صفحة جزء
[ ص: 524 ] الخامسة : العام بعد التخصيص حجة خلافا لأبي ثور ، وعيسى بن أبان .

لنا : إجماع الصحابة على التمسك بالعمومات ، وأكثرها مخصوص ، واستصحاب حال كونه حجة .

قالوا : صار مستعملا في غير ما وضع له ; فهو مجاز ، ثم هو متردد بين الباقي ، وأقل الجمع وما بينهما . ولا مخصص فالتخصيص تحكم .

قلنا : لا مجاز ، إذ العام في تقدير ألفاظ مطابقة لأفراد مدلوله ; فسقط منها بالتخصيص طبق ما خصص من المعنى ; فالباقي منها ومن المدلول متطابقان تقديرا ; فلا استعمال في غير الموضوع ; فلا مجاز .

قالوا : البحث لفظي لغوي .

قلنا : بل حكمي عقلي ، وإلا فعمن نقل من العرب ، أو في أي دواوين اللغة هو ؟ ثم دعواكم المجاز مجاز ، وإلا فحقيقة المجاز في المفردات الشخصية ، وفي المركبات الإسنادية خلاف سبق لا في العامة والجموع ، وهو حقيقة عند القاضي وأصحاب الشافعي ، مجاز بكل حال عند قوم ، وقيل : إن خص بمنفصل لا متصل .

لنا ما سبق .


المسألة " الخامسة : العام بعد التخصيص حجة ، خلافا لأبي ثور وعيسى بن أبان " ، أي : اللفظ العام إذا خص بصورة فأكثر ، هل يبقى حجة فيما بقي منه غير مخصوص ؟ اختلفوا فيه . ومن أمثلته : ما لو قال : اقتلوا المشركين ، ثم قال : لا تقتلوا أهل الذمة إذا أدوا الجزية ، هل يبقى قوله : اقتلوا المشركين حجة في قتل كل مشرك عدا أهل الذمة ؟

ومنها : لو قال : فيما سقت السماء العشر ، ثم قال : ليس في [ ص: 525 ] الخضروات صدقة . هل يبقى الحديث حجة في وجوب العشر فيما عدا الخضراوات .

ومنها : إذا قال : حرمت عليكم الميتة والدم [ المائدة : 3 ] ، ثم قال : أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد ، والكبد والطحال . هل تبقى الآية حجة في تحريم ما عدا ذلك من الميتات والدماء ؟ أو لو قال : حرمت عليكم الميتة اقتضى تحريم جلدها ، ثم قال : أيما إهاب دبغ فقد طهر ; فهل [ ص: 526 ] تبقى الآية حجة في نجاسة ما عدا الجلد من الميتة أم لا ؟ ونظائره كثيرة ، وفي المسألة مذاهب :

أحدها : أن العام بعد التخصيص حجة مطلقا ، وهو مذهب غالب الفقهاء .

والثاني : ليس بحجة مطلقا ، وهو مذهب أبي ثور ، وعيسى بن أبان .

والثالث : أنه إن خص بدليل متصل كالاستثناء والشرط ; فهو حجة ، وإن خص بدليل منفصل ، لم يبق حجة ، وهو مذهب البلخي .

والرابع : إن كان العام قبل التخصيص ممكن الامتثال دون بيان ; فهو حجة بعد التخصيص ، وإلا فلا ، وهو قول القاضي عبد الجبار .

والخامس : أنه يكون حجة في أقل الجمع ، لا فيما زاد عليه ، وهو مذهب قوم من الأصوليين ، وفيه غير ذلك .

قال الآمدي : واتفقوا على امتناع الاحتجاج به إذا خص تخصيصا مجملا .

قلت : لأنه إذا خص تخصيصا مجملا ، بقي الباقي بعد التخصيص مجملا أيضا ، والعمل بالمجمل يتوقف على البيان .

عدنا إلى الكلام على ما في " المختصر " .

- قوله : " لنا " ، أي : على المذهب الأول ، وهو كونه حجة بعد التخصيص مطلقا ، وجهان :

أحدهما : أن الصحابة أجمعوا على التمسك بالعمومات ، وأكثرها مخصوص ، كاحتجاج علي رضي الله عنه على جواز الجمع بين الأختين [ ص: 527 ] بملك اليمين بقوله عز وجل : أو ما ملكت أيمانكم [ النساء : 3 ] ، مع أنه [ ص: 528 ] مخصوص بذوات المحارم إذا كن ملك يمين لا يجوز وطؤهن ، وكاحتجاج فاطمة على أبي بكر في ميراثها بعموم قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم [ النساء : 11 ] ، مع كونه مخصوصا بالكافر والقاتل ، [ ص: 529 ] وكاحتجاج العلماء على جلد الزانيين بقوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور : 2 ] مع أنه مخصوص بالمكرهة والمجنون والجاهل بتحريم الزنى إلى غير ذلك من صور احتجاجاتهم به . فثبت أن العام بعد التخصيص حجة بالإجماع المذكور ; فمن خالف بعده ; فهو محجوج به .

الوجه الثاني : استصحاب حال كون العام حجة قبل التخصيص ، وتقريره أن يقال : أجمعنا على أن العام قبل التخصيص حجة ، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يقوم الدليل الناقل عن ذلك الحال .

قلت : غير أن هذا احتجاج بالإجماع في محل الخلاف وفيه ما سيأتي إن شاء الله تعالى .

قوله : " قالوا " إلى آخره . هذه حجة الخصم على أن العام الباقي بعد التخصيص لا يكون حجة .

[ ص: 530 ] وتقريره أن العام بعد التخصيص ، يصير مستعملا في غير ما وضع له ; فيكون مجازا :

أما الأول : فلأنه كان موضوعا للاستغراق ، كالمشركين ، فإذا خص منه اليهود والنصارى ، صار مستعملا في بعض ما وضع له ، وهو غير ما وضع له ; لأنه وضع لجميع ما يصلح له ، وبعضه ليس كذلك .

وأما الثاني : فلما سبق في حد المجاز .

وإذا ثبت أن العام بعد التخصيص يبقى مجازا ; فهو متردد بين الباقي بعد التخصيص ، وأقل الجمع وما بينهما ; فيكون مجملا ، ولا مخصص لأحد الاحتمالات الثلاثة بأن يحمل اللفظ عليه ; فالتخصيص بأحدهما تحكم غير جائز .

ومثال هذا بطريق التصوير : لو قال : أكرم الرجال ، وفرضنا أنهم عشرون ; فهذا هو مدلول العام ، فإذا قال بعد ذلك : لا تكرم زيدا ، بقي اللفظ الذي كان موضوعا لعشرين مستعملا في تسعة عشر ، وهي غير العشرين ; فيكون مجازا ، ثم هو بعد ذلك متردد بين أن يحمل على التسعة عشر الباقية بعد زيد المخصوص ، أو على أقل الجمع منهم وهو ثلاثة ، أو على ما بين الثلاثة والتسعة عشر ، كالأربعة والخمسة إلى الثمانية عشر ; فيكون حمله على أحد المقادير الثلاثة تحكما .

قوله : " قلنا : لا مجاز ، إذ العام في تقدير ألفاظ مطابقة لأفراد مدلوله فسقط منها بالتخصيص طبق ما خصص من المعنى ; فالباقي منها ومن المدلول متطابقان تقديرا ; فلا استعمال في غير الموضوع له ; فلا مجاز " .

[ ص: 531 ] هذا الجواب : أنا أجيب به عن السؤال المذكور ، ولم أره لأحد ، وعبارة " المختصر " وافية به ، لكن ربما توقف تصوره على بعض الناظرين ; فيحتاج وضوحها إلى بسط وكشف .

وتقرير ذلك أنا لا نسلم أن العام بعد التخصيص مجاز ، بل هو حقيقة مستعمل في موضوعه أولا ، وذلك لأن اللفظ العام وإن كان واحدا ، لكنه في تقدير ألفاظ متعددة مطابقة لأفراد مدلوله في العدد .

مثاله : إذا قال : أكرم الرجال ، وفرضنا أن جنس الرجال عشرون ; فلفظ الرجال في تقدير عشرين لفظا يدل كل لفظ منها على رجل من العشرين ; فكأنه قال : أكرم زيدا وعمرا وبكرا وخالدا وجعفرا وبشرا . . . كذلك حتى سمى العشرين ، فإذا قال بعد ذلك : لا تكرم زيدا ، صار زيد مخصوصا من العشرين ، وسقط لفظ اسمه المطابق لمسماه تقديرا ، وهو معنى قولنا : فسقط منها بالتخصيص ، أي : من الألفاظ التقديرية طبق ما خص من المعنى ، وهو لفظ زيد المطابق لمعناه في هذه الصورة ; فيبقى معناه تسعة عشر شخصا من الرجال ، وتسعة عشر لفظا تقديرية ، هي أسماؤهم ، وتسعة عشر اسما تطابق في العدد تسعة عشر شخصا مسمى . وهذا معنى قولنا : فالباقي منها ، أي : من الألفاظ التقديرية ، ومن المدلول وهي الأشخاص ، متطابقان تقديرا .

وإذا ثبت أن لفظ العام بعد التخصيص مطابق لمدلوله في التقدير ; فهو [ ص: 532 ] مستعمل فيما وضع له تقديرا ; فلا يكون مستعملا في غير موضوعه ، وإذا لم يكن مستعملا في غير موضوعه ، كان مستعملا في موضوعه ، إذ لا واسطة بين الموضوع وغير الموضوع . وحينئذ يكون حقيقة لا مجازا ، وينتفي الإجمال المذكور ; فلا يكون حمله على الباقي بعد صورة التخصيص تحكما بل واجبا بحكم الوضع الأصلي الثابت تقديرا ، وصار قوله في المثال المذكور : أكرم الرجال بمثابة قوله : أكرم الرجال التسعة عشر فلانا وفلانا . . . حتى يأتي على أسمائهم . فهذا غاية الإفصاح عن جواب السؤال المذكور بموجب عبارة " المختصر " .

قوله : " قالوا : البحث لفظي لغوي " ، هذا سؤال من الخصم على تقريرنا المذكور لجواب دعواهم المجاز في العام المخصوص .

وتقريره أن البحث في العام بعد التخصيص لفظي لغوي أي هو من جهة اللفظ ، واستفادته من جهة اللغة ، وما قررتموه من أن العام في تقدير ألفاظ مطابقة لأفراد مدلوله هو تقدير عقلي ; فما أجبتم عن دعوانا المجاز من حيث ينبغي الجواب . وحينئذ يكون جوابكم وتقريركم المذكور متناقضا ، ويبقى دليلنا على أن العام بعد التخصيص مجاز سالما عما يبطله ; فثبت ما ذكرناه من إجماله وأنه ليس بحجة .

[ ص: 533 ] قوله : " قلنا " ، أي : الجواب عن هذا السؤال أنا لا نسلم أن البحث في العام المذكور لفظي لغوي ، بل هو حكمي عقلي ، أي : النظر فيه من جهة الحكم ، فإن النزاع في كونه حجة بعد التخصيص وهو حكم من أحكام العام لا لفظ من ألفاظه ، ويتوصل إليه بالعقل بواسطة مقدمات لغوية ، أو بغير واسطة ، " وإلا " أي : وإن لم يكن البحث هاهنا حكما عقليا ، بل لفظيا لغويا كما زعمتم ; " فعمن نقل من العرب " أن العام بعد التخصيص مجاز كما زعمتم ، أو في أي دواوين اللغة هو ؟ فإن من يدعي في اللغة شيئا لا بد أن ينقله عن أهل اللغة أو يعزوه إلى دواوينهم ، وما لا يتلقى عن أهل اللغة ودواوينها لا يكون منها في شيء . نعم ، الكلام يشتمل على لفظ ومعنى ; فحظ اللغوي النظر في ألفاظه ببيان ما وضعت له ، كقوله : العموم : الشمول ، والعام : الشامل ، والتخصيص : تمييز شيء عما شاركه بحكم ، وحظ النحوي بيان ما يستحقه من الحركات اللاحقة لآخره إعرابا أو بناء ، وحظ التصريفي بيان وزنه ، وصحيحه من معتله ، وأصله من زائده أو بدله ، وغير ذلك من أحكامه .

أما كون العام بعد التخصيص حجة أو ليس بحجة ، أو حقيقة ، أو مجازا ; فهذا ليس حظ واحد من هؤلاء ، بل حظ الأصولي ، والأصولي موضوع عمله المعنى ، وإنما ينظر في الألفاظ بطريق العرض في مبادئ الأصول ، كما سبق في اللغات ; فثبت بهذا أن البحث في مسألة النزاع حكمي عقلي ، وأن ما قررناه في جواب دعواكم أن العام بعد التخصيص مجاز صحيح .

[ ص: 534 ] قوله : " ثم دعواكم المجاز مجاز " إلى آخره ، أي : تسميتكم العام بعد التخصيص مجازا هو مجاز أيضا ، لكونكم رأيتموه مستعملا في غير ما وضع له ، وذلك لأن حقيقة المجاز ، أي : إنما يطلق المجاز على التحقيق في المفردات الشخصية ، كالأسد على الرجل الشجاع ، والبحر على الرجل الجواد ، وفي المركبات الإسنادية خلاف سبق ، نحو : وأخرجت الأرض أثقالها [ الزلزلة : 2 ] ، وأحياني اكتحالي بطلعتك ، وقد يعارضون هذا بما قرروا به أن العام بعد التخصيص مجاز .

قوله : " وهو " يعني العام بعد التخصيص " حقيقة عند القاضي وأصحاب الشافعي ، مجاز بكل حال عند قوم . وقيل : إن خص " بدليل " منفصل " ، كان مجازا ، وإن خص بدليل متصل ، كان حقيقة ; لأن الدليل المتصل مع العام المخصوص كالشيء الواحد ; فهو كالاستثناء ، إذا قال : رأيت الرجال إلا زيدا هو حقيقة لا مجاز .

هذا هو المذكور من الأقوال في هذه المسألة في " المختصر " وأصله .

وذكر الآمدي أقوالا :

أحدها : أن العام بعد التخصيص حقيقة في الباقي ، وهو مذهب الحنابلة ، وجماعة من أصحاب الشافعي .

وثانيها : أنه مجاز ، وهو مذهب الغزالي ، وجماعة من أصحاب الشافعي ، وأصحاب أبي حنيفة .

[ ص: 535 ] وثالثها : إن كان الباقي بعد التخصيص جمعا ; فهو حقيقة ، وإن لم يكن جمعا ; فهو مجاز ، وهو قول أبي بكر الرازي ، وجماعة من الحنفية بناء على أنه لا يجوز أن ينقص العام المخصوص عن أقل الجمع .

ورابعها : إن خص بدليل متصل من شرط أو استثناء ; فهو حقيقة ، وإن خص بدليل منفصل ; فهو مجاز ، وهو قولالقاضي أبي بكر وجماعة معه .

وخامسها : إن كان المخصص شرطا أو تقييدا بصفة ; فهو حقيقة ، وإلا فهو مجاز حتى في الاستثناء ، وهو قول القاضي عبد الجبار .

وسادسها : إن كانت القرينة المخصصة مستقلة بنفسها ; فهو مجاز ، وإلا فهو حقيقة . وهذا معنى قول القاضي أبي بكر .

وسابعها : إن خص بدليل لفظي ; فهو حقيقة في الباقي ، وإن خص بدليل عقلي ; فهو مجاز ، وهو مذهب قوم من الأصوليين .

وثامنها : أنه يكون حقيقة في تناول الباقي ، مجازا في الاقتصار عليه ، وهو مذهب آخرين منهم ، وهو أفقه المذاهب في المسألة . ومعناه أنا إذا قلنا : أكرم الرجال إلا زيدا ; فلفظ الرجال يتناول من عدا زيدا منهم بالوضع ، كما كان يتناول ذلك قبل التخصيص ; فيكون حقيقة في التناول المذكور . وأما اقتصار لفظ الرجال على الدلالة على من سوى زيد ; فهو مجاز ; لأن حقه بالوضع أن يدل على زيد أيضا ، فلما خرج زيد بالتخصيص ، صار اقتصارا بدلالة اللفظ على من عداه على خلاف ما يستحقه بالوضع ; فسبب التجوز إنما دخل على اللفظ من حيث اقتصاره على ما عدا صورة التخصيص ، لا من حيث تناوله له فهو إذن حقيقة من وجه ، مجاز من وجه .

[ ص: 536 ] - قوله : " لنا ما سبق " ، أي : لنا على أن العام بعد التخصيص حقيقة ; ما سبق في تقرير كونه حجة من أن اللفظ العام في تقدير ألفاظ متعددة مطابقة لأفراد مدلوله ; فيسقط منها بالتخصيص طبق ما خص من المدلول ; فيبقى الباقي منها ومن المدلول متطابقا مستعملا في موضوعه تقديرا ، وقد سبق تقريره وتصويره والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية