صفحة جزء
[ ص: 514 ] الرابعة : خطاب الناس ، والمؤمنين ، والأمة ، والمكلفين يتناول العبد لأنه منهم . وخروجه عن بعض الأحكام لعارض ، كالمريض ، والمسافر ، والحائض . ويدخل النساء في خطاب الناس ، وما لا مخصص لأحد القبيلين فيه ، كأدوات الشرط دون ما يخص غيرهن ، كالرجال والذكور . أما نحو : المسلمين ، وكلوا واشربوا [ البقرة : 187 ] ; فلا يدخلن فيه عند أبي الخطاب والأكثرين ، خلافا للقاضي ، وابن داود ، وبعض الحنفية ، فإن أرادوا بدليل خارج أو قرينة فاتفاق . وإلا فالحق الأول .

لنا : القطع باختصاص الذكور بهذه الصيغ لغة ، وقول أم سلمة : يا رسول الله ، ما بال الرجال ، ذكروا ولم تذكر النساء ; فنزل : إن المسلمين والمسلمات [ الأحزاب : 35 ] ; ففهمت عدم دخولهن في لفظ المؤمنين وهي من أهل اللغة ، وإلا لما سألت ، ولكان ( والمسلمات ) ونحوه تكرارا .

قالوا : متى اجتمعا ، غلب المذكر . ولو أوصى لرجال ونساء ، ثم قال : أوصيت لهم ، دخلن ، وأكثر خطاب الله تعالى للقبيلين بالصيغ المذكورة .

قلنا : بقرائن ، لشرف الذكورية ، والإيصاء الأول .


المسألة " الرابعة : خطاب الناس " ، أي : الخطاب الوارد مضافا إلى الناس " والمؤمنين ، والأمة والمكلفين " نحو : يا أيها الناس [ البقرة : 21 ] ، وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون [ النور : 31 ] ، كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] ، ونحو ذلك يتناول العبد ، أي : يدخل فيه العبد لأنه منهم ، أي : من الناس والمؤمنين والأمة والمكلفين .

" وخروجه عن بعض الأحكام " ، كوجوب الحج والجهاد والجمعة إنما هو لأمر عارض ، وهو فقره واشتغاله بخدمة سيده ونحو ذلك ، " كالمريض والمسافر والحائض " ، يتناولهم الخطاب المذكور ، ويخرجون عن بعض الأحكام ، [ ص: 515 ] كوجوب الصوم والصلاة على الحائض ، ووجوب الصوم ، وإتمام الصلاة على المسافر ، ووجوب الصوم على المريض لأمر عارض وهو المرض والسفر والحيض .

" ويدخل النساء في خطاب الناس ، وما لا مخصص لأحد القبيلين " : يعني الرجال والنساء ; " فيه كأدوات الشرط " ، نحو : من رأيت ; فأكرمه ; فإنه يتناول النساء " دون ما يخص غيرهن كالرجال والذكور " فإنه لا يتناولهن ; لأنهن لسن رجالا ولا ذكورا .

" أما نحو المسلمين " ، والمؤمنين ، " وكلوا واشربوا ; فلا يدخلن فيه عند أبي الخطاب والأكثرين " ، منهم الشافعية والأشاعرة وجماعة من الحنفية والمعتزلة ، وهو اختيار الآمدي ، " خلافا للقاضي " أبي يعلى ، " وابن داود وبعض الحنفية " حيث قالوا : يدخلن فيه .

قلت : تلخيص محل النزاع ظاهر مما ذكر ، وأزيده ظهورا بأن أقول : ما اختص بأحد القبيلين من الألفاظ لا يتناول الآخر ، كالرجال والذكور والفتيان والكهول والشيوخ لا يتناول النساء ، والنساء والإناث والفتيات والعجائز لا يتناول الرجال ، وما وضع لعموم القبيلين ، دخلا فيه ، نحو : الناس والبشر والإنسان إذا أريد به النوع أو الشخص وولد آدم وذريته ، وأدوات الشرط ، نحو : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ فصلت : 46 ] ، و من صلى البردين دخل الجنة .

أما قوله عز وجل : يابني آدم [ الأعراف : 26 ] ; فهو في الوضع للذكور ، لكن يتناول الإناث بطريق التغليب عادة ، وكذا لو وصى لبني [ ص: 516 ] تميم ونحوها من القبائل الكبار يتناول النساء لذلك ، بخلاف بني زيد أو عمرو ممن ليس أبا لقبيلة .

وأما قوله عليه السلام : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج . فهو في الأصل للذكور ; لأن الشاب يجمع على شبان وشباب ، وفي المؤنث يقال : شابة وشابات ; فهو كمسلم ومسلمات . نعم يتناول النساء بعموم العلة ، وهو أن شهوة النكاح غريزة في القبيلين ، وكل منهم محتاج إلى قضائها .

وأما جمع المذكر السالم وضمير الجمع المتصل بالفعل ، نحو : المسلمين ، وكلوا واشربوا ، وقاموا وقعدوا ، ويأكلون ويشربون ; ففيه النزاع المذكور .

قوله : " فإن أرادوا بدليل خارج أو قرينة ; فاتفاق ، وإلا فالحق الأول " ، أي : إن أراد القاضي ومن وافقه بأن الإناث يدخلن في لفظ المسلمين وكلوا واشربوا بدليل منفصل ، أو قرينة تدل على دخولهن ; فهو متفق عليه بين الكل ; لأن خلاف وضع اللفظ لا يمتنع أن يدل عليه دليل ، وإن أرادوا أنهن يدخلن فيه بمقتضى اللفظ وضعا ; فليس بصحيح ، والحق الأول ، وهو قول أبي الخطاب ومن وافقه أنهن لا يدخلن في ذلك .

[ ص: 517 ] قوله : " لنا " أي : على صحة القول الأول وجوه :

أحدها : " القطع باختصاص الذكور بهذه الصيغ لغة " ، واختصاص الإناث بغيرها ، وإجماع أهل اللغة على ذلك ; فيقال : مسلمون ومسلمات ، وكلوا واشربوا في المذكر ، وكلن واشربن في المؤنث ، وقالوا : جمع المذكر السالم نحو : مؤمنون ، وجمع المؤنث السالم نحو : مؤمنات ، وإذا عبر عن كل قبيل بصيغة ، لم يتناول صيغة الآخر ; فجرى ذلك مجرى اتفاقهم على الفرق بين التثنية والجمع في التكلم والتصنيف حيث دل على أن الاثنين ليسا جمعا كما سبق .

الوجه الثاني : " قول أم سلمة : يا رسول الله ، ما بال الرجال ذكروا ولم تذكر النساء ؟ فنزل : إن المسلمين والمسلمات [ الأحزاب : 35 ] ، إلى آخره . هكذا وقع في كتب الأصول ; فلعله رواه بالمعنى أو بعض ألفاظ [ ص: 518 ] الحديث والذي روى الترمذي ، من حديث مجاهد ، عن أم سلمة قالت : يغزو الرجال ولا تغزو النساء ، وإنما لها نصف الميراث ; فأنزل الله عز وجل : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض [ النساء : 32 ] ، قال مجاهد : فأنزل الله فيها : إن المسلمين والمسلمات الآية ، قال الترمذي : هو حديث مرسل . وعن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم ; فقالت : ما أرى كل شيء إلا للرجال ، وما أرى النساء يذكرن بشيء ; فنزلت هذه الآية : إن المسلمين والمسلمات الآية . [ ص: 519 ] قال الترمذي هذا حديث حسن غريب .

ووجه الدلالة من الحديث أن المرأة من أهل اللغة ، وقد فهمت عدم دخولهن في لفظ المؤمنين ; فدل على أنه لا يتناول النساء ، إذ لو تناولهن ، لما سألت ، إذ كان يكون سؤالها خطأ ; فلا تستحق عليه جوابا ، لكنها قد أجيبت بنزول الآية .

فإن قيل : لا نسلم أنها فهمت عدم دخول النساء في لفظ المؤمنين ، وإنما فهمت عدم دخولهن في لفظ الرجال حيث قالت أم سلمة رضي الله عنها : يغزو الرجال ولا تغزو النساء . وقالت أم عمارة رضي الله عنها : ما أرى كل شيء إلا للرجال . وعدم دخول النساء في لفظ الرجال صحيح باتفاق ، لكنه ليس محل النزاع ، إنما الكلام في دخولهن في لفظ المؤمنين ونحوه .

فالجواب أن الجهاد ثبت وجوبه بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار [ التوبة : 123 ] ، وهو كقوله : يا أيها المؤمنون ، وبقوله عز وجل : وجاهدوا في الله حق جهاده [ الحج : 78 ] ، قاتلوا الذين لا يؤمنون [ التوبة : 29 ] ، اقتلوا المشركين [ التوبة : 5 ] ، ونحوها من الآيات الواردة بالألفاظ المتنازع في تناولها النساء ، ثم إن سؤالها المذكور دل على أنها فهمت عدم دخولهن فيها وهو المطلوب .

[ ص: 520 ] وأما لفظ الرجال ; فهو من كلام أم سلمة وأم عمارة ، والكلام في تناول لفظ الشارع للنساء لا لفظ غيره ، بل قولها : " يغزو الرجال ولا تغزو النساء " ، قاطع في أنها فهمت اختصاص الرجال بنحو : جاهدوا وقاتلوا ، وهو المطلوب .

الوجه الثالث : أن لفظ المؤمنين والمسلمين لو تناول النساء ، لكان قوله عز وجل : إن المسلمين والمسلمات [ الأحزاب : 35 ] الآية ونحوه مثل : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ التوبة : 71 ] ، تكرارا ، كما لو قال : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات [ الأحزاب : 35 ] ، والتكرار عبث .

فإن قيل : العبث هو التكرار لغير فائدة ، أما التكرار لفائدة ; فليس عبثا ، وفائدته هاهنا تخصيص النساء بالذكر بلفظ يخصهن ، وقد حصل ذلك بقوله تعالى : والمسلمات ; فلا يكون عبثا .

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن الآية نزلت على السبب المذكور ، وسؤال المرأة إنما كان عن عدم ذكر النساء ، لا عن عدم تخصيصهن بلفظ ; فلا يصح ما ذكرتم .

الثاني : أن بتقدير صحة ما قلتم يكون : والمسلمات تأكيدا ، وعلى ما ذكرناه يكون تأسيسا ، وفائدة التأسيس أولى لأنها أكمل .

الوجه الرابع : وليس في " المختصر " ، أن الجمع تضعيف الواحد ; فالمؤمنون تضعيف مؤمن ، وكلوا تضعيف ضمير كل ، وكما أن المؤمن وكل لا يتناول الأنثى ، ولا يدل عليها ، كذلك مؤمنون وكلوا [ ص: 521 ] لا يتناول الإناث ، ولا يدل عليهن .

فثبت بهذه الوجوه أن الإناث لا يدخلن في اللفظ المذكور .

قوله : " قالوا : متى اجتمعا " ، إلى آخره . هذا حجة القاضي وموافقيه على أن اللفظ المذكور يتناول الإناث ، وهي من وجوه :

أحدها : أنه متى اجتمع المذكر والمؤنث ، غلب المذكر في لغة العرب واستعمالهم ، كقوله عز وجل : وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو [ طه : 123 ] ، والخطاب لآدم وإبليس وحواء والحية ; فيتناولهما ضمير التذكير ، ولو قال السيد لمن بحضرته من عبيده : قوموا ، واقعدوا ، تناول جميعهم ، ولو قال : قوموا ، وقمن ، واقعدوا ، واقعدن ، لعد تطويلا وعي‍ا ولكنة ، وهذا يدل على ما ذكرناه .

الوجه الثاني : لو أوصى لرجال ونساء ، ثم قال : أوصيت لهم ، دخل النساء في الوصية الثانية مع أن " لهم " ضمير مذكر ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ; فيطرد في كل موضع .

الوجه الثالث : أن أكثر خطاب الله تعالى للقبيلين : الرجال ، والنساء بالصيغ المذكورة ، نحو : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، وبشرى للمؤمنين [ البقرة : 97 ] ، للمحسنين [ الأحقاف : 12 ] ، وبشر المؤمنين [ التوبة : 112 ] ، وبشر الصابرين [ البقرة : 155 ] ، ياأيها الذين آمنوا [ المائدة : 1 ] ، أيها المؤمنون [ النور : 31 ] ، ياعبادي الذين آمنوا [ العنكبوت : [ ص: 522 ] 56 ] ، وهو كثير ، وهو يتناول النساء باتفاق ، وإفرادهن بلفظ خاص بهن إيضاحا وتبيينا ، نحو : المسلمات والمؤمنات والأنثى ، لا يمتنع اللفظ الصالح للعموم لهن ، بل يكون ذلك من باب عطف الخاص ، نحو : وملائكته ورسله وجبريل وميكال [ البقرة : 98 ] ، وهما داخلان في الملائكة ، و فاكهة ونخل ورمان [ الرحمن : 68 ] ، وهما داخلان في الفاكهة ، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم [ الأحزاب : 27 ] ، وهما داخلان في الأموال .

قوله : " قلنا : بقرائن لشرف الذكورية ، والإيصاء الأول " .

أي : قلنا : لا نسلم أن تناول الصيغ المذكورة للنساء في الوجوه التي ذكرتموها بأصل الوضع ، بل بقرائن لشرف الذكورية في الوجه الأول والثالث ويسمى التغليب ، وهو أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث ، غلب المذكر في الخطاب لشرف الذكورية ، كما غلب القمر على الشمس في قولهم : القمران لشرف الذكورية وخفتها ; فالتغليب يقع في اللغة لمعاني : منها : شرف الذكورية ، ومنها : خفة اللفظ ، كتغليب عمر على أبي بكر رضي الله عنهما في قولهم : العمران ، لخفة الإفراد ، وكذلك لو قال : يا عبادي وإمائي الذين آمنوا ، ويا أيها الذين آمنوا واللاتي آمن ، وقوموا وقمن ، كان عيا في عرف اللغة ; فلقرينة لزوم العي من إفرادهن بالذكر حكمنا بدخولهن في الخطاب المذكور لا بوضع اللغة .

[ ص: 523 ] وكذلك في قوله : أوصيت لهم ، إنما تناول النساء بقرينة الإيصاء الأول ; فإنه لما صرح بالوصية لهن فيه ، ثم قال : أوصيت لهم ، دل على أنه أراد جميع من أوصى له أولا .

قولهم : الأصل في الإطلاق الحقيقة فيطرد .

قلنا : مع القرينة لا يثبت الإطلاق ; فلا يثبت الاطراد ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية