وقع الخطأ في الإجماع .

الوجه الثاني : أن الأصل عدم الاحتمال . وهذا معنى قوله : " ولا احتمال [ ص: 513 ] للإجماع المذكور ، ولأصالة عدمه " ، أي : عدم الاحتمال .

قلت : قد وقع في أثناء البحث في المسألة ما يشعر بأن النزاع فيها لفظي من جهة أن المانع للعموم ينفي عموم لفظ الصيغ المذكورة ، نحو : أمر وقضى وحكم ، وهو صحيح كما تقرر ، والمثبت للعموم يثبته فيها من دليل خارج ، وهو إجماع السلف على التمسك بها ، وقوله عليه السلام : حكمي على الواحد حكمي على الجماعة . فظهر أن دليل الخصمين ليس متواردا على محل واحد . والأقرب أن يقال : إن التعميم في المسألة حاصل بطريق القياس الشرعي ، كما قال أبو زيد الدبوسي في . . .

وبيان ذلك أنا إذا رأينا النبي صلى الله عليه وسلم ، قد حكم بحكم ، أو قضى بقضاء في واقعة معينة ، ثم حدثت لنا واقعة مثلها سواء ، قلنا : الحكم فيها كذا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، حكم به في واقعة كذا ، وهذه الواقعة مثلها ; فليكن الحكم فيها كذلك ; لأن حكم المثلين واحد . أما أن يكون قضاؤه عليه السلام بحكم في واقعة معينة منزلا منزلة قوله : هذا الحكم هو حكم الله في هذه الواقعة ونظائرها ، أو كلما وقعت هذه الواقعة ; فاحكموا فيها بهذا الحكم ; فهذا بعيد جدا والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية