صفحة جزء
[ ص: 647 ] المجمل

المجمل : لغة : ما جعل جملة واحدة ، لا ينفرد بعض آحادها عن بعض ، واصطلاحا : اللفظ المتردد بين محتملين فصاعدا على السواء . وقيل : ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى .

قلت : معين وإلا بطل بالمشترك ; فإنه يفهم منه معنى غير معين . وهو إما في المفرد ، كالعين ، والقرء ، والجون ، والشفق في الأسماء ، وعسعس ، وبان في الأفعال ، وتردد " الواو " بين العطف والابتداء في نحو : ( والراسخون ) [ آل عمران : 7 ] ، و " من " بين ابتداء الغاية والتبعيض في آية التيمم في الحروف ، أو في المركب كتردد الذي بيده عقدة النكاح بين الولي والزوج ، وقد يقع من جهة التصريف كالمختار والمغتال للفاعل والمفعول ، وحكمه التوقف على البيان الخارجي .


قوله : " المجمل " .

لما انتهى الكلام في المطلق والمقيد ، أخذ في بيان أحكام المجمل والمبين .

المجمل لغة ، أي : في اللغة ، " ما جعل جملة واحدة ، لا ينفرد [ ص: 648 ] بعض آحادها عن بعض " ، كالمجمل من المعدودات .

قال الجوهري : وقد أجملت الحساب : إذا رددته إلى الجملة .

قلت : وفي حديث عبد الله بن عمرو في القدر : هذا كتاب من رب العالمين ، فيه أسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، لا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم . وذكر في أهل النار كذلك ، الحديث ، ومادة الكلمة ترجع إلى معنى التكثير والاجتماع وانضمام الآحاد بعضها إلى بعض .

قال الآمدي : وقيل : المجمل المحصل ، ومنه يقال : أجملت الحساب : إذا حصلته .

قلت : الأول أشبه .

- قوله : " واصطلاحا " ، أي : والمجمل في اصطلاح الأصوليين : " هو اللفظ المتردد بين محتملين فصاعدا على السواء " ، أي : لا رجحان له في أحدهما دون الآخر .

فقولنا : اللفظ المتردد ، احتراز من النص ; فإنه لا تردد فيه ، إذ لا يحتمل إلا معنى واحدا .

[ ص: 649 ] وقولنا : " على السواء " احتراز من الظاهر ; فإنه متردد بين محتملين ، لكن لا على السواء ، بل هو في أحدهما أظهر ، وكالحقيقة التي لها مجاز ; فإنه في الحقيقة أظهر ، والمجمل في الألفاظ كالشك في الإدراك ; لأن الشك : هو احتمال أمرين على السواء .

وقال الآمدي : المجمل : ما له دلالة على أحد أمرين ، لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه ، وهو معنى ما ذكرناه .

قوله : " وقيل : ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى " .

هذا تعريف آخر للمجمل ، وهو الذي قدم في أصل " المختصر " ، وهو ناقص ; لأن ما لا يفيد معنى ليس كلاما ، وهو موضوع نظر أحد ، لا لغوي ، ولا أصولي ، ولا غيره ، بل هو لفظ مهمل ، والمجمل يفيد معنى ، لكنه غير معين ، إذ لو لم يكن كذلك ، لما تعين مراده بالبيان ; لأن البيان كاشف عن المراد بالمجمل ، لا منشئ للمراد ; فلذلك كملت هذا التعريف بقولي : قلت : معين ، أي : المجمل ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى معين .

قوله : " وإلا بطل بالمشترك " ، أي : لو اقتصرنا في تعريف المجمل على ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى ، لبطل بالمشترك نحو القرء للحيض والطهر ، والجون للأسود والأبيض ، والعين للذهب والعضو الباصر ، وغير ذلك ، فإن هذا كله مجمل ، وهو يفهم منه معنى ، لكنه غير معين ; فإنا إذا أطلقنا لفظ القرء ; فهمنا منه أحد الأمرين لا بعينه ، وهو معنى مجمل .

قوله : " وهو إما في المفرد " ، إلى آخره . يعني المجمل إما أن يقع في [ ص: 650 ] اللفظ المفرد ، أو المركب ، والواقع في المفرد ، إما أن يقع في الأسماء ، أو الأفعال ، أو الحروف .

أما في الأسماء ; فكالألفاظ المشتركة ; فإنها من قبيل المجمل ، وهي أخص منه ، إذ كل مشترك مجمل ، وليس كل مجمل مشتركا ، وذلك كالعين المتردد بين محتملاته ، وهي كثيرة ، والقرء المتردد بين الحيض والطهر ، والجون المتردد بين الأسود والأبيض ، والشفق المتردد بين الحمرة والبياض .

ولهذا وقع النزاع في دخول وقت عشاء الآخرة ، هل هو بغيبوبة حمرة الشمس ، وهو مذهب أحمد والشافعي ، أو بغيبوبة البياض الذي هو بعدها ، وهو مذهب أبي حنيفة ، بناء على أن المراد من الشفق المذكور في الأثر ، هو البياض أو الحمرة .

ولا شك أنه لفظ مشترك بينهما لغة ، لكن أكثر السلف ، كابن عمر ، وعبادة ، وشداد بن أوس ، وغيرهم فسروه بالحمرة هاهنا .

وأما في الأفعال ; فنحو : عسعس ، بمعنى أقبل وأدبر .

قال الجوهري : يقال : عسعس الليل : إذا أقبل ظلامه . قال : وقال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى عسعس : أدبر .

قلت : قوله تعالى : ( والليل إذا عسعس ) [ التكوير : 17 ] ، يحتمل الأمرين ، وهو أن الله عز وجل أقسم بقدرته على إقبال الليل بقوله عز وجل : ( والليل إذا عسعس ) ، أي : أقبل ، وعلى إقبال النهار بقوله تعالى :

[ ص: 651 ] ( والصبح إذا تنفس ) [ التكوير : 18 ] ، أو أنه سبحانه وتعالى أقسم بقدرته على إذهاب الليل بقوله عز وجل : ( والليل إذا عسعس ) ، أي : أدبر ، وعلى الإتيان بالنهار بقوله تعالى : ( والصبح إذا تنفس ) ، وذلك لأن الليل والنهار واختلافهما ، من أعجب المخلوقات ، وأدلها على قدرة البارئ وحكمته جل جلاله ، ولذلك كثر ذكرهما في القرآن الكريم ، نحو : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ) [ البقرة : 164 ] ، ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ) [ الحديد : 6 ] ، ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار ) [ القصص : 73 ] ، في آيات كثيرة .

وكذلك " بان " بمعنى ظهر ، ومنه : ( قد تبين الرشد ) [ البقرة : 256 ] ، ( ويبين الله لكم الآيات ) [ النور : 18 ] ، وبان بمعنى غاب واختفى ، ومنه : بانت سعاد ، بان الخليط ، ومنه البين ، وهو الفراق والبعد ، ومنه : ( لقد تقطع بينكم ) [ الأنعام : 94 ] ، وغراب البين ، وأشباه ذلك .

وأما في الحروف ; فنحو " تردد الواو بين العطف والابتداء في نحو " قوله تعالى : ( والراسخون في العلم ) [ آل عمران : 7 ] ، وقد سبق الكلام عليها في المحكم والمتشابه ، مستوفى بحمد الله عز وجل ومنه . وكترددها بين العطف والحال في نحو قوله عز وجل : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) [ الأنفال : 66 ] .

لأنها إن جعلت عاطفة ، لزم أن علم الله بضعفهم حدث الآن ، وبه احتج بعض المعتزلة على حدوث علم البارئ جل جلاله بالمعلومات .

وإن جعلت حالية ، كان تقديره : الآن خفف الله عنكم ، عالما أن فيكم ضعفا ; فلا يلزم منه ما ذكر ، غير أن هذا يضعف ، من جهة أنه يوجب إضمار [ ص: 652 ] " قد " ، أي : الآن خفف الله عنكم وقد علم ; لأن الماضي لا يقع حالا إلا مع قد ظاهرة أو مقدرة ، نحو : ( أو جاءوكم حصرت ) [ النساء : 90 ] ، أي : وقد حصرت صدورهم ، والله تعالى أعلم .

ونحو تردد من بين ابتداء الغاية والتبعيض في آية التيمم ، حيث قال تعالى : ( فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) [ المائدة : 6 ] ; فقال أبو حنيفة رحمه الله : معناها ابتداء الغاية ، أي : اجعلوا ابتداء المسح من الصعيد ، أو ابتدئوا المسح من الصعيد . وقال الإمام أحمد والشافعي رضي الله عنهما : هي للتبعيض ، أي : امسحوا وجوهكم ببعض الصعيد ; فلذلك اشترط عندهما أن يكون لما يتيمم به غبار ، يعلق باليد ، ليتحقق المسح ببعضه ، ولم يشترط ذلك عند أبي حنيفة ; لأن ابتداء المسح من الصعيد : وهو كل ما كان من جنس الأرض ; فقد حصل ; فيخرج به من عهدة النص ، وهو أعم من أن يكون له غبار أو لا .

وكذلك الباء في قوله عز وجل : ( وامسحوا برءوسكم ) [ المائدة : 6 ] تردد بين الإلصاق والتبعيض ، على ما ادعاه الشافعية ، ونقلوه عن الشافعي ; فانبنى عليه الخلاف في وجوب استيعاب الرأس بالمسح ، وأكثر أهل اللغة أنكروا ورود الباء للتبعيض .

والمأخذ الجيد في تبعيض مسح الرأس غير هذا ، وهو من وجهين :

أحدهما : أن الباء استعملت في اللغة تارة بمعنى الإلصاق ، نحو : أمسكت الحبل بيدي ، أي : ألصقتها به ، وتارة للتبعيض ، وإن لم تكن [ ص: 653 ] موضوعة له ، نحو : مسحت برأس اليتيم ، ومسحت يدي بالمنديل ، وأخذت بثوب الرجل ، وبركابه .

ولما استعملت في المعنيين ، بقيت في الآية مترددة بينهما ; فكانت مجملة ; فاقتصر في مسح الرأس على مطلق الاسم ; لأنه المتيقن ، وما زاد مشكوك فيه ; فلا يجب بالشك .

ويرد على هذا المأخذ ، أن الباء حيث استعملت للتبعيض ، كان ذلك مجازا ، لقرائن ظاهرة في الأمثلة التي ذكروها ، والأصل حمل اللفظ على حقيقته ، حتى يقوم دليل المجاز ، كما سبق .

المأخذ الثاني : ما سبق من أن الحكم إذا علق باسم ، هل يكتفي بأول ذلك الاسم ، أو يتناول جميعه ؟ فلما علق المسح بالرأس هنا ، اتجه فيه هذا الخلاف ، والله تعالى أعلم .

وأما المجمل الواقع في اللفظ المركب ; فكقوله عز وجل : ( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) [ البقرة : 237 ] ; فإنه متردد بين الولي والزوج .

قال ابن عطية : قال ابن عباس رضي الله عنهما ، وعلقمة ، وطاوس ، ومجاهد ، وشريح ، والحسن ، وإبراهيم ، والشعبي ، وأبو صالح ، وعكرمة ، والزهري ، ومالك ، وغيرهم : هو الولي ، الذي المرأة في حجره ; فهو الأب في ابنته التي لم تملك أمرها ، والسيد في أمته .

وقالت فرقة من العلماء : هو الزوج . قاله علي بن أبي طالب رضي الله [ ص: 654 ] عنه ، وسعيد بن جبير وكثير من فقهاء الأمصار ، وقاله ابن عباس أيضا ، وشريح رجع إليه .

قلت : الصحيح من مذهب أحمد والشافعي أنه الزوج ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وقال مالك : هو الولي الأب وسيد الأمة . والمختار الراجح في النظر : أنه الولي ، وقد استقصيت أدلته اعتراضا وجوابا في التفسير بحمد الله تعالى ومنه .

- قوله : " وقد يقع من جهة التصريف ، كالمختار والمغتال ، للفعل والمفعول " ، يعني أن الإجمال أو المجمل ، قد يقع في الكلام من جهة الوضع الأصلي كما سبق ، وقد يقع عارضا من جهة التصريف ; وهو العلم الذي يعرف به أحوال أبنية الكلام ، وذلك كالمختار ; فإنه متردد بين من وقع منه الاختيار ، وبين من وقع عليه الاختيار ; فالله سبحانه وتعالى مختار لنبيه عليه الصلاة والسلام ، أي : وقع منه اختياره رسولا ، والنبي صلى الله عليه وسلم ، مختار ، أي : وقع عليه اختيار الله عز وجل .

وكذلك المغتال ; يصلح لمن اغتال غيره ، أي : قتله غيلة ، أي : خفية ، ولمن اغتيل ، أي : قتل كذلك .

وأصل ذلك أن مختار أصله مختير بكسر الياء في الفاعل وفتحها للمفعول ، نحو : مصطفي ومصطفى ، فلما تحركت الياء كسرا وفتحا ، وانفتح ما قبلها ، قلبت ألفا والألف لا تحمل الحركة حتى يتبين الفاعل من المفعول ; فلا جرم وقع اللبس ، وجاء الإجمال . وكذلك الكلام في المغتال .

[ ص: 655 ] - قوله : " وحكمه التوقف على البيان الخارجي " ، أي : وحكم المجمل أن يتوقف فيه على الدليل المبين للمراد به ، خارجا عن لفظه ، كما أن حكم النص والظاهر المبادرة إلى العمل بما ظهر منهما ، ولأن الله تعالى لم يكلفنا العمل بما لا دليل عليه ، والمجمل لا دليل على المراد به ; فلا نكلف بالعمل به . فهذا دليل على أنه لا يلزمنا العمل بالمجمل .

والدليل على أنه لا يجوز لنا ذلك أيضا : هو أن في العمل به تعرضا بالخطأ في حكم الشرع ، والتعرض بالخطأ في حكم الشرع لا يجوز ، وإنما قلنا : إن فيه تعرضا بالخطأ ; لأن اللفظ إذا تردد بين معنيين ; فإما أن يرادا جميعا ، أو لا يراد واحد منهما ، أو يراد أحدهما دون الآخر ; فهذه أربعة أقسام ، يسقط منها الثاني ، وهو أن لا يراد واحد منهما ; لأن ذلك ليس من شأن الحكماء ، أن يتكلموا كلاما لا يقصدون به معنى ، يبقى ثلاثة أقسام ، لا دليل على إرادة واحدة منها .

فإذا أقدمنا على العمل قبل البيان ، احتمل أن نوافق مراد الشرع ; فنصيب حكمه ، واحتمل أن نخالفه ; فنخطئ حكمه ; فتحقق بذلك أن العمل بالمجمل قبل البيان تعرض بالخطأ في حكم الشرع .

وأما أن ذلك لا يجوز ; فلأن حكم الشرع يجب تعظيمه ، والتعرض بالخطأ فيه ينافي تعظيمه ; فيكون ذلك ضربا من الإهمال له ، وقلة المبالاة والاحتفال به ، وذلك لا يجوز .

[ ص: 656 ] ومثال ذلك ، لو قال : إذا غاب الشفق ; فصلوا العشاء الآخرة ، احتمل أن يريد بالشفق الحمرة والبياض جميعا ، وأن يريد الحمرة فقط ، وأن يريد البياض فقط .

فبتقدير أن يريدهما جميعا ; فلو صلينا قبل مغيب البياض ، أخطأنا ، فلما جاء البيان بقوله عليه الصلاة والسلام : " الشفق الحمرة ، فإذا غاب الشفق ; فقد وجب عشاء الآخرة " . علمنا المراد .

وأبو حنيفة لما لم يبلغه هذا الحديث ، أو بلغه ولم يثبت عنده ، قال : الأصل بقاء وقت المغرب ; فمن ادعى خروجه بمجرد غيبوبة الحمرة ; فعليه الدليل ، والأصل بقاء ما كان على ما كان ، ولأن المصلي بعد غيبوبة البياض ممتثل إجماعا ، وقبله مختلف في امتثاله ، والأصل عدم براءة الذمة من امتثال الأمر ; فيستصحب فيه الحال .

[ ص: 657 ] وكذلك قوله عز وجل : ( يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) [ البقرة : 238 ] ، احتمل أن المراد الحيض والأطهار ، وأن العدة تنقضي بأيهما كان ، واحتمل أن المراد الحيض فقط ، أو الأطهار فقط ; فلو أمرناها قبل البيان ببعض هذه الاحتمالات ، ولم يوافق مراد الشرع فيه ، كنا مخطئين ، فلما جاء البيان بقوله عز وجل : ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ) [ الطلاق : 4 ] ، دل على أن المراد بالقرء الحيض ; لأنه في هذه الآية الكريمة جعل الشهور في الآيسة بدلا عن الحيض بقوله عز وجل : ( واللائي يئسن من المحيض ) ، ولم يقل : يئسن من الأطهار . وأكد ذلك " قوله عليه الصلاة والسلام للحائض : اتركي الصلاة أيام أقرائك " [ ص: 658 ] والصلاة إنما تترك في أيام الحيض لا الطهر ، والاستدلال بالآية أقوى من الحديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية