صفحة جزء
[ ص: 663 ] ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة إلا بطهور " " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " . وهو مجمل عند الحنفية ، قيل : لتردده بين اللغوي والشرعي ، وقيل : لأن حمله على نفي الصورة باطل ; فتعين حمله على نفي الحكم ، والأحكام متساوية .

ولنا : أن الموضوعات الشرعية غلبت في كلام الشارع ; فاللغوية بالنسبة إليها مجاز ، وأيضا اشتهر عرفا نفي الشيء لانتفاء فائدته ، نحو : لا علم إلا ما نفع ، ولا بلد إلا بسلطان . فيحمل هنا على نفي الصحة لانتفاء الفائدة ، وكذا الكلام في " لا عمل إلا بنية " .


قوله : " ومنها " ، أي : ومن الأمور التي ادعي الإجمال فيها ، وليست كذلك : قوله عليه الصلاة والسلام : " لا صلاة إلا بطهور ، " " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " . ونحوه " وهو مجمل عند الحنفية " ، وأبي عبد الله [ ص: 664 ] البصري ، والقاضي أبي بكر .

قوله : " قيل : لتردده بين اللغوي والشرعي " ، أي : ثم ، تارة يوجه إجمال ذلك ، بأنه متردد بين معناه اللغوي والشرعي ، كالصلاة بين الدعاء ، والأفعال الشرعية المعروفة ، والصيام بين الإمساك المطلق لغة ، والإمساك الخاص شرعا ; فلا يعلم أيهما المراد .

وتارة يوجه إجماله ، بأن قوله عليه الصلاة والسلام : " لا صلاة إلا بطهور " ; إما أن يحمل على أن المراد نفي صورة الصلاة ، أو نفي حكمها ، والأول باطل ; لأن صورة الصلاة شرعا يمكن إيجادها بغير طهور ، كصلاة المحدث ; فتعين أن المراد نفي حكم الصلاة بغير طهور ، ولكن الأحكام متعددة متساوية ، كالصحة والكمال ، والإجزاء ; فيبقى الكلام مترددا بين : لا تصح الصلاة ، أو لا تكمل ، أو لا تجزئ ، أو لا تقبل بغير طهور ، ولا يعلم أيها المراد ; فيجيء الإجمال .

قوله : " ولنا " ، يعني على نفي الإجمال في هذا وجهان :

أحدهما : الموضوعات ، يعني المصطلحات ، الشرعية غلبت في كلام الشارع ، لما سبق في إثبات الحقائق الشرعية ، من أن الشارع شأنه بيان الأحكام ، لا بيان اللغات ، وحينئذ صارت الموضوعات اللغوية بالنسبة إلى الشرعية في كلام الشارع مجازا كما سبق ، فإذا دار اللفظ بين الحقيقة [ ص: 665 ] والمجاز ; فالحقيقة أولى به ; فإذن حمل قوله عليه الصلاة والسلام : لا صلاة ، ولا صيام ونحوه يجب حمله على حقيقته الشرعية ، وليس مترددا بين معناه اللغوي والشرعي ; فلا إجمال فيه ، وهذا جواب عن توجه الإجمال أولا .

الوجه الثاني : أنه اشتهر في العرف نفي الشيء لانتفاء فائدته ، نحو قولهم : لا علم إلا ما نفع ، ولا بلد إلا بسلطان ، وإن كان العلم غير النافع علما بالحقيقة ، والبلد الذي لا سلطان فيه بلدا بالحقيقة ; فيحمل الكلام هنا على نفي الصحة ، لانتفاء الفائدة ; لأن الصلاة بغير طهور ، والصيام بغير تبييت نية لا يفيدان ; فانتفت صحتهما ، لانتفاء فائدتهما ، إذ قد سبق أن الصحة عبارة عن ترتيب الفوائد ، والآثار المقصودة من الفعل ، وهذا جواب عن توجيه الإجمال ثانيا .

قولهم : " حمله على نفي الصورة باطل " .

قلنا : نعم .

قولهم : " تعين حمله على نفي الحكم ، والأحكام متساوية " .

قلنا : لا نسلم تساويها ، بل حمله على نفي الصحة أولى ، عرفا ولغة ، لدخول حرف النفي على ذات الفعل ، فإنه إذا تعذر نفي صورته ، كان حمله على نفي صحته أقرب إلى حمله على نفي صورته ; فكان أولى .

وقد قرر الدليل في هذا الأصل على وجه آخر ، وهو : أن الشارع ، إن كان له في هذه الأسماء عرف ، وجب تنزيل لفظه على نفي الحقيقة في [ ص: 666 ] عرفه ; لأن الأصل والغالب مخاطبته لنا بعرفه ; فلا إجمال ، وإن لم يكن له فيها عرف ; فلا إجمال أيضا حملا للفظ على المتبادر منه عرفا ، وهو نفي الفائدة والجدوى . ويلزم من ذلك نفي الصحة ، إذ صحيح ، لا فائدة ولا جدوى له غير معقول ، وإن لم يكن بد من الإضمار ، أضمرنا نفي الصحة والكمال جميعا ، إذ ما يمكن إضماره غير خارج عنهما بالإجماع ، وغاية ما في ذلك أنه تكثير للإضمار ، وهو خلاف الأصل ، غير أنا نقول : تكثير الإضمار مع حصول البيان أولى من الإجمال .

قوله : " وكذا الكلام في " قوله عليه الصلاة والسلام : " لا عمل إلا بنية " ، أي : ليس بمجمل ، إذ المراد نفي فائدته وجدواه بدون النية ; فتنتفي صحته لما مر ، ومن ادعى إجماله ، قال : صورة العمل بدون النية لا تنتفي ; فوجب أن يكون المراد نفي حكمه ، وأحكامه متعددة متساوية ، كالصحة والكمال ; فجاء الإجمال .

والجواب : لا نسلم تساوي أحكامه ، بل نفي الصحة أظهر عرفا ولغة كما سبق . سلمنا تساويها لكن المراد نفي جميعها ، وتكثير الإضمار أولى من الإجمال .

[ ص: 667 ] تنبيه : النزاع في قوله عليه السلام : " إنما الأعمال بالنيات " . من هذا الباب ; لأن الأعمال مبتدأ ، وخبره محذوف ; فاختلفوا : هل هو الصحة ؟ فيكون التقدير : إنما الأعمال صحيحة ، أو الكمال ؟ فيكون تقديره : إنما الأعمال كاملة ، والأظهر إضمار الصحة لما سبق ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية