صفحة جزء
[ ص: 714 ] الثالث : فهم الحكم في غير محل النطق بطريق الأولى ، وهو مفهوم الموافقة كفهم تحريم الضرب من تحريم التأفيف بقوله تعالى : فلا تقل لهما أف وشرطه فهم المعنى في محل النطق كالتعظيم في الآية ، وإلا فيجوز أن يقول السلطان عن منازع له : اقتلوا هذا ، ولا تصفعوه ، وهو قياس عند أبي الحسن الخرزي وبعض الشافعية خلافا لبعضهم ، والقاضي ، والحنفية .

لنا : إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به في الحكم لاشتراكهما في المقتضى ، وهو القياس ، كقياس الجوع ونحوه في المنع من الحكم على الغضب لمنعهما كمال الفكرة . والزيت على السمن في التنجيس بجامع السراية .

قالوا : قاطع يسبق إلى الفهم بلا تأمل .

قلنا : قياس جلي ، ونحوه ردت شهادة الفاسق ; فالكافر أولى ، إذ الكفر فسق وزيادة ، وقتل الخطأ موجب للكفارة ; فالعمد أولى ، لكنه ليس بقاطع ، لجواز تحري الكافر العدالة في دينه ، بخلاف الفاسق ، واختصاص العمد بمسقط مناسب كالغموس .

وقول الشافعي : إذا جاز السلم مؤجلا ; فحالا أجوز ، لبعده من الغرر .

رد بأن الغرر مانع احتمل في المؤجل ، والحكم لا يثبت لانتفاء مانعه ، بل لوجود مقتضيه ، وهو الارتفاق بالأجل ، وقد انتفى في الحال .


قوله : " الثالث " ، أي : الضرب الثالث من فحوى الخطاب : " فهم [ ص: 715 ] الحكم في غير محل النطق بطريق الأولى ، وهو مفهوم الموافقة ، كفهم تحريم الضرب من تحريم التأفيف بقوله تعالى : فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما [ الإسراء : 23 ] " ، فإن منطوق هذا تحريم التأفيف والانتهار ، ومفهومه بطريق التنبيه والفحوى تحريم الضرب وغيره من الإيلامات الزائدة على التأفيف والانتهار بطريق أولى ، وسمي هذا مفهوم الموافقة ; لأنه يوافق المنطوق في الحكم ، وإن زاد عليه في التأكيد ، بخلاف مفهوم المخالفة ; فإنه يخالف حكم المنطوق كفهم عدم الزكاة في المعلوفة من قوله عليه الصلاة والسلام : في سائمة الغنم الزكاة .

ومن أمثلة مفهوم الموافقة قوله تعالى : ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك [ آل عمران : 75 ] ; فتأديته للدينار بطريق أولى ، وهو مفهوم منه ، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك [ آل عمران : 75 ] ، يفهم منه عدم تأديته للقنطار بطريق أولى .

وكذا قوله عز وجل : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [ الزلزلة : 7 ] ، يفهم منه بطريق أولى أنه يرى مثقال الجبل من الخير .

ومما يقرب من ذلك : قاعدة نفي الأعم ، وإثبات الأخص ; فمتى ورد النفي على الأعم ، اقتضى نفي الأخص بطريق أولى ، وإن ورد الإثبات على الأخص ، اقتضى إثبات الأعم بطريق أولى ، وهو من باب إثبات الملزوم ، [ ص: 716 ] ونفي اللازم .

قوله : " وشرطه " ، أي : شرط مفهوم الموافقة " فهم المعنى في محل النطق ، كالتعظيم في الآية " ، يعني قوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ الإسراء : 23 ] ; فإنا فهمنا أن المعنى المقتضي لهذا النهي هو تعظيم الوالدين ; فلذلك فهمنا تحريم الضرب بطريق أولى ، حتى لو لم نفهم من ذلك تعظيما ، لما فهمنا تحريم الضرب أصلا ، لكنه لما نفى التأفيف للأعم ، دل على نفي الضرب للأخص بطريق أولى .

قوله : " وإلا فيجوز " ، إلى آخره ، أي : وإن لم يفهم المعنى في محل النطق ، لم يحصل مفهوم الموافقة ، إذ يجوز أن يحضر بين يدي السلطان شار عليه ، أو منازع له في ملكه ; فيقول : اقتلوا هذا ، ولا تصفعوه ، ولا يكون ذلك متنافيا ، ولا يفهم من نفي الصفع نفي القتل ; لأنه يأمر بقتله ، ليكتفي شره ، وينهى عن صفعه مراعاة للجامع الجنسي بينهما ، وهو حرمة الملك ، ومنصب الرياسة ، كما في سيرة الإسكندر لما رجع من المغرب ، وقد استولى عليه ، واستخلف فيه ، صار ملك الشرق له شوكة قوية : فأرسل إليه : إنا إن اقتتلنا بالعساكر ; فني هذا العالم ، وليس من الحكمة ، ولكن ابرز لي ، وأبرز لك ; فأينا قتل صاحبه ، استقل في الأرض ; فبارزه ; فقتله الإسكندر ، ثم أمر بجهازه ، ونزل ; فمشى بين يدي الجنازة ، [ ص: 717 ] فسئل عن ذلك ; فقال : قتلته لخرقه ، واحترمته ميتا للجامع بيني وبينه .

قوله : " وهو " ، يعني مفهوم الموافقة " قياس عند أبي الحسن الخرزي " ، من أصحابنا ، " وبعض الشافعية ، خلافا لبعضهم " ، يعني بعض الشافعية " والقاضي والحنفية " ، في أنه ليس بقياس ، بل مستند فهمه الدلالة اللفظية ، لا القياسية .

قوله : " لنا " ، أي : على أنه قياس أنه " إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به في الحكم لاشتراكهما في المقتضى ، وهو " حقيقة " القياس " كإلحاق النبيذ بالخمر في التحريم ، لاشتراكهما في الإسكار ، وإلحاق الذرة في تحريم التفاضل بالحنطة ، لاشتراكهما في الكيل ، و " كقياس الجوع ونحوه " من موانع كمال الفكر ، في منع الحاكم من الحكم على الغضب ، لمنعهما من كمال الفكر المستفاد من قوله عليه السلام : لا يقضي القاضي وهو غضبان . وكقياس " الزيت على السمن في التنجيس " ، بوقوع النجاسة فيه ، " بجامع السراية " ، على ما فهم من قوله عليه الصلاة والسلام في سمن ماتت فيه فأرة : إن كان مائعا ; فلا تقربوه ، وإن كان جامدا ; فألقوها وما حولها ، وكلوه .

[ ص: 718 ] فكذلك ههنا أركان القياس الأربعة موجودة فيه :

الأصل : وهو تحريم التأفيف .

والفرع : وهو تحريم الضرب .

والعلة : وهو تعظيم الوالدين .

والحكم : وهو التحريم .

فليكن قياسا ، لاجتماع أركان القياس فيه .

قوله : " قالوا " ، إلى آخره ، يعني المانعين ، لكونه قياسا ، احتجوا على ذلك بأن قالوا : مفهوم الموافقة ، " قاطع يسبق إلى الفهم بلا تأمل " ; فلا يكون قياسا ، إذ لابد في القياس من التأمل والنظر ، في تحقيق أركانه ، ولا كذلك [ ص: 719 ] هذا ، فإن السامع بمجرد سماعه : فلا تقل لهما أف [ الإسراء : 23 ] ، يسبق إلى فهمه النهي عن الضرب بلا تأمل .

قوله : " قلنا : قياس جلي " ، أي : لا يلزم من كونه قاطعا ، يسبق إلى الفهم بلا تأمل ، أن لا يكون قياسا ، بل هو قياس جلي ، والقياس الجلي شأنه ذلك ، وما استدللتم به مبني على إحدى مقدمتين ممنوعتين ، وهو أن تقولوا : قاطع يسبق إلى الفهم بلا تأمل ، وكل قاطع يسبق بلا تأمل لا يكون قياسا ، وهذه ممنوعة . أو تقولوا : والقياس لابد فيه من تأمل ; فهو ممنوع أيضا .

وسيأتي إن شاء الله تعالى أن حكم الفرع ; إما أضعف من حكم الأصل ، أو أقوى منه ، أو مساو له .

ورجح الآمدي أن هذا المفهوم ليس بقياس ، بل مستنده إلى فحوى الدلالة اللفظية ، لوجهين :

أحدهما : أن العرب وضعت هذه الألفاظ للمبالغة في تأكيد الحكم في محل السكوت ; لأنه أدل من التصريح بالحكم فيه ، فإن قولهم : فلان يأسف بشم رائحة مطبخه ، أبلغ عندهم من قوله : فلان لا يقري الضيف . وقولهم : فرسك لا يلحق غبار فرسي ، أبلغ من قولهم : فرسك لا يسبق ، أو لا [ ص: 720 ] يلحق فرسي .

الوجه الثاني : أن شرط هذا المفهوم فهم المعنى في محل النطق ، وكونه أشد مناسبة للحكم في محل السكوت ، ولو كان قياسا ، لما اشترط هذا الشرط الأخير فيه .

قلت : دليل المسألة متجاذب ، وكأن ما قاله الآمدي أرجح .

قوله : " ونحوه " ، أي : ونحو مفهوم الموافقة المذكور قولهم : " ردت شهادة الفاسق ; فالكافر أولى " ، برد الشهادة ; لأن " الكفر فسق وزيادة ، وقتل الخطأ موجب للكفارة فالعمد أولى " ، بوجوبها ، لاختصاصه بالإثم ، ووجوب القود ، فإن هذا كقولنا : إذا حرم التأفيف ; فالضرب أولى .

قوله : " لكنه ليس بقاطع " ، إلى آخره ، أي : إن مفهوم الموافقة ينقسم إلى قاطع ، كآية التأفيف وما ذكر معها من نظائرها ، وإلى ظني غير قاطع ، كرد شهادة الكافر ، ووجوب الكفارة في العمد ; لأنه واقع في محل الاجتهاد ، إذ يجوز أن يكون الكافر عدلا في دينه ; فيتحرى الصدق والأمانة ، ولهذا قلنا : إن الكافر العدل في دينه يلي مال ولده في أحد الوجهين بخلاف المسلم الفاسق ، فإن مستند قبول شهادته العدالة ، وهي مفقودة ; فهو في مظنة الكذب ، إذ لا وازع له عنه كالرواية وأولى ، وكذلك قتل العمد يجوز أن يختص بمسقط للكفارة مناسب لإسقاطها ، كما قلنا في يمين الغموس : [ ص: 721 ] لا كفارة فيها ; لأنها أعظم من أن تكفر إلا بالنار ، ولذلك سميت غموسا ; لأنها تغمس صاحبها في النار ، بخلاف بقية الأيمان ، فإن الحالف لم يتعمد الكذب فيها ، كذلك يقال في قتل العمد : هو أعظم من أن يكفر ، لقوله سبحانه وتعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا إلى قوله : عظيما [ النساء : 93 ] ، ولهذا حكم ابن عباس رضي الله عنهما بخلود قاتل العمد في النار ، وأنها محكمة لم تنسخ ; لأن الوعيد تكاثف فيها ، بخلاف قتل الخطأ ، فإن حكمه مرفوع كما سبق ، وليس على فاعله لائمة ، إلا من جهة أنه لم يتحرز عن السبب المفضي إلى القتل ; فوجبت الكفارة رفعا لتلك اللائمة ; لأنها لطيفة يسيرة ، تقوى الكفارة على رفعها .

قوله : " وقول الشافعي " ، إلى آخره . هذا مبتدأ ، خبره " رد " ، أي : إن [ ص: 722 ] هذا المفهوم إما قاطع كآية التأفيف ، أو ظني ، ثم الظني : إما صحيح واقع في محل الاجتهاد ، كرد الشهادة ، ووجوب الكفارة كما ذكر ، أو فاسد كقولهم : " إذا جاز السلم مؤجلا " ; فهو " حالا أجوز ; لبعده من الغرر " ، إذ المؤجل على غرر ، هل يحصل أو لا يحصل ؟ والحال متحقق الحصول في الحال ; فهو أولى بالصحة ، لكن هذا مردود بأن الغرر في العقود مانع من الصحة ، لا مقتض لها ، والحكم إنما يثبت لوجود مقتضيه ومصححه ، لا لانتفاء مانعه ، إذ قد سبق أن المانع يلزم من وجوده العدم ، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم ، والمقتضي لصحة السلم هو الارتفاق بالأجل ، على ما قرر في كتب الفروع ، كالأجل في الكتابة ، وهو منتف في الحال ، والغرر مانع له ، لكنه احتمل في المؤجل ، رخصة وتحقيقا للمقتضى ، وهو الارتفاق ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية