صفحة جزء
[ ص: 557 ] الرابع : النص : كتخصيص لا قطع إلا في ربع دينار ، لعموم والسارق والسارقة [ المائدة : 38 ] ، ولا زكاة فيما دون خمسة أوسق . لعموم : فيما سقت السماء العشر ، وسواء كان العام كتابا ، أو سنة ، متقدما ، أو متأخرا ، لقوة الخاص وهو قول الشافعية . وعن أحمد يقدم المتأخر ، خاصا كان أو عاما ، وهو قول الحنفية ، لقول ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث ، ولأن العام كآحاد صور خاصة ; فجائز أن يرفع الخاص . ولنا : أن في تقديم الخاص عملا بكليهما بخلاف العكس ; فكان أولى ، فإن جهل التاريخ فكذلك عندنا . ومتعارضان عند الحنفية لاحتمال تأخر العام ونسخه الخاص ، وقال بعض الشافعية : لا يخص عموم السنة بالكتاب ، وخرجه ابن حامد قولا لنا ; لأنها مبينة له ; فلو خصها لبينها ; فيتناقض . ولنا : أن ما بينته منه لا يبينها وبالعكس ، أو يبين كل منها الآخر باعتبار جهتين ; فلا تناقض ، وقال بعض المتكلمين : لا يخص عموم الكتاب بخبر الواحد لضعفه عنه ، وقال عيسى بن أبان : يخصص المخصص دون غيره . بناء على قوله : إن المخصص مجاز ; فيضعف . وحكي عن أبي حنيفة . وتوقف بعضهم ، إذ الكتاب قطعي السند ، والخبر قطعي الدلالة فيتعادلان . لنا : إرادة الخاص أغلب من إرادة عموم العام ; فقدم لذلك ، وأيضا تخصيص الصحابة : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] ، بـ لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها ، وآية الميراث بـ لا يرث المسلم الكافر . والكافر المسلم . ولا إرث لقاتل ، ونحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وعموم الوصية بـ لا وصية لوارث . و حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ، بـ حتى يذوق عسيلتك . متسارعين إلى ذلك من غير طلب تاريخ . ودعوى الواقفية التعادل ممنوع بما ذكرنا . وإلا لتوقف الصحابة .


[ ص: 558 ] " الرابع " : من مخصصات العموم : " النص " الخاص ، " كتخصيص " قوله عليه السلام : لا قطع إلا في ربع دينار ، لعموم قوله عز وجل : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] ، فإن هذا يقتضي عموم القطع في القليل والكثير ; فخص بالحديث ما دون ربع دينار ; فلا قطع فيه ، وكتخصيص قوله عليه السلام : لا زكاة فيما دون خمسة أوسق . لعموم قوله عليه السلام : فيما سقت السماء العشر . فإن هذا يقتضي وجوب العشر في قليل ما سقي بالسماء وكثيره ; فخص بالحديث الأول منه ما دون خمسة أوسق ; فلا زكاة فيها .

وسواء كان العام كتابا أو سنة ، وسواء كان متقدما أو متأخرا ، فإن الخاص يخصه ، لا يقدم عليه " لقوة الخاص " ، أي : لقوة دلالته على مدلوله ; فإنها قاطعة ، ودلالة العام على أفراده ظاهرة ، والقاطع مقدم على الظاهر .

مثاله : لو قال : كلما سرق السارق ; فاقطعوه ، وهو معنى الآية ; فدلالته على قطع من سرق دون ربع دينار ظاهرة ، ودلالة قوله عليه السلام : لا قطع إلا في ربع دينار . على عدم القطع فيما دونه قاطعة ; فيقدم ، " وهو " [ ص: 559 ] يعني التسوية بين عموم الكتاب والسنة متقدمة ومتأخرة في تقديم الخاص عليه هو " قول الشافعية . وعن أحمد رحمه الله تعالى يقدم المتأخر " ، من النصين " خاصا كان أو عاما ، وهو قول الحنفية " ، لوجهين :

أحدهما : قول ابن عباس : كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول صلى الله عليه وسلم ، أي : بالآخر فالآخر ، وهو عام في تقديم المتأخر خاصا كان أو عاما ; لأنه الذي استقر عليه حكم الشرع .

الثاني : أن المتأخر إن كان هو الخاص ; فهو المقدم باتفاق ، وإن كان هو العام ; فهو كآحاد صور خاصة ; فجاز أن يرفع الخاص . وتحقيق هذا بنحو ما سبق في أن الباقي بعد التخصيص حقيقة .

وتقريره أن اللفظ العام كألفاظ متعددة يدل على مسميات متعددة ، كما لو نص على كل واحد منها بلفظ ; فالحكم في كل واحد من المسميات المذكورة يصح أن يرفع الحكم المنافي له في مسمى خاص ثبت قبله .

مثاله : لو قال : أعط زيدا درهما ، ثم قال : لا تعط أحدا شيئا ; فكأنه [ ص: 560 ] قال : لا تعط فلانا شيئا ولا فلانا ولا زيدا ; فكان هذا النهي عن إعطاء زيد رافعا للأمر المتقدم بإعطائه .

قوله : " ولنا أن في تقديم الخاص عملا بكليهما ، بخلاف العكس " ، أي : لنا على تقديم الخاص على العام تقدم أو تأخر ، أن في تقديم الخاص عملا بكلا الدليلين : الخاص والعام فيما عدا صورة التخصيص ، وفي تقديم العام إلغاء للعمل بالخاص ، والنصوص الشرعية يجب العمل بها ما أمكن ; فيكون العمل بكلا النصين بتقديم الخاص أولى من إلغاء الخاص بتقديم العام .

وبيانه أنه إذا قال : أعط زيدا درهما ، ثم قال : لا تعط أحدا شيئا ، فإذا عمل بهذا العموم وحده ، ومنع زيدا ، كان ملغيا للنص الخاص في إعطاء زيد ، وإذا أعطى زيدا ، ومنع من سواه ، كان عاملا بالنص الخاص في إعطاء زيد ، وبالعام في منع غيره ; فيكون أولى من تعطيل أحد النصين .

والجواب عما احتج به الخصم ، أما قول ابن عباس : كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث ; فهو محمول على النسخ بدليل ما ذكرناه ، وشرط النسخ التعارض وعدم إمكان الجمع من كل وجه ، وهو منتف هاهنا .

وأما قولهم : العام كآحاد صور خاصة ; فجاز أن يرفع الخاص .

قلنا : الجواز مسلم ، لكن ما ذكرناه أولى ، والأولى في الشرعيات متعين ; لأنه أغلب على الظن ، وبيان أن ما ذكرناه أولى ; ما سبق في دليلنا . [ ص: 561 ] وأيضا فإن ما ذكرتموه نسخ ، وما ذكرناه تخصيص . وإذا تعارض النسخ والتخصيص ، كان التخصيص أولى ; لأنه بيان وتقرير ، والنسخ إبطال وتعطيل ، ولأن النسخ على خلاف الأصل ، إذ الأصل دوام الحكم واستمراره ، والبيان على وفق الأصل في كلام الحكيم إذ الأصل أن يكون المراد به بينا ، لكن البيان قد يقارن الخطاب ، وقد يتأخر عنه .

قلت : ولعل مثار الخلاف أن العام هل يدل على أفراده بالنصوصية أو بالظهور ؟ .

فإن قيل : بالنصوصية ; فلا فرق بين الخاص وطبقه من العام في أن كلا منهما مقطوع بإرادة حكمه فيه ; فيرفع الثاني الأول .

وإن قلنا : بالظهور ، وهو الأظهر ; فالخاص قاطع في الدلالة ; فيقدم كما سبق .

قوله : " فإن جهل التاريخ ; فكذلك عندنا " ، أي : يقدم الخاص على العام ; لأن أكثر ما في جهالة التاريخ أن يقدر تأخر العام ، ونحن لو تحققنا تأخره ، قدمنا الخاص عليه ; فلا فرق على قولنا بين تقدمه وتأخره ، وجهالة التاريخ ، وعند الحنفية يتعارضان ، وهو قياس الرواية المذكورة عن أحمد .

والتعارض بين الخاص وما قابله من العام ; لأنه يحتمل أن يكون العام متأخرا ; فيكون ناسخا للخاص ، ويحتمل أن يكون العام متقدما ; فيكون مخصوصا بالخاص ولا مرجح ; فيجب الوقف لئلا يكون ترجيح أحدهما تحكما .

[ ص: 562 ] قلت : والجواب عن هذا بمنع عدم المرجح ، بل المرجح موجود ، وهو ما سبق من ترجيح التخصيص على النسخ إذا تعارضا .

قوله : وقال بعض الشافعية : لا يخص عموم السنة بالكتاب " ، هذا متصل بقوله قبل : " وسواء كان العام كتابا أو سنة " ، أي : فإنه يخص بالخاص ، كتابا كان الخاص أو سنة ، وذلك يقتضي تخصيص عموم السنة بالكتاب وقال بعض الشافعية : لا يجوز ذلك . " وخرجه ابن حامد قولا " ، أي : رواية " لنا " واحتجوا بأن السنة مبينة للكتاب ، لقوله عز وجل : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) [ النحل : 44 ] ; فلو خصصها الكتاب ، لبينها ; لأن التخصيص بيان . وحينئذ يلزم التناقض ، إذ يصير كل واحد منهما مبينا للآخر وتابعا له ; لأن المبين تابع للمبين ، بفتح الياء ، وكون كل واحد من الشيئين تابعا للآخر باطل .

قوله : " ولنا أن ما بينته منه لا يبينها وبالعكس " ، إلى آخره ، أي : لنا على صحة تخصيص السنة بالكتاب والجواب عما ذكره الخصم وجهان :

أحدهما : أن الدور والتناقض إنما يلزم من ذلك لو بين كل واحد منهما من الآخر ما بينه الآخر منه بعينه ، وليس كذلك ، بل الذي تبينه السنة من الكتاب لا يبينه الكتاب من السنة ، وما يبينه الكتاب من السنة لا تبينه السنة من الكتاب ; فلا دور ولا تناقض . وقد سبق مثل هذا الجواب في النسخ .

الوجه الثاني : أن تبيين كل واحد منهما للآخر من وجه ; فيكون ذلك [ ص: 563 ] باعتبار جهتين ; فلا تناقض . وهذا يرجع إلى الأول أو يشبهه .

قوله : " وقال بعض المتكلمين : لا يخص عموم الكتاب بخبر الواحد لضعفه " ، أي : لضعف الخبر عن الكتاب .

وقال عيسى بن أبان : " يخصص المخصص دون غيره " ، أي : خبر الواحد يخص العام من الكتاب إذا كان مخصوصا بغيره ، ولا يخص العام غير المخصوص .

قلت : هذا بناء على قول عيسى : إن العام المخصوص يبقى مجازا ; فيضعف ; فيقوى خبر الواحد على تخصيصه .

قلت : فإن كان قول عيسى هذا بناء على ما ذكرت ; ففيه ضرب من التهافت ; لأن العام المخصوص لا يبقى حجة عنده على ما سبق ، وإذا لم يكن حجة ، لم يكن للقول بتخصيصه فائدة ، إذ فائدة التخصيص بيان أن الصورة المخصوصة لا يتناولها حكم العموم . والتقدير : أن العموم لم يبق له حكم أو له حكم مجمل غير معلوم ; فيحتاج إلى البيان ; فهذا وجه التهافت في قوله : العام المخصوص لا يبقى حجة مع قوله : يجوز تخصيصه بخبر الواحد .

وحكي عن أبي حنيفة ، يعني قول عيسى بن أبان ، قال الشيخ أبو محمد : حكاه القاضي عن أبي حنيفة . " وتوقف بعضهم " ، وهم طائفة من الواقفية ، في تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ; لأن " الكتاب قطعي السند " لتواتره ، ظني الدلالة لما عرف من أن دلالة العام ظاهرة ظنية ، وخبر الواحد " قطعي [ ص: 564 ] الدلالة " لخصوصه ونصوصيته في مدلوله ، ظني الثبوت من حيث السند ; لأن أخبار الآحاد لا تفيد العلم كما سبق ; فيتعادلان لأن كل واحد منهما صار راجحا من وجه ، مرجوحا من وجه .

مثال ذلك قوله سبحانه وتعالى : ( كلوا مما في الأرض ) [ البقرة : 168 ] ، مع نهيه عليه السلام عن كل ذي ناب من السباع ; فيقدم الخبر عندنا على ما يقابله من الآية ويتعادلان عند الواقفية .

" لنا " على تقديم الخاص وجهان :

أحدهما : أن " إرادة الخاص أغلب من إرادة عموم العام " ، أي : إذا ورد عام وخاص ; فالظاهر الغالب أن حكم الخاص مراد به ، وأن المراد بالعام ما عدا الحكم الخاص .

مثاله : إن إرادة أن الأنبياء لا يورثون من قوله عليه السلام : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " . أظهر من إرادة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، يورث من قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) [ النساء : 11 ] ، وإذا كانت إرادة الخاص أظهر وأغلب ، قدم لذلك ، أي : لظهوره وغلبته . وقد سبق بيان تقديم الخاص على العام بطريق آخر .

[ ص: 565 ] الوجه الثاني : أن الصحابة ذهبوا إلى ذلك وبادروا إليه بفقههم في صور كثيرة :

منها : تخصيص قوله عز وجل : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء : 24 ] ، بقوله عليه السلام : " لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها " ، والآية بلفظها متناولة لجواز ذلك .

ومنها تخصيص آية الميراث ، وهي قوله عز وجل : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) [ النساء : 11 ] ، بقوله عليه السلام : " لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم " . والآية بلفظها متناولة لتوارثهما والدا ومولودا ، وكذلك خصت في القاتل بقوله عليه السلام : " لا إرث لقاتل " . وفي ولد النبي عليه السلام وأقاربه بقوله عليه السلام : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " .

ومنها : تخصيص عموم الوصية في قوله عز وجل : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين ) [ البقرة : 180 ] ، بقوله عليه السلام : " لا وصية لوارث " . والآية بلفظها متناولة للوصية له .

ومنها تخصيص قوله سبحانه وتعالى : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) [ ص: 566 ] [ البقرة : 230 ] ، بقوله عليه السلام لامرأة رفاعة : " لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " .

وإذا ثبت تخصيص الصحابة عموم الكتاب بخصوص السنة متسارعين إليه من غير طلب تاريخ ، ولا سؤال عن العام : هل خص أم لا ، ولا توقف ، دل ذلك على جوازه ، بل وجوبه ; لأنه ذريعة إلى تعريف الحكم الشرعي الواجب ، وذريعة الواجب واجب .

وأما الواقفية ; فدعواهم التعادل بين عام الكتاب وخاص السنة ممنوعة بما ذكرناه من اتفاق الصحابة على التخصيص ومبادرتهم إليه ، " وإلا " أي : ولو لم يكن ذلك جائزا ، " لتوقف الصحابة " كما توقفتم .

تنبيه : قولنا : من غير تاريخ يعرض بما سبق من أن التاريخ إذا جهل ، يقدم الخاص عندنا ، ويتعارضان عند الحنفية ، أي : فلو صح هذا ، لاستفصل الصحابة في تخصيصهم هذه العمومات بين أن يكون العام متقدما أو متأخرا ، واحتاجوا لذلك إلى طلب التاريخ ، لكن ذلك لم ينقل عنهم مع كثرة مجاري اجتهاداتهم بتخصيص العام وغيره ; فدل على ما ذكرناه من عدم الفرق بين تقدم العام وتأخره .

وأما قوله عز وجل : ( حتى تنكح زوجا غيره ) مع قوله عليه السلام : " حتى يذوق عسيلتك " . فلا يصح أن يجعل من باب تخصيص العام ; لأن أحدا لم يقل فيما علمت أن النكاح عام في العقد والوطء حتى يكون ذوق [ ص: 567 ] العسيلة تخصيصا لأحدهما بالإرادة ، بل الصواب أنه من باب بيان المجمل ; لأن قوله سبحانه وتعالى : ( حتى تنكح زوجا غيره ) [ البقرة : 230 ] ، تردد بين أن يكون المراد به العقد أو الوطء ; فبين النبي صلى الله عليه وسلم ، أن المراد به الوطء ، والأقوال المشهورة في النكاح : هل هو حقيقة في الوطء أو في العقد ، أو مشترك بينهما ، والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية