صفحة جزء
[ ص: 550 ] الخاص

الخاص : اللفظ الدال على شيء بعينه .

والتخصيص : بيان المراد باللفظ . أو بيان أن بعض مدلول اللفظ غير مراد بالحكم ، وهو جائز بدليل : خالق كل شيء [ الزمر : 62 ] ، تدمر كل شيء [ الأحقاف : 25 ] .

والمخصص هو المتكلم بالخاص ، وموجده .

واستعماله في الدليل المخصص مجاز .

والمخصصات تسعة :

الأول : الحس كخروج السماء والأرض من : تدمر كل شيء حسا .

الثاني : العقل ، وبه خص من لا يفهم من عموم النص نحو : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] .

ووجوب تأخر المخصص ، وصحة تناول العام محل التخصيص ممنوع .

الثالث : الإجماع لقطعيته ، واحتمال العام وهو دليل نص مخصص .


قوله : " الخاص " .

أي : هذا بيان أحكام الخاص والتخصيص والكلام عليهما ، والخاص : هو " اللفظ الدال على شيء بعينه " لأنه مقابل العام ، والعام يدل على أشياء من غير تعيين ; فوجب أن يكون الخاص ما ذكرناه ; فالعام ، كالرجال . والخاص ، كزيد ، وعمرو ، وهذا الرجل .

قوله : " والتخصيص : بيان المراد باللفظ ، أو بيان أن بعض مدلول اللفظ غير مراد بالحكم " ، هذان تعريفان للتخصيص متساويان .

مثال ذلك أن قوله سبحانه وتعالى : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ ص: 551 ] [ المائدة : 5 ] ، مخصص لقوله عز وجل : ولا تنكحوا المشركات [ البقرة : 221 ] ; فهو مبين أن المراد بالمشركات ما عدا الكتابيات ، أو أن بعض مدلول المشركات غير مراد بالتحريم ، وهن الكتابيات .

قوله : " وهو " ، يعني التخصيص ، جائز . قال الشيخ أبو محمد : لا نعلم اختلافا في جواز تخصيص العموم .

قلت : لأنه بيان كما ذكر في حده ، والبيان لا خلاف فيه على ما ذكر في بيانه ، بخلاف النسخ ; فإنه رفع وإبطال ; فاتجهت الشبهة في وقوعه .

قوله : " بدليل " ، أي : التخصيص جائز بدليل قوله عز وجل : وخلق كل شيء [ الأنعام : 101 ] ، خالق كل شيء [ الأنعام : 102 ] ، وهو مخصوص بذاته سبحانه وتعالى وصفاته ، إذ ليست مخلوقة . وقوله سبحانه وتعالى في صفة الريح التي أهلكت عادا : تدمر كل شيء بأمر ربها [ الأحقاف : 25 ] ، وهو مخصوص بأشياء كثيرة لم تدمرها ، كالسماوات والأرض .

قلت : هذه الآية يحتج بها الأصوليون على إطلاق العام وإرادة الخاص ، ولا حجة فيها ; لأنها جاءت في موضع آخر مقيدة بما يمنع الاستدلال بها على ذلك ، وهو قوله عز وجل : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ الذاريات : 41 ، 42 ] ، والقصة واحدة ; فدل على أن قوله : تدمر كل شيء مقيد بما أتت عليه ، كأنه سبحانه قال : تدمر كل شيء أتت عليه ، وحينئذ يكون التدمير مختصا [ ص: 552 ] بذلك ; فتكون الآية خاصة أريد بها الخاص ; فلا يصح الاحتجاج بها على ما يذكرون .

قوله " والمخصص : هو المتكلم بالخاص وموجده ، واستعماله في الدليل المخصص مجاز " . يعني أن المخصص يستعمل حقيقة ومجازا ; فالمخصص حقيقة هو المتكلم بالخاص ، وهو الله تعالى ورسوله إذا صدر ذلك عنهما ، ووجد منهما ، والمخصص مجازا هو ذلك الكلام الخاص المبين للمراد بالعام ; فالله هو المخصص بالحقيقة ، لنكاح الكتابيات من عموم نكاح المشركات ، وقوله عز وجل : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة : 5 ] ، يسمى مخصصا بعرف الاستعمال مجازا ، وذلك لأن التخصيص فعل ، والمخصص اسم فاعل ، والفعل إنما يصدر حقيقة عن فاعل حقيقي ، أما إسناده إلى الكلام ونحوه مما ليس بفاعل حقيقي ; فهو مجاز ، وجرى ذلك مجرى ما سبق من أن الناسخ بالحقيقة هو الله ، وإطلاق الناسخ على بعض النصوص مجاز .

قوله : " والمخصصات " ، أي : والأدلة المخصصات ، يعني أدلة التخصيص " تسعة " :

- " الحس "
، أي : أحدها الحس ، " كخروج السماء والأرض من " قوله عز [ ص: 553 ] وجل في صفة الريح العقيم : تدمر كل شيء بأمر ربها [ الأحقاف : 25 ] ; فإننا علمنا بالحس أنها لم تدمر السماء والأرض مع أشياء كثيرة ; فكان الحس مخصصا لذلك .

قلت : وفي الاستدلال بالآية الكريمة نظر كما سبق في صدر الباب .

" الثاني " : من المخصصات : العقل ، وبه خص من لا يفهم من عموم النص ، نحو : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] ، ونحو قوله عز وجل : ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ البقرة : 21 ] ، فإن هذا الخطاب يتناول بعمومه من لا يفهم من الناس ، كالصبي والمجنون ، لكنه خرج بدليل العقل ; فكان مخصصا للعموم به ، ودليل العقل المخصص له ما سبق في شروط التكليف .

قوله : " ووجوب تأخر المخصص وصحة تناول العام محل التخصيص ممنوع " هذا جواب عن سؤالين مقدرين ، أوردا على كون العقل مخصصا للعموم :

أحدهما : أن التخصيص بيان كما ذكر في حده ; فالمخصص مبين والمبين يجب أن يكون متأخرا عن المبين ، والعقل سابق في الوجود على أدلة السمع ; فلا يكون مبينا لها ; فلا يكون العقل مخصصا للعموم ، كالاستثناء المقدم ، وكما لا يجوز النسخ بدليل العقل .

[ ص: 554 ] السؤال الثاني : أن محل التخصيص لا بد وأن يصح تناول العام له ، بدليل أنه لو لم يرد المخصص ، وجب حمل اللفظ على عمومه ، لكن ما لا يصح وقوعه عقلا ، لا يصح تناول اللفظ له لغة ولا إرادة المتكلم له . وحينئذ لا عموم في اللفظ ; فلا تخصيص .

ومثاله أن ذات الباري وصفاته لا يصح خلقها عقلا ; فلا يكون قوله عز وجل : وخلق كل شيء [ الأنعام : 101 ] متناولا لها لغة ; فلا يكون هذا الكلام عاما ; فلا يكون العقل مخصصا له . هذا تقرير السؤالين ، والجواب عنهما بالمنع :

أما عن الأول ; فبأن حق المخصص أن يكون متأخرا من جهة كونه مبينا لا من جهة كونه موجودا ، والعقل إنما سبق أدلة السمع من جهة كونه موجودا . أما من جهة كونه مبينا لها ; فلا نسلم .

وتحقيق هذا ، أن دليل العقل موجود دائم الوجود ; فالموجود منه بعد ورود أدلة السمع هو اللاحق لها بالتخصيص والبيان ، أما السابق عليها ; فلا ، ويرجع حاصل الأمر إلى أنه مخصص من جهة ما تأخر من وجوده عن أدلة السمع ، لا من جهة ما تقدم منه عليها ، وعلى هذا لا يرد علينا الاستثناء المقدم . لأنه متقدم بوجوده وبيانه ، والعقل إنما تقدم أدلة السمع بوجوده ، وتأخر ببيانه .

ثم الفرق بين الاستثناء المقدم والعقل : أن الاستثناء المقدم لا يعد كلاما ولا الناطق به متكلما ، كمن قال : إلا زيدا ، ثم قال بعد ذلك : قام [ ص: 555 ] القوم ، بخلاف دليل العقل ; فإنه يدل على أن ذات البارئ غير مخلوقة قبل دليل السمع وبعده ، والمستعمل له يعد مستدلا في الحالين . وأما امتناع النسخ بدليل العقل ; فلأن النسخ إما رفع الحكم ، أو بيان انتهاء مدة الحكم ، ولا قوة للعقل على واحد منهما ، إنما ذلك إلى الشرع ، بخلاف التخصيص ; فإنه بيان ، والعقل يصح أن يكون مبينا لمراد المتكلم بلفظه .

وأما عن الثاني . فبأنا لا نسلم أن محل التخصيص يجب أن يصح تناول العام له .

قوله : لو لم يرد المخصص . وجب حمل اللفظ على عمومه .

قلنا : هذا محل النزاع ، بل إنما يجب حمل اللفظ على ما يصح تناوله له . أما ما لا يصح أن يتناوله عقلا ; فلا يحمل عليه بدليل العقل النافي للصحة ، وعدنا إلى رأس المسألة .

ثم قوله : ما لا يصح وقوعه عقلا لا يصح تناول اللفظ له لغة .

قلنا : لا نسلم ، وإنما الممتنع إرادة المتكلم المعصوم له . وحينئذ لا يمتنع أن ما لا يصح وقوعه عقلا يتناوله اللفظ لغة ، ويبين العقل أنه غير مراد للمتكلم المعصوم وهو المطلوب .

وإنما قيدنا هذا بالمتكلم المعصوم ; لأن غير المعصوم يصح منه أن يريد بلفظ العام ما لا يصح وقوعه ، لكنه يكون كاذبا فيه ; لأنه ليس معصوما من الكذب ، وباب الكذب مفتوح لمن أراده ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

الثالث : من مخصصات " العموم الإجماع ، لقطعيته ، واحتمال العام " ، أي : لأن الإجماع قاطع شرعي ، والعام ظاهر ; لأنه إنما يدل على ثبوت [ ص: 556 ] الحكم لكل فرد من أفراده بطريق الظهور لا بطريق القطع . وإذا اجتمع القاطع والظاهر كان القاطع متقدما .

قوله : " وهو " ، يعني الإجماع ، " دليل نص مخصص " ، أي : أن الإجماع المخصص يدل على وجود نص مخصص ، كما أنه يدل على الناسخ ، والأصل فيه ما يذكر إن شاء الله تعالى في الإجماع ، أنه لا يكون إلا عن مستند ; فهو يدل على مستنده ، والتخصيص والنسخ مضاف إلى ذلك المستند ، فإذا رأينا الإجماع منعقدا على العمل في بعض صور العام بخلاف مقتضى العموم ، علمنا أن هناك نصا على ذلك العمل .

مثاله : أن الدليل العام دل على أن المعاوضات لا بد فيها من العوض المعلوم ، ثم رأينا الناس مجمعين على دخول الحمامات وركوب السفن بغير تعيين عوض ; فاستدللنا بذلك على وجود دليل مخصص لهذه الصورة وما كان من أمثالها ، وهو ما ذكر في الاستحسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية