صفحة جزء
[ ص: 611 ] وإذا تعقب الاستثناء جملا نحو : ( والذين يرمون المحصنات ) [ النور : 4 ] ، إلى قوله تعالى : ( إلا الذين تابوا ) [ النور : 5 ] ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه " . عاد إلى الكل عندنا وعند الشافعية .

وإلى الأخيرة عند الحنفية . وتوقف المرتضى توقفا اشتراكيا ، والقاضي أبو بكر والغزالي توقفا عارضيا .

لنا : العطف يوجب اتحاد الجمل معنى ; فعاد إلى الكل ، كما لو اتحد لفظا ، ولأن تكرير الاستثناء عقيب كل جملة عي قبيح باتفاق أهل اللغة ; فمقتضى الفصاحة العود إلى الكل ، ولأن الشرط يعود إلى الكل نحو : نسائي طوالق ، وعبيدي أحرار إن كلمت زيدا ; فكذلك الاستثناء بجامع افتقارهما إلى متعلق ، ولهذا يسمى التعليق بمشيئة الله تعالى استثناء ، لا يقال : رتبة الشرط التقديم بخلاف الاستثناء ; لأنا نقول عقلا لا لغة . ثم الكلام فيما إذا تأخر ولا فرق ; ثم يلزمكم أن يتعلق بالأولى فقط مطلقا ، أو إذا تقدم وهو باطل .

قالوا : تفاصلت الجمل بالعاطف ، أشبه الفصل بكلام أجنبي ، وتعلق الاستثناء ضروري ; فاندفع بما ذكرناه . و المرجح القرب كإعمال أقرب العاملين ، وعوده إلى الكل مشكوك ; فلا يرفع العموم المتيقن .

وأجيب : بأنا قد بينا أن العطف بواو الجمع يوجب اتحادا معنويا ، وهو المعتبر دون التفاصل اللفظي . وتعلق الاستثناء بما قبله لصلاحيته له لا ضرورة . وإعمال أقرب العاملين بصري معارض بعكسه عند الكوفيين . وتيقن العموم قبل تمام الكلام ممنوع ، وإنما يتم بالاستثناء .

المرتضى : استعمل في اللغة عائدا إلى الكل ، وإلى البعض ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ، وقياسا على الحال والظرفين .

[ ص: 612 ] القاضي : تعارضت الأدلة فيطلب المرجح الخارجي .


قوله : وإذا تعقب الاستثناء جملا " ، أي : وقع الاستثناء عقيب جمل ، كقوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا ) [ النور : 4 ، 5 ] ، " وكقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه " . عاد الاستثناء " إلى الكل " ، أي : إلى جميع الجمل التي قبله ؛ ما لم يمنع مانع من عوده إلى بعضها " عندنا وعند الشافعية " ، " وإلى " الجملة " الأخيرة " خاصة " عند الحنفية . وتوقف المرتضى " من الشيعة " توقفا اشتراكيا " ، أي : يصلح رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل وإلى الجملة الأخيرة على جهة الاشتراك والتساوي ، ولا رجحان لأحدهما على الآخر ، كما يصلح لفظ القرء للحيض والطهر ، ولفظ العين لمسمياته . وتوقف " القاضي أبو بكر و الغزالي توقفا عارضيا " ، أي : لتعارض الدليل في كونه يختص بالأخيرة ، أو يرجع إلى الجميع ، لا لكونه صالحا للرجوع إليهما بالاشتراك .

وقال الآمدي : ( إن ظهر ) أن " الواو " للابتداء ، كقوله : أكرم بني تميم والنحاة البصريون إلا البغاددة ، اختص بالأخيرة ، وإن ترددت بين العطف [ ص: 613 ] والابتداء ; فالوقف .

قلت : التحقيق أنه إن كان في الكلام قرينة معنوية أو لفظية تدل على ما يرجع إليه الاستثناء ; تعين العمل بمقتضاها ، وإلا فالمختار الأول .

مثال القرينة المعنوية قوله : نسائي طوالق وعبيدي أحرار وخيلي وقف إلا الحيض ; فهذا راجع إلى الجملة الأولى بقرينة الحيض المختص بالنساء ، ولو قال : إلا الزنجيين أو الهنديين ، أو الحبشان ، اختص بالثانية ; لأن هذه الصفات في العرف مختصة بالعبيد ، ولو قال : إلا الدهم أو العراب ، اختص بالأخيرة ; لأن هذه صفات الخيل عرفا .

ومثال اللفظية ما ذكره الآمدي من ظهور الابتداء في الواو ونحو ذلك ، وفي المسألة تفصيل كثير .

قوله : " لنا : العطف يوجب اتحاد الجمل " إلى آخره .

هذا حجة القائلين برجوع الاستثناء إلى جميع الجمل ، وهو من وجوه :

أحدها : أن العطف بالواو يوجب اتحاد الجمل في المعنى ; لأن الواو للجمع ; فيكون الاستثناء المتعقب لها عائدا إلى جميعها ، كما لو اتحدت لفظا إذ لا فرق في المعنى بين قوله : اضرب من قتل وسرق إلا من تاب ، وبين قوله : اضرب الجماعة الذين هم قتلة وسراق إلا من تاب ; فكما يرجع [ ص: 614 ] الاستثناء هاهنا إلى الجميع ; فكذلك يرجع إلى الذي قبله .

الوجه الثاني : أن " تكرير الاستثناء عقيب كل جملة عي قبيح باتفاق أهل اللغة " ، إذ لا يجوز في لسان الفصحاء أن يقال : فاجلدوهم إلا الذين تابوا ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا ، وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا .

وحيث الأمر كذلك ; فمقتضى الفصاحة أن يعود الاستثناء إلى الكل لصلاحيته له ، وإلا لم يقبح التكرار المذكور ، بل كان يتعين فيما إذا أريد رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل .

الوجه الثالث : أن الشرط يعود إلى جميع الجمل قبله ، " نحو : نسائي طوالق ، وعبيدي أحرار إن كلمت زيدا " ; فيكون تكليمه زيدا شرطا في وقوع الطلاق والعتق جميعا ; فكذلك الاستثناء مثله ، والجامع بينهما افتقار كل منهما إلى ما يتعلق به ; فالشرط يتعلق بمشروطه ، ولا يستقل بدونه ، والاستثناء يتعلق بالمستثنى منه ولا يستقل بدونه ، " ولهذا " أي : لاشتراكهما في التعلق ، وعدم الاستقلال " يسمى التعليق بمشيئة الله تعالى استثناء " كالاستثناء في اليمين ، والإيمان ، والطلاق ، نحو : والله لأفعلن كذا إن شاء الله تعالى ، وأنا مؤمن إن شاء الله ، وأنت طالق إن شاء الله ، ونحو ذلك . وإذا ثبت أن بين الشرط والاستثناء هذا الاشتراك الخاص ، وجب أن يستويا في رجوع كل منهما إلى جميع الجمل قبله .

[ ص: 615 ] - قوله : " لا يقال : رتبة الشرط التقديم بخلاف الاستثناء " .

هذا قدح من الخصم في قياس الاستثناء على الشرط في رجوعه إلى جميع الجمل ، وذلك ببيان الفرق بينهما .

وتقريره أن يقال : الشرط رتبته التقديم حكما ; لأن وجوده يجب أن يكون قبل وجود المشروط ، ومقتضى ذلك أن يكون لفظه مقدما ، نحو : إن دخلت الدار ; فأنت طالق ، ليطابق اللفظ الحكم والوضع الطبع ، فإذا تأخر لفظه عن الجمل ، تعلق بجميعها ; لأن له حقا في التقدم ; فهو وإن تأخر لفظا ; فهو متقدم حكما ; فتعلق بما يليه من جهة لفظه ، وبما قبله من جهة حكمه .

وشبيه بذلك ما يذكره النحويون في تقديم الفاعل والمفعول ، نحو : ضرب غلامه زيد ، وضرب غلامه زيدا ، حيث صحت الأولى دون الثانية ، ولا كذلك الاستثناء ; فإنه تابع متأخر لفظا وحكما ، لا حق له في التقديم حتى يقوى بذلك على رجوعه إلى أول الجمل ; فبان بذلك الفرق بين الشرط والاستثناء .

- قوله : " لأنا نقول عقلا لا لغة " ، هذا جواب عن الفرق المذكور من وجوه :

أحدها : قولهم : رتبة الشرط التقديم .

قلنا : في العقل لا في اللغة ، وكلامنا في بحث لغوي لا عقلي ، ولا يلزم [ ص: 616 ] من توقف المشروط على الشرط ولزوم تقدمه عقلا أن لا يساويه الاستثناء فيما ذكرناه .

الوجه الثاني : أن كلامنا فيما إذا تأخر الشرط ، وحينئذ لا فرق بينه وبين الاستثناء ; لأن كلا منهما متأخر عن الجمل ، وما ذكر من استحقاقه التقدم أمر عقلي لا اعتبار به هاهنا ; فلا فرق إذن بين قوله : نسائي طوالق وعبيدي أحرار إن كلمت زيدا ، وبين قوله : نسائي طوالق وعبيدي أحرار إلا أن أكلم زيدا .

الوجه الثالث : أن على ما ذكرتموه من الفرق ، يلزمكم أن يتعلق الشرط بالجملة الأولى فقط ; إما مطلقا سواء تقدم لفظه ، أو تأخر نظرا إلى استحقاقه التقديم حكما ، أو إذا تقدم لفظه ، نحو : إن كلمت زيدا ; فنسائي طوالق ، وعبيدي أحرار ; فيعتق عبيده في الحال ، ويتوقف طلاق نسائه على تكليمه زيدا ، لكن ذلك باطل باتفاق ; فدل على أن استحقاق الشرط للتقديم حكما لا تأثير له في الفرق المذكور ، وحينئذ يستوي الشرط والاستثناء في تعلقهما بجميع الجمل المذكورة قبلهما وهو المطلوب .

- قوله : " قالوا : تفاصلت الجمل بالعاطف " ، إلى آخره .

[ ص: 617 ] هذه حجة الحنفية على اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة ، وتقريرها من وجوه :

أحدها : أن الجمل تفاصلت بالعاطف ، أي : وقع الفصل بين كل جملتين منها بحرف العطف ; فأشبه الفصل بكلام أجنبي ، ولو فصل بينهما بكلام أجنبي ، لم يعد الاستثناء إلى الجميع ; فكذا ما أشبهه .

الوجه الثاني : أن تعلق الاستثناء بما قبله ضروري ، أي : لضرورة عدم استقلاله بنفسه ، وهذه الضرورة تندفع بما ذكرناه من تعلقه بجملة واحدة ; فلا حاجة إلى تعلقه بغيرها لخروجه عن محل الضرورة ، والمرجح للأخيرة على سائر الجمل قربها من الاستثناء ، وللقرب تأثير في الترجيح كإعمال أقرب العاملين عند البصريين ، نحو : ضربت وضربني زيد ، وسببت وسبني بنو عبد شمس و :

جرى فوقها واستشعرت لون مذهب

الوجه الثالث : أن العموم في كل واحدة من الجمل متيقن ، وعود الاستثناء إلى كل واحدة منهن مشكوك فيه ; فلا يرفع العموم المتيقن بالشك ، وإنما [ ص: 618 ] رفعنا عموم الجملة الأخيرة ضرورة تعلق الاستثناء بغيره ، وعدم استقلاله بدونه فثبت بهذه الوجوه أن الاستثناء يختص بالأخيرة دون غيرها .

- قوله : " وأجيب " ، إلى آخره . هذا جواب عن الأوجه الثلاثة :

أما عن الأول ; فقولهم " تفاصلت الجمل بالعاطف أشبه الفصل بكلام أجنبي " .

قلنا : " قد بينا أن العطف بواو الجمع يوجب اتحادا معنويا " ، ولهذا قدرت التثنية والجمع ، نحو : الزيدان والزيدون بالعطف ، نحو : قام زيد وزيد وزيد ، وشبه ذلك بقولهم : قاموا ، فواو العطف ، والجمع ، والضمير المتصل بالفعل أشباه ، والمعتبر هاهنا هو الاتحاد المعنوي ، " دون التفاصل اللفظي " وحينئذ تصير الجمل كالجملة الواحدة ، لربط الواو المقتضية للجمع بينها ; فيكون الاستثناء راجعا إلى الجميع .

وأما الجواب عن الثاني ; فقولهم : " تعلق الاستثناء ضروري ; فاندفع بما ذكرناه " .

قلنا : لا نسلم أن تعلق الاستثناء بما قبله للضرورة ، بل لصلاحية ما قبله لتعلقه به ، وسائر الجمل صالح لتعلق الاستثناء به ، ما لم يمنع من تعلقه ببعضها مانع خاص ، كقوله سبحانه وتعالى : ( فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا ) [ النساء : 92 ] ; فهذا الاستثناء راجع إلى [ ص: 619 ] الدية ، لا إلى التحرير ; لأنه ليس بحق الورثة حتى يصدقوا به ، وكذلك الاستثناء من الاستثناء ، اختص بالجملة الأخيرة ; لأن الاستثناء من النفي إثبات ، ومن الإثبات نفي ; فلو عاد إلى جميع ما قبله ، لزم استثناء النفي من النفي ، أو الإثبات من الإثبات ، ثم ما ذكروه يبطل بالشرط كما سبق ، وبالصفة ، نحو : أكرم بني تميم ، وبني أسد الطوال ; فإنه يتعلق بجميع الجمل ، مع أن ضرورة التعلق تندفع بتعلقه بالجملة الواحدة .

وأما ترجيحهم الجملة الأخيرة بالقرب ، قياسا على إعمال أقرب العاملين ; فإعمال أقرب العاملين بصري ، أي : هو رأي البصريين ، وهو معارض بعكسه عند الكوفيين ; فإنهم يعملون أبعد العاملين ، لأوليته وسبقه ، نحو : ضربت وضربني زيدا ، وضربني وضربت زيد ، ويحتجون بنحو قوله :


تنخل فاستاكت به عود إسحل

وقوله :


كفاني ولم أطلب قليل من المال

[ ص: 620 ]

ورضت فذلت صعبة أي إذلال

وهي حجج صحيحة في الباب .

وعلى هذا فلقائل أن يقول : يتعلق الاستثناء بالجملة الأولى ، لأوليتها وسبقها ; فيتعارض القولان ، ولا مرجح .

وأما الجواب عن الثالث ; فقولهم : " عود الاستثناء إلى الكل مشكوك ; فلا يرفع العموم المتيقن " .

قلنا : " تيقن المعلوم " في الجمل ; إن أردتم أنه حاصل قبل تمام الكلام فهو " ممنوع " وإن أردتم أنه بعد تمام الكلام ; فالكلام " إنما يتم بالاستثناء " وبعد الاستثناء ، لا يبقى العموم متيقنا حتى يكون رفعه بالشك ممتنعا ، إلا على قولكم : إنه يتعلق بالجملة الأخيرة ، ويبقى العموم فيما قبلها ، لكن هذا يصير استدلالا بمحل النزاع ; فلا يسمع .

[ ص: 621 ] قوله : " المرتضى " ، أي : احتج المرتضى على ما ادعاه في المسألة من الاشتراك ; بأن الاستثناء المتعقب للجمل ، استعمل في اللغة عائدا إلى الجميع تارة ، وإلى البعض أخرى ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ; فيكون مشتركا ، وبالقياس على الحال والظرفين : ظرف الزمان والمكان ; فإنه لو قال : ضربت زيدا وعمرا وبكرا قائما ; احتمل أن يكون هذا الحال لجميعهم ، وأن يكون للأخيرة منهم . ولو قال : علمت المسير ، والقتال ، والصوم يوم الجمعة ، احتمل تعلق الظرف بالمصادر الثلاثة ، واحتمل تعلقه بالأخير منها . ولو قال : رأيت زيدا وعمرا وبكرا في الدار ، احتمل تعلق الظرف المكاني بهم ، أو بآخرهم ; فكذلك الاستثناء في تعلقه بجميع الجمل أو بآخرها ، والجامع بينه وبين الحال والظرفين ; كونها منصوبات غير مستقلة بنفسها ، مفتقرة إلى ما يتعلق به .

- قوله : " القاضي " ، أي : احتج القاضي على الوقف بأن قال : " تعارضت الأدلة " في المسألة كما قد تقرر ، ومع تعارضها يمتنع الجزم بأحدها ; فيجب الوقف ، " ويطلب المرجح الخارجي " عن الأدلة المذكورة .

قلت : واعترض على ما قاله المرتضى : بأن يقال : استعمال الاستثناء راجعا إلى الجملة الأخيرة لمانع ، أو مجازا ، والحقيقة ما ذكرناه ، وإذا تعارض الاشتراك والمجاز ، كان المجاز أولى ، وقياس الاستثناء على الحال والظرفين قياس في اللغة ، وهو ممنوع ، وإن سلمناه ; فإنما يلزم الاشتراك أن لو كان احتمال رجوع الحال والظرف إلى الجميع والبعض على السواء ، وهو [ ص: 622 ] ممنوع ، بل رجوعه إلى الجميع أظهر ، وكذا نقول في الاستثناء .

والاعتراض على ما قاله القاضي : بأن الوقف ليس بمذهب ، بل هو تعطيل للمذاهب ، وتردد بينها ، وتحير فيها ، وما هذا شأنه ; فإنما يسوغ عند تكافؤ الأدلة وتساويها ، وهو ممنوع هاهنا ، بل أحد المذاهب ظاهر الرجحان ، وهو ما ذكرناه إن شاء الله تعالى .

فرع : قوله سبحانه وتعالى : ( والذين يرمون المحصنات ) الآية ، إلى قوله تعالى : ( إلا الذين تابوا ) [ النور : 4 ، 5 ] ، تضمنت الآية أن القذف متعلق به ثلاثة أحكام : وجوب الحد ، ورد الشهادة ، وثبوت الفسق . فمن رد الاستثناء إلى جميع الجمل ، قال : القاذف إذا تاب ، تعود عدالته ، وتقبل شهادته ، وكان مقتضى هذا الأصل أن يسقط الجلد عنه ، لكن منع من ذلك كونه حق آدمي . ومن رد الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط ، وهو أبو حنيفة رحمه الله ، قال : إذا تاب القاذف ، زال فسقه ، ولم تقبل شهادته ; لأن الاستثناء في قوله تعالى : ( إلا الذين تابوا ) لم يتعلق بقوله تعالى : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) [ النور : 4 ] ; فيبقى على عمومه في الزمان ، وجعل سلب أهلية الشهادة من عقوبات القذف كالجلد ، وكما أن الحد لا يرتفع بالتوبة ، كذلك رد الشهادة ; فمذهب أبي حنيفة أن المجلود في القذف لا تقبل شهادته .

وتلخص من هذا : أن الأحكام الثلاثة المتعلقة بالقذف :

[ ص: 623 ] منها : ما لا تؤثر التوبة في رفعه بالإجماع ، وهو الجلد .

ومنها : ما تؤثر في رفعه بالإجماع ، وهو الفسق .

ومنها : ما وقع النزاع فيه ، هل يرتفع بها أم لا ؟ وهو رد الشهادة هذا ما دل عليه ظاهر اللفظ ، وفهمه منه أكثر العلماء .

والذي ينقدح من قوة الكلام : أن الآية إنما تضمنت حكمين : وجوب الحد ، وثبوت الفسق .

أما رد الشهادة ; فهو من آثار الفسق ، ومرتب عليه ، فإذا زال الفسق ، الذي هو المؤثر بالتوبة ، زال أثره ، الذي هو رد الشهادة .

وعلى هذا التقدير يتجه النزاع في قبول الشهادة أيضا ، بناء على أن العلة إذا زالت ، هل يجب زوال معلولها أم لا ؟ فإن قلنا : يجب ، زال رد الشهادة بزوال الفسق ; فوجب قبولها ، وإن قلنا : لا يجب ، استصحب الحال في رد الشهادة ، واحتاج قبولها إلى دليل طارئ .

ويحتمل أن يقال : إن الآية إنما تضمنت حكمين : وجوب الحد ، ورد الشهادة ، وهو من لوازم الفسق ، وكان قوله سبحانه وتعالى : ( وأولئك هم الفاسقون ) [ النور : 4 ] ، تأكيد لرد الشهادة بذكر ملزومه ، وهو الفسق ; فتكون الجملتان ، أعني رد الشهادة والفسق كالجملة الواحدة ; فيرجع الاستثناء [ ص: 624 ] إليها إجماعا ; فيزول رد الشهادة ; فيجب قبولها ، وينتفي ملزومه وهو الفسق ، بانتفاء لازمه وهو رد الشهادة .

ومن أمثلة هذا الأصل ، قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يؤمن الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته ، إلا بإذنه " . فمن رد الاستثناء إلى الجملتين ، قال : الإذن شرط في الحكمين ، وهما : أن يتقدم على الرجل في سلطانه غيره في إمامة الصلاة ، وأن يجلس على تكرمته غيره بإذنه ، ومن علقه بالأخيرة فقط ، قال : الإذن يشترط في جلوسه على تكرمته فقط ، أما تقدمه عليه في الصلاة ; فلا دلالة في الحديث على جوازه ، بإذنه أو غير إذنه ، بل يقف الأمر على دليل خارج ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية