صفحة جزء
[ ص: 635 ] ويحمل المطلق على المقيد إذا اتحدا سببا وحكما ، نحو : " لا نكاح إلا بولي وشهود " ، مع " إلا بولي مرشد وشاهدي عدل " ، خلافا لأبي حنيفة .

لنا : إعمالهما أو إلغاؤهما ، أو أحدهما ممتنع ، وترجيح بلا مرجح ; فتعين الجمع بينهما بما ذكرنا .

قال : الزيادة على النص نسخ ، وكلام الحكيم يحمل على إطلاقه ، ولأنه من باب مفهوم الصفة ، وليس بحجة عندنا .

قلنا : الأول ، ونصيته على إرادة المطلق ممنوعان .

والثاني : معارض بأن الحكيم لا يأمر بالجمع بين الضدين ، ولا الترجيح بلا مرجح ، ويأتي الجواب الثالث .


قوله : " ويحمل المطلق على المقيد إذا اتحدا سببا وحكما " ، إلى آخره .

اعلم : أنه إذا اجتمع معنا لفظ مطلق ومقيد ; فإما أن يتحد حكمهما ، أو يختلف ، فإن اتحد حكمهما ; فإما أن يتحد سببهما أو يختلف ; فهذه ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يتحدا في السبب والحكم ، وهو المراد باتحادهما سببا وحكما ، أي : يكون سببهما واحدا ، وحكمهما واحدا ، نحو قوله عليه الصلاة والسلام : " لا نكاح إلا بولي وشهود " ، مع قوله عليه الصلاة والسلام : " لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل " ; فالأول مطلق في الولي ، بالنسبة إلى الرشد [ ص: 636 ] والغي ، وفي الشهود ، بالنسبة إلى العدالة والفسق ، والثاني مقيد بالرشد في الولي ، والعدالة في الشهود ، وهما متحدان سببا وحكما ; لأن سببهما النكاح ، و حكمهما نفيه إلا بولي وشهود ; فيحمل المطلق على المقيد هاهنا ، ويعتبر رشد الولي وعدالة الشهود ، خلافا لأبي حنيفة في ذلك .

" لنا " على وجوب حمل المطلق على المقيد هاهنا : أن " إعمالهما " ، أي : إعمال المطلق والمقيد ، يعني العمل بهما " أو إلغاؤهما ، أو أحدهما " ، أي : إلغاء أحدهما " ممتنع ، وترجيح بلا مرجح " ، يعني إعمالهما ، أو إلغاءهما ممتنع ، وإلغاء أحدهما ترجيح بلا مرجح .

وتقرير الدليل : أن المطلق والمقيد إذا اجتمعا ; فلا يخلو إما أن نعمل بهما ، أو نلغيهما ; فلا نعمل بواحد منهما ، أو نعمل بأحدهما ، ونلغي الآخر ، أو نجمع بينهما بحمل أحدهما على الآخر .

والأول : وهو العمل بهما ممتنع ، لإفضائه إلى التناقض ، إذ يلزم أن يعتبر الرشد في الولي مثلا ، ولا يعتبره ، ويشترط العدالة في الشهود ، ولا يعتبرها ، وهو محال .

والثاني : وهو إلغاؤهما ممتنع أيضا ، لإفضائه إلى خلو الواقعة عن حكم ، مع ورود النص فيها ، وإلى تعطيل النص ، مع إمكان استعماله .

والثالث : وهو إعمال أحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجح ، وهو غير جائز ; فيتعين الرابع ، وهو الجمع بينهما ، والعمل بهما ، بما ذكرنا من حمل المطلق على المقيد ، وكان أولى من العكس ; لأنه أكثر فائدة ، وهو المطلوب .

[ ص: 637 ] قوله : " قال " : يعني أبا حنيفة احتج لمذهبه بوجوه :

أحدها : أن تقييد المقيد زيادة على النص المطلق ، " والزيادة على النص نسخ " فلو حمل المطلق على المقيد ، لكان ذلك نسخا للمطلق ، والنسخ على خلاف الأصل ; فيجب تركه ما أمكن .

الوجه الثاني : أن المطلق كلام الشارع الحكيم ، " وكلام الحكيم يحمل على إطلاقه " ، لوجوب استقلاله بالفائدة ، وإلا لم يكن قائله حكيما ، وقد فرضناه حكيما ، هذا خلف .

الوجه الثالث : أن دلالة المقيد على عدم إفادة المطلق لحكمه ، إنما هو " من باب مفهوم الصفة " .

وبيانه أو قوله عليه السلام : " لا نكاح إلا بولي مرشد " ، إنما دل بمفهومه - على أن غير المرشد لا تصح ولايته - لا بمنطوقه ، وإذا ثبت أنه من باب مفهوم الصفة ; لم يكن حجة علينا ; " لأنه ليس بحجة عندنا " .

- قوله : " قلنا : الأول ، ونصيته على إرادة المطلق ممنوعان " .

" الأول " : إشارة إلى قوله : " الزيادة على النص " أي : لا نسلم أن ذلك نسخ . وقد سبق وجه المنع في باب النسخ ، وكذلك لا نسلم أن المطلق منصوص على إرادته مجردا ، بل بقيد المقيد ، وذلك لأنه في دليله ادعى أمرين :

أحدهما : أن المطلق منصوص على إرادته .

الثاني : أن التقييد زيادة عليه ، والزيادة على النص نسخ ; فمنعنا الأمرين .

" والثاني " : وهو قوله : " كلام الحكيم يحمل على إطلاقه ، وإلا لما استقل بالفائدة ; فيقدح في حكمته " " معارض ، بأن الحكيم لا يأمر بالجمع بين [ ص: 638 ] ضدين " ولا بالترجيح من غير مرجح ، وقد بينا لزوم ذلك ، من ترك الجمع بينهما ، بما ذكرنا .

قوله : " ويأتي جواب الثالث " ، يعني قوله : إن دلالة المقيد من باب مفهوم الصفة . وجوابه يأتي إن شاء الله في باب المفهوم .

قلت : لا نزاع في بطلان الأقسام الثلاثة ، من دليل التقسيم الذي ذكرناه ، وهو إعمال المطلق والمقيد ، وإلغاؤهما ، وإعمال أحدهما دون الآخر ، لكن النزاع في كيفية الجمع بينهما ; فنحن نقول : يحمل المطلق على المقيد ، وأبو حنيفة يقول بالعمل بالمطلق جوازا ، وبالمقيد استحبابا ، ولا جرم أنه قال : يصح النكاح بغير ولي ، وهو بولي أولى ، وكذا عدالة الشهود أولى ، وعدمها لا يبطل النكاح ، ويحمل قوله : " لا نكاح إلا بولي " ، على نفي الكمال والأولوية ، لا على نفي الصحة . ولعمري ، إن لمذهبه على هذا التقدير اتجاها .

التالي السابق


الخدمات العلمية