صفحة جزء
[ ص: 580 ] الاستثناء

الاستثناء : إخراج بعض الجملة بـ " إلا " أو ما قام مقامها ، وهو " غير " ، و " سوى " ، و " عدا " ، و " ليس " ، و " لا يكون " و " حاشا " ، و " خلا " ، وقيل : قول متصل يدل على أن المذكور معه غير مراد بالقول الأول ، وهذا قول من يزعم أن التعريف بالإخراج تناقض ، وليس بشيء .

والاستثناء يجب اتصاله ، ويتطرق إلى النص بخلاف التخصيص بغيره فيهما . ويفارق النسخ في الاتصال ، وفي رفع حكم بعض النص ، وفي منع دخول المستثنى على تعريفه الثاني .


قوله : " الاستثناء " ، أي : هذا بيان حكم الاستثناء وهو من مخصصات العموم ; لأنها إما منفصل ، وهو المخصصات التسعة السابقة ، أو متصل وهو الاستثناء والشرط والغاية والصفة . فإذا قال : له علي عشرة إلا درهما ، أو : قام القوم إلا زيدا ; فقد تخصص العشرة بالدرهم ، والقوم بزيد . وإذا قال : أنت طالق إن قمت ; فقد خص عموم الأحوال بحالة القيام ، وإذا قال : أوصيت للقراء الفقهاء ، أو للشرفاء العلماء ; فقد خصت صفة الفقه والعلم بعض القراء والشرفاء . وإذا قال : ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) [ البقرة : 222 ] ، تخصص زمن المنع بما عدا زمن الطهر .

- قوله : " الاستثناء إخراج بعض الجملة بـ " إلا " أو ما قام مقامها " .

اعلم أن الاستثناء من حيث اللفظ : استفعال إما من التثنية ; لأن [ ص: 581 ] المستثنى في كلامه يثني الجملة ، أي : يأتي بجملة ثانية في كلامه ، نحو : قام القوم إلا زيدا ; فهم منه قيام القوم ، وعدم قيام زيد ; فهي جملتان ، أو من : ثنى الفارس عنان فرسه ، إذا عطفه ; لأن المستثني يعطف على الجملة ; فيخرج بعضها عن الحكم بالاستثناء .

وأما من حيث المعنى ; فقيل : هو إخراج بعض الجملة بـ إلا أو ما قام مقامها ; فإخراجه بـ إلا ، نحو : قام القوم إلا زيدا ، وإخراجه بما قام مقامها ، وهو غير وسوى ، إلى آخره نحو : قام القوم غير زيد وسوى عمرو ، وليس زيدا ، ولا يكون عمرا ، وحاشى بشرا ، وخلا بكرا .

وقيل : الاستثناء قول متصل يدل على أن المذكور معه غير مراد بالقول الأول .

وقال الآمدي : هو لفظ متصل بجملة ، لا يستقل بنفسه ، دال على أن مدلوله غير مراد بما اتصل به بحرف إلا أو بأحد أخواتها ، وهو في معنى الذي قبله وإن زاد عليه تحقيقا .

- قوله : " وهذا " ، أي : التعريف بقوله : " قول متصل " ، إلى آخره هو " قول من يزعم أن التعريف " يعني تعريف الاستثناء " بالإخراج " ، أي : بقولنا : هو إخراج بعض الجملة ، " تناقض " لأن هؤلاء قالوا : تعريف الاستثناء بإخراج بعض الجملة يقتضي أن ذلك البعض دخل في الجملة المستثنى منها ، ثم [ ص: 582 ] أخرج بالاستثناء ; فيكون تناقضا ; لأنه إذا قال : قام القوم ، اقتضى قيام زيد فيهم ، فإذا قال : إلا زيدا ، اقتضى أنه لم يقم فيهم ; فصار التقدير : قام زيد ، لم يقم زيد ، وذلك تناقض ، وعلى هذا بنى أبو بكر من أصحابنا أن الاستثناء في الطلاق لا يصح ; لأنه إذا قال : أنت طالق ثلاثا ، وقعت الثلاث ، فإذا قال : إلا واحدة ، لم ينفعه ; لأن الطلاق إذا وقع ، لا يرتفع ، ولأنه يلزم التناقض المذكور في الطلقة الثالثة .

- قوله : " وليس بشيء " ، أي : هذا السؤال ليس بشيء ، ولا تناقض في تعريف الاستثناء بالإخراج لوجهين :

أحدهما : أن متقدمي أهل العربية عرفوه بالإخراج ، قال ابن جني ، وحسبك به مقدما في هذا الشأن : الاستثناء : أن تخرج شيئا أدخلت فيه غيره ، أو تدخله فيما أخرجت منه غيره ، وحينئذ يجب المصير إلى ما قالوه ، واعتقاد أن لا تناقض في ذلك ; لأنهم أهل اللغة ، وهي وأهلها بريئون من التناقض فيها .

الوجه الثاني : أنا إذا قلنا : قام القوم ; فقد أسندنا القيام إلى جميعهم لعموم اللفظ فيهم ، وذلك يتناول زيدا وغيره ، ولا معنى لدخوله في المستثنى منه ، إلا أن القيام منسوب إليه كغيره ، فإذا قلنا بعد ذلك : إلا زيدا ; فقد أخرجناه منهم بعد دخوله فيهم ، نعم ، دخوله فيهم دخول لفظي لا معنوي ; لأن القائل يقول : قام القوم ، مع اعتقاده أن زيدا لم يقم معهم ، ولذلك عطف [ ص: 583 ] عليه ; فاستثناه منهم ، وإذا كان دخول المستثنى وإخراجه لفظيا : لم يلزم منه تناقض .

ولما تخيله القائلون بأن تعريف الاستثناء بالإخراج تناقض ، ذهب ذاهبون إلى أن المستثنى يدخل في المستثنى منه دخولا مراعى موقوفا على عدم الاستثناء ، فإن ورد المستثنى ، لم يستقر دخوله ، وإلا استقر .

مثاله : لو قال : أنت طالق ثلاثا ، أو : له علي عشرة دراهم ; فالطلقة الثالثة ، والدرهم العاشر داخلان في النسبة بشرط أن لا يستثنيهما المتكلم ; فيستقر دخولهما ، فإن استثناهما ، لم يستقر دخولهما . ولهذا لو قال : له علي كذا ، ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه ، ثم استثنى شيئا لم يقبل منه .

وهذا التقرير لا ينافي ما ذكرناه من أن دخول المستثنى وخروجه لفظيان ، وما ذكره أبو بكر من الاستثناء في عدد الطلاق لا يصح ، يشكل عليه بصحة الاستثناء في الإقرار بالمال ، وقد قال به ، مع أن الإنسان مؤاخذ بموجب إقراره ، كما أنه مؤاخذ بموجب إيقاعه الطلاق ، فلما اتفقنا على صحة الاستثناء في الإقرار بالمال ، دل على أن دخول المستثنى لفظي كما قلنا ، لا معنوي ، وأن ذلك ليس من باب رفع الواقع ، بل من باب منع الوقوع في المعنى ، أو من باب التخصيص المحض ، وبيان أن المستثنى غير مراد . وحينئذ تتقارب الأقوال في الاستثناء ، بل تتفق ، ويعود النزاع لفظيا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

[ ص: 584 ] قوله : " والاستثناء يجب اتصاله ، ويتطرق إلى النص ، بخلاف التخصيص ، بغيره فيهما " .

هذا بيان الفرق بين الاستثناء والتخصيص بغير الاستثناء ، وذلك من وجهين :

أحدهما : أن الاستثناء يجب اتصاله بالمستثنى منه ، وستأتي المسألة عن قريب إن شاء الله تعالى ، بخلاف التخصيص بغير الاستثناء ; فإنه يجوز أن يتراخى ، مثل أن يقول : اقتلوا المشركين ، ثم يقول بعد مدة : اقبلوا الجزية من أهل الكتاب ، ولا تقتلوهم ، بخلاف قوله : اقتلوا المشركين ، ثم يقول بعد مدة : إلا أهل الكتاب .

والفرق بينهما عدم استقلال صيغة الاستثناء بنفسها لأنها تابعة للمستثنى منه ، بخلاف قوله : لا تقتلوا أهل الكتاب ; فإنه مستقل بنفسه . وهذا يقتضي أن التخصيص بالغاية والصفة والشرط يجب اتصاله لعدم استقلال هذه المخصصات بأنفسها . وإن قولنا : " بخلاف التخصيص بغيره " ، ليس على إطلاقه ، بل يجب أن يقال : بخلاف التخصيص بالمنفصل .

الوجه الثاني : في الفرق بين الاستثناء والتخصيص : أن الاستثناء يتطرق إلى النص ، كقوله : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة ، وله علي عشرة إلا [ ص: 585 ] ثلاثة ، " ولله تسعة وتسعون اسما ، مائة إلا واحدا " ، بخلاف التخصيص بغير الاستثناء ; فإنه لا يصح في النص ، وإنما يصح في العام ، ودلالته ظنية كما سبق ، فإذا قال : أكرم الرجال ، ثم قال : لا تكرم زيدا ، كان ذلك تخصيصا ; لأن دخول زيد في الرجال بالنظر إلى إرادة المتكلم مظنون لا مقطوع ، ولو نص على أسماء الرجال ; فقال : أكرم عمرا وبكرا وبشرا وخالدا وجعفرا وزيدا ، حتى أتى على أسمائهم ، ثم قال : لا تكرم زيدا ، لم يكن ذلك تخصيصا بل نسخا ، وذلك لأن التخصيص يبين أن مدلول اللفظ الخاص ليس مرادا من اللفظ العام الذي هو محتمل لإرادته وعدمها وذلك صحيح مفيد . أما إذا نص على إرادة مدلول لفظ كزيد أو غيره من الرجال ، لم يصح بعد ذلك أن يبين أنه غير مراد له لإفضائه إلى التناقض ، بل يكون نسخا ; لأن التناقض من لوازمه .

قوله : " ويفارق النسخ في الاتصال ، وفي رفع حكم بعض النص ، وفي منع دخول المستثنى على تعريفه الثاني " .

هذا بيان الفرق بين الاستثناء والنسخ ، وذلك من وجوه :

أحدها : أن الاستثناء يشترط فيه الاتصال كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ، والنسخ لا يشترط اتصاله ، بل يشترط تراخيه كما مر . وسبب الفرق أن الاستثناء لا يستقل بنفسه ، بخلاف الناسخ مع المنسوخ ; فإنه يستقل بنفسه ، وينافي المنسوخ ; فاتصاله به يكون تهافتا .

[ ص: 586 ] الوجه الثاني : أن الاستثناء إنما يرفع حكم بعض النص ، ولا يصح أن يكون مستغرقا ، والنسخ يجوز أن يرد على جميع حكم النص فيرفعه ; فيصح أن يوجب أربع ركعات ، ثم ينسخها بأن يقول : لا تصلوها ، ولا يصح أن يقول : صلوا أربعا إلا أربعا أو إلا ثلاثا كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

وهاهنا تحقيقان :

أحدهما : قولنا : الاستثناء يرفع حكم بعض النص تجوز باعتبار دخول المستثنى في المستثنى منه لفظا ، وإلا فالاستثناء في التحقيق بيان لأنه أحد المخصصات .

الثاني : قولي : والنسخ يجوز أن يرفع حكم جميع النص ، أجود من قول الشيخ أبي محمد : إن النسخ يرفع جميع حكم النص ; لأن النسخ قد يرفع جميع حكم النص ، وقد يرفع بعضه ، كما نسخ خمس رضعات من عشر ، وكما إذا نسخ الوجوب يبقى الجواز ، وهو بعض حكم النص .

ويتعلق بهذا إشكال خطر لي على الفرق بين النسخ والتخصيص ولم يتحقق لي الجواب عنه ، وهو أن يقال : إذا جاز ورود النسخ والتخصيص على بعض حكم النص اشتبها ; فبماذا يفرق بينهما ؟ فإن قيل : بأن النسخ رفع ، والتخصيص بيان .

قلنا : صورتهما هاهنا مشتبهة ; فلا يعرف أيهما الرفع من البيان .

فإن قيل : يفرق بينهما بأن النسخ يكون بعد العمل بالنص ، والتخصيص [ ص: 587 ] قبله . فإذا قيل لنا : اقتلوا المشركين ، ثم قيل لنا : لا تقتلوا أهل الكتاب ، فإن كان ذلك قبل قتالنا للمشركين ، كان تخصيصا ، وإن كان بعده ، كان نسخا لبعض الحكم .

قلنا : فالنسخ قد بينا جوازه قبل الامتثال ، وبتقدير ذلك يعود الإشكال ; فإنه إذا قال لنا : صوموا شهر المحرم ، ثم قال لنا قبل دخول المحرم : لا تصوموا منه غير عشرين يوما ، لم نعلم هذا تخصيصا ، أو نسخا للبعض .

الوجه الثالث : أن الاستثناء مانع ، والنسخ رافع . وبيانه أن الاستثناء يمنع دخول المستثنى تحت لفظ المستثنى منه على تعريفه الثاني ، وهو أن الاستثناء لفظ متصل يدل على أن مدلوله غير مراد بالقول الأول ، والنسخ يرفع ما دخل تحت لفظ المنسوخ . وقد بينا أن النزاع في تعريف الاستثناء بالإخراج وغيره لفظي أو قريب منه ، وحينئذ يكون الفرق المذكور بين الاستثناء والنسخ مطلقا على كلا التعريفين للاستثناء ; فلا يظهر لقوله على تعريفه الثاني كبير فائدة .

تنبيه : يشتمل على ما هو كالتكملة لما ذكرنا ، وذلك أن بين التخصيص والنسخ جامعا وفارقا :

أما الجامع ; فهو أن كل واحد منهما قد يوجب تخصيص الحكم ببعض مدلول اللفظ كما سبق .

والفارق من وجوه :

أحدها : أن التخصيص بين أن مدلول اللفظ الخاص لم يكن مرادا من [ ص: 588 ] لفظ العام الدال عليه ، بخلاف المنسوخ ، فإن مدلوله كان مرادا بالحكم ، ثم رفع بالنسخ .

وثانيها : أن التخصيص لا يرد على الأمر بمأمور واحد ، نحو : أكرم زيدا ، إذ ليس بعام ، والنسخ يرد على ذلك .

وثالثها : أن التخصيص لا يجوز حتى لا يبقى من العام شيء ، بل لا بد أن يبقى واحد أو جمع كما سبق ، والنسخ يجوز أن يرفع جميع مدلول النص .

ورابعها : أن التخصيص قد يكون بغير خطاب الشرع ، كالإجماع ودليل العقل والحس كما سبق ، والنسخ لا يكون إلا بخطاب الشرع ، أو ما قام مقامه .

وخامسها : أن دليل التخصيص قد يكون متقدم الوجود على ما يخصصه ، بخلاف دليل النسخ ; فإنه يشترط تأخيره .

وسادسها : أنه لا يجوز تخصيص شريعة بشريعة أخرى ، ويجوز نسخها بها ، كما ثبت من تناسخ الشرائع .

وسابعها : أن التخصيص أعم من النسخ ; لأن التخصيص بيان ، والنسخ رفع ، ورفع الحكم يستلزم البيان ، والبيان لا يستلزم رفع الحكم .

وثامنها : أن التخصيص لا يكون إلا قبل العمل لأنه بيان ، وتأخير البيان عن وقت العمل لا يجوز ، والنسخ يجوز قبل العمل وبعده .

التالي السابق


الخدمات العلمية